شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى:13-14].
يقول تعالى لهذه الأمة: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، وآخرهم وهو محمد ﷺ، ثم ذكر مَن بين ذلك من أولي العزم، وهم: إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم - عليهم السلام -.
وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة، كما اشتملت آية "الأحزاب" عليهم، في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الآية [الأحزاب:7].
مضى الكلام على هذا في أكثر من مناسبة من أن أولي العزم: أن الكثيرين من أهل العلم يربطون الآيتين هذه وآية الأحزاب مع قوله - تبارك وتعالى -: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] ويقولون: أولوا العزم: خمسة.
وسبق أن هذا الوجه في الارتباط لا يوجد دليل واضح وصريح عليه، فالله أمر نبيه ﷺ بالصبر، كما صبر أولوا العزم - عليهم الصلاة والسلام - ولم يذكرهم هناك.
وهذه الآيات ذكر الله - تبارك وتعالى - هنا أنه شرع لنا: مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13] إلى آخره.
وهكذا في آية الأحزاب في أخذ الميثاق: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] فهذا في أخذ الميثاق عليهم، فليس في الآيتين أن هؤلاء هم أولو العزم - عليهم الصلاة والسلام -.
ولهذا لو قيل: إن أولي العزم يعني أصحاب العزائم العظيمة، والصبر الكبير في طاعة الله ، والبلاغ، وتحمل الأذى، ومن ثم فإن هؤلاء الخمسة هم من أعظمهم وأفضلهم، ولكن ذلك لا يختص بهم، فبعض أهل العلم يقول: كل الرسل من أولي العزم، وإن كانوا يتفاوتون.
وبعضهم يذكر مجموعة من الرسل أكثر من الخمسة.
وكثير من أهل العلم يخصه بالخمسة.
ولا أعلم دليلاً على التخصيص بالخمسة، وإنما يربطون بين هذه الآيات بهذه الطريقة التي ذكرناها، وليس فيها شيء صريح في هذا.
والمقصود بقوله: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى:13] المقصود به أصول الدين، وشرائع الدين العظام، يعني أصول هذه الشرائع موجودة في ما بعث الله به رسله - عليهم الصلاة والسلام -: التوحيد، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، الصيام، الحج، هذه الأركان الخمسة موجودة عندهم في شرائعهم، وكذلك أيضًا أصول الأخلاق، وما أشبه ذلك، أما تفاريع الشريعة فإنها تختلف: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وفي الحديث: نحن معشر الأنبياء أولاد علّات، ديننا واحد[1] أي: القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم؛ كقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]؛ ولهذا قال هاهنا: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: وصى الله جميع الأنبياء - عليهم السلام - بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
هذه من المحكمات، يعني: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] لكن هذا الاعتصام بماذا؟
بحبل الله، الاعتصام بالحق، الاعتصام بالتوحيد، بالإيمان الصحيح، بما أنزله الله - تبارك وتعالى -، بهذا الوحي.
وهنا: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13] يعني الإيمان، والتوحيد، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، هذا إقام الدين، إقامة شرائع الإسلام.
وقوله: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي: شق عليهم، وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد.
ثم قال: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي: هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد؛ ولهذا قال: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة.
وَمَا تَفَرَّقُوا هنا بعضهم يقول: المقصود قريش، ومن جاء بعدهم.
وبعضهم يقول: المقصود أمم الأنبياء الذين بعث إليهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وابن جرير - رحمه الله - عبارته عامة، يقول: وَمَا تَفَرَّقُوا يعني أمم الكفر، الكفار: إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ يعني لم يكن ذلك بسبب خفاء الحق، وإنما بسبب البغي، وذلك بسبب العداوات والحسد بينهم، فإن الذين يختلفون بعد مجيء الحق، وظهور الحق، وبيان الشارع له على الوجه الذي لا يترك فيه لبسًا إنما يكون ذلك بسبب البغي، وهذا الخلاف الواقع بين طوائف هذه الأمة إنما هو بسبب البغي بينهم، إمّا أن يعرف الحق ويتمسك بالباطل، وإمّا أنه يحمّل الأمور ما لا تحتمل، فيقع الاختلاف والتنازع والتفرق الذي نهى الله عنه، بمعنى تكون الأمة طوائف متناحرة، يعادي بعضها بعضًا على أمور لا توجب هذا، فيكون ذلك بسبب الهوى والبغي.
بعضهم يخص هذا باليهود والنصارى: وَمَا تَفَرَّقُوا يعني اليهود والنصارى.
وبعضهم يقول: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الوقت الذي حدده الله لإنزال العذاب بهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، وإنما لهم وقت معلوم محدد يجازيهم الله ويعاقبهم، يعني قبل يوم القيامة.
هنا قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ إذا قيل: مِن بعد أمم الأنبياء: الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ يكون مَن هؤلاء؟
بعضهم يقول: اليهود والنصارى أورثوا بعد تلك الأمم: أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ.
شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ يعني يبعث على الريب، والريب - كما بينا - شك مقلق، فهذا على هذا المعنى يدل على دواخل اليهود والنصارى أنهم في شك من كتابهم، أنهم ليسوا على يقين، وهذا يدل عليه أدلة أخرى من كتاب الله ، فهم مرتابون ليسوا على يقين، ومن ثم فإن مواجهة هؤلاء بالدعوة، والرد على باطلهم، وما إلى ذلك ينبغي أن ينطلق من قاعدة واضحة لدى من يناظرهم، وهي أن يعرف أن هؤلاء ليسوا على يقين، بل هم مرتابون، وأعظمهم ريبًا هم كبارهم الذين عرفوا من الحقائق ما لا يعرفه عوامهم وجهالهم، فعندهم ريب، ليس عندهم يقين.
وبعضهم يقول: المراد بذلك كفار قريش: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ فبعد تلك الأمم صار الكتاب إلى العرب وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ أورثوا هذا القرآن بعدما أورث أهل الكتاب كتابهم، فهؤلاء من المشركين في شك منه مريب، هذان قولان معروفان.
هناك قول آخر لا يخلو من غرابة: أن قوله: مِنْ بَعْدِهِمْ المراد به من قبلهم، كأن ذلك من الأضداد، وهذا مروي عن مجاهد - رحمه الله -: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من قبلهم، من قبل هؤلاء المشركين، والمقصود بذلك مَن على هذا الاعتبار؟
قبل مشركي مكة يعني اليهود والنصارى: لَفِي شَكٍّ يقول: كما شك هؤلاء من أهل مكة من المشركين، وارتابوا في الكتاب، فكذلك الذين من قبلهم، لما أورثوا الكتاب هم أيضًا في شك منه مريب.
وبعضهم يقول: لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ أي: القرآن.
وبعضهم يقول: لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ أي: محمد ﷺ.
وهذه المعاني بينها ملازمة، إذا حملنا ذلك على العرب.
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [مريم:16]، رقم (3443) بلفظ: والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد.