الجمعة 28 / جمادى الآخرة / 1447 - 19 / ديسمبر 2025
وَقِهِمُ ٱلسَّيِّـَٔاتِ ۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُۥ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ أي: فعْلها، أو وبالها ممن وقعت منه.

يعني فعل السيئات أو وبال السيئات، وبين الأمرين ملازمة؛ فإذا وقاهم السيئات وقاهم مغبة السيئات وما ينشأ ويتأثر وينتج عنها، وكذلك وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ يعني عقوبات السيئات أو سوء عاقبة السيئات التي أتوها قبل توبتهم كما يقول ابن جرير - رحمه الله -؛ لأن من تاب تاب الله عليه، لكن قبول التوبة إنما يكون بمحض إرادة الله - تبارك وتعالى -، ويكون تفضلًا منه على عباده، فهنا يقول: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إلى أن قال: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ يعني عاقبة السيئة، والسيئة قيل لها ذلك؛ لأنها تسوء صاحبها حينما يرى ذلك في صحيفة أعماله، حينما يرى عواقبها فإنه يستاء من ذلك، فيكون المعنى وقِهِم سوء عاقبة السيئات التي كانوا يعملونها، وعلى المعنى الأول أنها السيئات وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ يعني فلا يواقعونها، لكن قوله: وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يشير إلى الآخرة يوم الجزاء، فيكون قهم السيئات يعني قهم شؤمها، ومغبتها وعاقبتها وجزاءها.

قال: وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة فقد رحمته، أي لطفت به، ونجيته من العقوبة، وذلك هو الفوز العظيم.

هناك كلام لابن القيم حول هذه الآية فيه معانٍ بديعة وجيدة، حينما يقف الإنسان مع هذه المعاني يعرف ضعفه وعجزه وقصوره في الفهم والعلم، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قول ربنا: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [سورة غافر:9]: "فهذا يتضمن طلبَ وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها، فإنّه سبحانه متى وقاهم العملَ السيّئ وقاهم جزاءه السيّئ"[1].

جمع بين المعنيين: يقيهم المواقعة للسيئات، وكذلك جزاء السيئات.

وقال - رحمه الله -: "وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أظهرُ في عقوبات الأعمال المطلوبِ وقايتها يومئذ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَأَلُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَهَذَا هُوَ وِقَايَةُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَأَلُوا وِقَايَتَهَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ"[2].

الآن مَن يقول: إنها الأعمال يقول: قهم عذاب الجحيم، هذه مغبة السيئات وعقوبة السيئات، فكيف يفسر وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ يعني عقوبات السيئات؟ قهم عذاب الجحيم مرة ثانية؟ فيكون تكرارًا.

وقال - رحمه الله -: "يَكُونُ الَّذِي سَأَلَهُ الْمَلَائِكَةُ نَظِيرَ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ وِقَايَةُ شُرُورِ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهِيَ سَيِّئَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا.

قِيلَ: وِقَايَةُ السَّيِّئَاتِ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: وِقَايَةُ فِعْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ فَلَا تَصْدُرُ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: وِقَايَةُ جَزَائِهَا بِالْمَغْفِرَةِ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ سُؤَالَ الْأَمْرَيْنِ، وَالظَّرْفُ تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.

وَتَأَمَّلْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَدْحِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفَارِهِمْ تَوَسُّلَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ وَأَسْبَابِهَا وَضَعْفِهِمْ عَنِ الْعِصْمَةِ، وَاسْتِيلَاءِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَوَاهُمْ وَطِبَاعِهِمْ وَمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَعِلْمَهُ بِهِمْ إِذْ أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَعِلْمَهُ السَّابِقَ بِأَنَّهُمْ لَابُدَّ أَنْ يَعْصُوهُ"[3].

فكل هذا في ذكر العلم.

وقال - رحمه الله -: "وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ.

وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلَكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحِمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، فَتَابُوا مِمَّا يَكْرَهُ، وَاتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي يُحِبُّهَا، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَأَنْ يُدْخِلَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَإِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِهَا بِأَسْبَابٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا: دُعَاءُ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي مِنْهَا أَنْ وَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ يَدْعُونَ لَهُمْ بِهَا.

ثُمَّ أَخْبَرَ – سُبْحَانَهُ - عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة غافر:8].

أَيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ وَغَايَتُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَكَمَالِ عِلْمِكَ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَالْحِكْمَةَ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ يَقْضِي - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَا شَاءَ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، فَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَصْدَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ"[4].

  1. الداء والدواء، لابن القيم (269).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (269-270).
  4. المصدر السابق (270-271).