الأحد 22 / صفر / 1447 - 17 / أغسطس 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِىٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَٰنٍ أَتَىٰهُمْ ۙ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِ ۚ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال: وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ أي: يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع.

هنا قوله: إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني ما في صدورهم إلا كبر، يعني هذا تفسير لهذه المجادلة التي تكون بهذه المثابة، بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، فهذا في كل مجادل بغير حجة ولا برهان، إنما يريد إبطال الحق أو إظهار الباطل، أو يريد المجادلة للمجادلة، فكل هؤلاء يصدق عليهم هذا الحكم العام إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فكل من لا يتبع الحق بعد ظهوره وتبيُّن دلائله فإنه يكون بهذا الوصف "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"، فهنا مَّا هُم بِبَالِغِيهِ قال: وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع...، إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ كأنه يقول: ما هم ببالغيه يعني مقتضى هذا الكبر وهو إبطال الحق، فإن هؤلاء الذين يتكبرون ويتعاظمون ويتعالون يريدون إبطال الحق، ولهذا ذكر المعلمي - رحمه الله - في كتابه "التنكيل" الجزء الذي أفرد بالقائد إلى تصحيح العقائد، وهو كتاب في غاية النفاسة والنفع، ذكر من أسباب رد الحق أشياء منها الحسد، وذكر حسد اليهود حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم [سورة البقرة:109]، وذكر منها الكبر، أن يكون هذا الحق جاء على يد من يرى أنه دونه، أو أنه يساويه، أو ينافسه أو نحو ذلك فيأنف ويتكبر، أو يأتي ممن يكرهه فلا يريد أن يظهر الحق على يده فيكون ذلك شرفًا له، أو أنه اعتراف ضمني بفضله عليه، فيأبى ويرد الحق، هذا سواء في القضايا الكلية يعني في رد الدين برمته مثلًا، أو رد السنة والاتباع كما يفعل بعض أهل البدع، أو كان ذلك في المسائل الجزئية، يرد الحق؛ لأنه جاء ممن يعتقد أنه دونه أو نحو ذلك، فهذا يكون بسبب الحسد أو الكبر، أو بسبب أمور متوهمة كالذي يعتقد أن هذا الاعتراف يزري على نفسه، وعلى قومه وعلى أتباعه، أو أن ذلك لأمور أخرى كتضييع الأعمار فهو في عمر مديد يقرر أمرًا ثم بعد ذلك يتخلى عنه وينقضه في أصحاب الباطل لاسيما الذين لهم أتباع، فقد يرفضه بسبب ذهاب هؤلاء الأتباع، وهكذا منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، فيرد ذلك؛ لأنه يتوقع أن تتلاشى هذه الشهرة وتذهب هذه المعيشة وهذه الأموال التي يأخذها، ولذلك فإن رجوع هؤلاء أصعب من غيرهم، وإنما يكون عادة الذين يقبلون ويرجعون هم الذين يتواضعون؛ ولذلك كان أكثر أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم من الضعفاء، أما العظماء والملأ فكانوا أعداء الرسل؛ لأنهم في صدورهم كبر، قال هنا: مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني على كلام ابن كثير ما هم ببالغي مقتضى هذا الكبر، وبعضهم يقول: مَّا هُم بِبَالِغِيهِ أي: ببالغي الكبر؛ لأن شأنهم الصغار، والمتكبرون يكونون كأمثال الذرّ يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم، وبعضهم كمجاهد يفسر ذلك بالعظمة في صدورهم، كبر أي تعاظم، كقريش في تعاظمها ونحو ذلك.

مَّا هُم بِبَالِغِيهِ والمقصود أن هؤلاء الذين تكبروا أو حسدوا النبي ﷺ يقول ابن جرير: على أمر ليسوا بمدركيه وهو النبوة، حسدوه على النبوة، أن اصطفاه الله تعالى، لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [سورة الفرقان:41] يقولون ذلك على سبيل الاحتقار والازدراء، فابن جرير - رحمه الله - يقول: هؤلاء الذين في صدورهم هذا الكبر والحسد يحسدونه على أمر ما هم ببالغيه وهو النبوة التي شرفه الله - تبارك وتعالى - بها، فهم ليسوا بمدركين لذلك ولا حاصلين عليه؛ لأن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس ذلك بالأمر الذي يدرك بالأماني.

 قال: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، أي: من حال مثل هؤلاء إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان.