الأحد 01 / رجب / 1447 - 21 / ديسمبر 2025
فَلِذَٰلِكَ فَٱدْعُ ۖ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ۖ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].

اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسها،  قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه.

قوله: فَلِذَلِكَ فَادْعُ أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة، كأولي العزم، وغيرهم، فادعُ الناس إليه.

وقوله: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله .

وقوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ يعني: المشركين فيما اختلقوه، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.

وقوله: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ أي: صدقت بجميع الكتب المنـزلة من السماء على الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم.

وقوله: وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي: في الحكم كما أمرني الله.

وقوله: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ أي: هو المعبود، لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارًا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارًا فله يسجد من في العالمين طوعًا واختيارًا.

وقوله: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أي: نحن برآء منكم؛ كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41].

وقوله: لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ قال مجاهد: أي لا خصومة.

قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف.

وهذا مُتَّجه؛ لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة.

وقوله: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا أي: يوم القيامة، كقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26].

وقوله: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآب يوم الحساب.

قوله : فَلِذَلِكَ فَادْعُ يعني ما وصى الله - تبارك وتعالى - به من إقامة الدين، وعدم التفرق فيه، فلهذا تكون الدعوة متوجهة مع الاستقامة من الناحية العملية، وقد تكون الدعوة إلى هذا مدة متطاولة، أو مددًا متطاولة، ثم بعد ذلك إذا جاء العمل والتطبيق وقع خلاف ذلك، وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ لا تطع هؤلاء فيما يدعونك إليه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].

وهنا قوله - تبارك وتعالى -: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ليس ذلك بمعنى أنه كما يقول السدي: كان ذلك قبل آية السيف، وكأن ابن كثير يستحسن هذا القول، يعني كأن هذا نسخ، والواقع أن هذا لم ينسخ، وإنما: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ يعني المقصود به نفي الخصومة، والجدال حال كون ذلك لا يجدي، يعني بمعنى: إذا ظهر الحق، وبان لم يعد للحجة، أو الخصومة، أو الجدال محل، وهذا الذي ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وغير هؤلاء: أن المقصود هنا في حال ظهور الحق، إذا ظهر وتجلى وانكشف لم يعد للخصومة مجال، هؤلاء يجادلون لإبطال الحق، لإظهار الباطل، ومن كان مجادلاً لإبطال الحق، أو لإظهار الباطل فإن جداله لا يلتفت إليه، إنما يكون الجدال لبيان الحق وتجليته، فهنا: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: بعد ظهور الحق، وإلا فالآيات الأخرى: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل:125، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] والقرآن رد عليهم في مواضع كثيرة.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال الكلبي: يكثركم في هذا التزويج، ولولا هذا التزويج لم يكثر النسل، والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجًا، فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "قوله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال الكلبي: يكثركم في هذا التزويج، ولولا هذا التزويج لم يكثر النسل، والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجًا، فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج.

والضمير في قوله: فِيهِ يرجع إلى الجعل.

ومعنى: الذرء الخلق، وهو هاهنا الخلق الكثير فهو خلق وتكثير، فقيل: فِيهِ بمعنى: الباء، أي: يكثركم بذلك، وهذا قول الكوفيين - يعني باعتبار تضمين الحرف معنى الحرف -، والصحيح أنها على بابها، والفعل تضمن معنى: ينشئكم، وهو يتعدى بـ"في"، كما قال تعالى: وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الواقعة:61] فهذا تفسير الآية.

ولما كانت الحياة حياتين: حياة الأبدان، وحياة الأرواح، وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه، وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها، وتكثيرًا وذرءًا، والله أعلم"[1].

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ هذه الآية من الأصول التي بنى عليها أهل السنة باب الأسماء والصفات، وردوا فيها على المخالفين، فإن قوله - تبارك وتعالى -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي للمماثلة.

وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ هذا أصل في الإثبات، فذكر هاتين الصفتين: السمع والبصر اللتين هما في نظر هؤلاء المخالفين من الجهمية أوغل في التشبيه - السمع والبصر -، فالله - تبارك وتعالى - في جزئها الأول نفى المماثلة، وفي جزئها الثاني وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ أثبت له الصفات، فكأن الله - تبارك وتعالى - يقول: يا عبدي، لا تمثل صفاتي بصفات المخلوقين، ولا تنفِ عني صفات الكمال، بل أثبِتْ ما أثبتُّه لنفسي، فجمع بين النفي والإثبات، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي وسط بين الجهمية المعطلة، وبين الغلاة من الممثلة.

قال الإمام ابن القيم: "ثم قال: لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ - والحجة هاهنا هي الخصومة - أي: للخصومة، ولا وجه لخصومة بيننا وبينكم بعدما ظهر الحق، وأسفر صبحه، وبانت أعلامه، وانكشفت الغمة عنه، وليس المراد نفي الاحتجاج من الطرفين، كما يظنه بعض من لا يدري ما يقول، وأن الدين لا احتجاج فيه، كيف والقرآن من أوله إلى آخره حجج وبراهين على أهل الباطل قطعية يقينية، وأجوبة لمعارضتهم، وإفساد لأقوالهم بأنواع الحجج والبراهين، وإخبار عن أنبيائه ورسله بإقامة الحجج والبراهين، وأمر لرسوله بمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، وهل تكون المجادلة إلا بالاحتجاج، وإفساد حجج الخصم؟، وكذلك أمر المسلمين بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وقد ناظر النبي ﷺ جميع طوائف الكفر أتم مناظرة، وأقام عليهم ما أفحمهم به من الحجج، حتى عدل بعضهم إلى محاربته بعد أن عجز عن رد قوله وكسر حجته، واختار بعضهم مسالمته ومتاركته، وبعضهم بذل الجزية عن يد وهو صاغر، كل ذلك بعد إقامة الحجج عليهم، وأخذها بكظمهم، وأسرها لنفوسهم، وما استجاب له من استجاب إلا بعد أن وضحت له الحجة، ولم يجد إلى ردها سبيلاً، وما خالفه أعداؤه إلا عنادًا منهم، وميلاً إلى المكابرة، بعد اعترافهم بصحة حججه، وأنها لا تُدفع، فما قام الدين إلا على ساق الحجة"[2].

من أقر بأن دعوة النبي ﷺ عامة - والنصوص الأخرى شاهدة بهذا - فهذا يبقى محلا للنظر، هل هذه مرحلة من المراحل: لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا هل كانت كذلك؟ يعني كانت هذه مرحلة من مراحل الدعوة أن النبي ﷺ كان ينذر أم القرى ومن حولها فقط، هل كان هذا مقصودًا له في أول دعوته ﷺ بحيث تحمل عليه الآية؟.

هذا يحتاج إلى إثبات، لكن لو قيل: إن ما حولها يعني سائر البلاد فهذا الذي يوافق سائر النصوص، والله أعلم.

  1. مدارج السالكين (3/280).
  2. مفتاح دار السعادة (2/58).