يعني هنا: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يحتمل أن يكون المراد خلق لكم من جنسكم، كما يقول ابن كثير، فالزوجة من جنس الآدميين، وهذه قضية معلومة لا إشكال فيها، إلا عند من أعمى الله بصائرهم، يعني في فرنسا يعقد اجتماع قبل أكثر من قرن، يناقشون فيه: المرأة هل هي إنسان أو ليست بإنسان؟ يعني هل هي من جنس الآدميين أو ليست من جنس الآدميين؟
ورجحوا في النهاية: أنها ليست من جنس بني آدم.
فهنا: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ يعني من جنسكم.
ويحتمل أن يكون المراد: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ يعني من حواء، خلقها الله من آدم ، من ضلع: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ فيكون المقصود بذلك خلق الله حواء من ضلع آدم، فهي جزء منه.
ولا منافاة - والله أعلم - بين القولين جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ فإن النساء من جنس بني آدم، وهي مخلوقة منه، ولهذا لو تأملت عبارة ابن جرير - رحمه الله - تجد أنه جمع بين القولين: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يعني من جنسكم، وقد خلق حواء من ضلع آدم ، هذان قولان مشهوران.
وهناك قول ثالث قال به مجاهد: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يعني نسلاً بعد نسل، لكن بمعنى أن ذلك لا يختص بآدم وحواء.
وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا فسر بهذا وهذا قول مشهور: وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يعني خلق لكم الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام.
والقول الآخر: وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يعني خلق لكم من الأنعام أصنافًا من الذكور والإناث، من يقول: هي الثمانية، المقصود بها الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، هذا قول الجمهور، واختاره ابن كثير، وقبله ابن جرير، وذهب إليه الشنقيطي، وغيره.
لكن القول الآخر: وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا أي: خلق لها من جنسها أزواجًا، كما خلق لكم من جنسكم أزواجًا خلق للأنعام من جنسها أزواجًا.
والقول الآخر: خلق لكم من جنسكم أزواجًا، وخلق لكم هذه الأنعام، أصنافًا من الأنعام.
أي: وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا إما من جنسها خلق لها أزواجًا كما خلق لكم أزواجًا، أو خلق لكم من أنفسكم أزواجًا، وخلق لكم أصنافًا من الأنعام تأكلونها، وتنتفعون بها.
قوله: يَذْرَؤُكُمْ بعض أهل العلم فسره بالبث، يعني يبثكم فيه: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني يبثكم فيه الذرء باعتبار البث، أو يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني يخلقكم وينشئوكم فيه، يعني فيما جعل لكم من أزواجكم، وابن جرير - رحمه الله - يذكر هذا المعنى، ويضيف إليه: ويعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام.
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ وتأملهنا ذكر الأمرين، ابن جرير: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ومع أن الضمير مفرد، بعد ذكر هذين الأمرين، لكنه على طريقة العرب أنهم قد يذكرون شيئين، فيعود الضمير لواحد منهما، لمعنى، لسبب يعني، فهنا: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني كما قال الشاعر:
| فيها خطوطٌ من سواد وبَلَقْ | كأنه في الجلدِ توليعُ البَهَقْ |
كأنه: يعني كأن المذكور.
ما قال: كأنهما في الجلد توليع البهق.
والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة في القرآن، وفي كلام العرب.
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ الضمير هنا في يَذْرَؤُكُمْ للمخاطبين على قول ابن جرير: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ فيما خلق لكم من الأزواج وما أوجد لكم وخلق من الأنعام، فالله - تبارك وتعالى - يُقِيتكم فيها، ويعيّشكم في ذلك.
وعلى القول الآخر: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني فيما خلق لكم من الأزواج، وكذلك الأنعام، فإن الله يذرؤها ويبثها ويخلقها وتتناسل عن طريق هذه السنّة التي جعلها الله ، خلق لها من أنفسها أيضًا أزواجًا، فيحصل بسبب ذلك التناسل: يَذْرَؤُكُمْ يبثكم فيه، فتتناسل الأنعام، كذلك يتناسل الناس، لكن هنا: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ما قال: يذرؤها، فإن مثل هذا التركيب: يَذْرَؤُكُمْ هنا خاطب فيه العقلاء من باب أنهم الأشرف، أنهم المقصود بالخطاب، أن الخطاب موجه لهم، فما قال: يذرؤها فيه، وإنما قال: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ والواقع أنه يذرؤكم ويذرؤها أيضًا بهذه السنّة التي جعلها الله - تبارك وتعالى - في هؤلاء الخلائق.
فيكون هذا غير قول ابن جرير، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ويذرأ أيضًا الأنعام.
وعلى قول ابن جرير: يذرؤكم في هذا الخلق، في هذا التناسل، خلق لكم من أنفسكم، وفي الأنعام أيضًا، حيث جعلها سببًا، أو جعلها لكم معايش، أو جعل لكم فيها معايش، ومنها تأكلون.
والمعنى الثاني: يذرؤكم ويذرؤها، وهذا الذي اختاره الشنقيطي - رحمه الله - يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني في هذا الجعل المذكور، المشار إليه، فيرجع إلى المذكورين، يعني من الذكور والإناث يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني فيهما، يذرؤكم فيهما.
وبعضهم يقول: إن الضمير في قوله: فِيهِ يرجع إلى التدبير: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ هذا التدبير الذي دبر به شأن الخلائق، وصرفها هذا التصريف .
وبعضهم فسر الذرء بالتكثير، وهذا لا ينافي ما سبق: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني يكثركم فيه، فهذا معنى يبثكم، فيحصل التناسل والتوالد، ويبقى نسلهم ويمتد.
وهناك أقوال أخرى لا تخلو من بعد، بعضهم يقول: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني الزوج.
وبعضهم يقول: جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ بحيث هذه الزوجة تكون محلاً، يعني هي مزدرع للرجل.
ولهذا قال بعضهم: يرجع الضمير في قوله: فِيهِ إلى البطن، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي: في البطن، لكن هذا لا يخلو من بعد، وهكذا قول من قال: الرحم، والله تعالى أعلم.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذه الآية إذا قرأناها لا يشكل معناها إطلاقًا، يعني كلنا نفهمها، ولكن كما ذكرت في بعض المناسبات: أن شق الشعرة والشعيرة هو الذي يولد الإشكال، ولذلك نجد في كثير من كتب الاعتقاد، وكذلك في كلام المفسرين كلامًا طويلاً في هذا الموضع، أعني قوله - تبارك وتعالى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فدخول "الكاف" على "مثل"، فإنهم يوردون فيه سؤالات: "الكاف" هذه هل زائدة أو "مثل" زائدة؟
فهنا نفى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ نفى المثل عن مثله، وهل نفي المثل عن المثل نفي عنه؟.
ثم أيضًا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هل الله مثلٌ أصلاً حتى ينفى عنه المثل؟
فيوردون مثل هذه السؤالات، مع أنها لأول وهلة حينما يقرأ الإنسان الآية لا يشكل عليه المعنى بحال من الأحوال، فبعضهم يقول: إن ذكر المثل هنا من باب المبالغة، نفي المثل من باب المبالغة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيكون معناه: أنه ليس كالله - تبارك وتعالى - شيء، لا يماثله شيء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فنفى المثيل، أو الشبيه عن المثل يقولون: من باب المبالغة.
وبعضهم يقول: إن "الكاف" زائدة لتقوية الكلام، يعني ليس مثل الله شيء.
وبعضهم يقول: إن "مثل" هي الزائدة، ولا يليق إطلاق الزيادة في شيء من كلام الله - تبارك وتعالى -، ولكنهم يقصدون الزائدة إعرابًا، ولهذا بعضهم يسميها: صلة، من باب التأدب في العبارة، وإلا فالقرآن ليس فيه حشو، كما هو معلوم.
ولعل - والله تبارك وتعالى أعلم - ذلك على طريقة العرب، أنها تقيم المثل مقام النفس، ولا يقال: فيه شيء زائد، وإنما العرب تقيم المثل مقام النفس، تقول: مثلي لا يقال له كذا، تقصد: أنا لا يقال لي كذا، مثلك لا ينبغي أن يقول كذا، مثلك لا ينبغي أن يفعل كذا، ولست تقصد أنه من كان مثيلاً له، وإنما تقصد مخاطبته هو مباشرة، وهو يفهم هذا عنك، فهذا من أحسن ما قيل - والله تعالى أعلم -، وهو الذي ذهب إليه ابن قتيبة - رحمه الله -، أن هذا على طريقة العرب، تقيم المثل مقام النفس.
| وقتْلاكَ كمثلِ جذوعِ النخل | ....... |
كمثل جذوع النخل يعني مثل جذوع النخل.
وهكذا في البيت المشهور:
| ليس كمثلِ الفتى زُهير | ........ |
يعني ليس كزهير، أو ليس مثل زهير، وغير ذلك من الشواهد.
وكما:
| ......... | ما إنْ كمثلِهم في الناس مِن أحدٍ |
يعني ما مثلهم في الناس.
هذه طريقة العرب ولا داعي لتشقيق ذلك، وتوليد الإشكالات منه.