السبت 29 / جمادى الآخرة / 1447 - 20 / ديسمبر 2025
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلْءَاخِرَةِ نَزِدْ لَهُۥ فِى حَرْثِهِۦ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ۝ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ۝ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى:19-22].

يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدًا منهم، سواء في رزقه البَرّ والفاجر.

مضى الكلام في أسماء الله الحسنى على اللطيف، وأن من معاني اللطيف: أن ذلك من اللطف، وهو إيصال الإحسان إلى عباده.

وبعضهم يقول: بطرق خفية.

واللطف يأتي بمعنى: إيصال الإحسان، ويأتي بمعنى: العلم بدقائق الأشياء، دقائق الأمور.

فهنا: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء يعني يحسن إليهم، ويوصل إليهم أنواع البر والمعروف.

كقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] ولها نظائر كثيرة.

وقوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ أي: يوسع على من يشاء.

وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي: لا يعجزه شيء.

ثم قال: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أي: عمل الآخرة.

نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله.

يُرِيدُ حرث الآخرة يعني عمل الآخرة.

أصل الحرث هو الكسب، أصله بمعنى الكسب، وأصل ذلك إلقاء البذر في الأرض، فهذا أطلق على ثمرات الأعمال، وفوائدها، وما ينتج عنها.

مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ باعتبار هذا يعني عمل الآخرة، يعني الثواب، فتجد المفسرين يفسرون الحرث بالعمل، وفي ثنايا كلامهم يذكرون الثواب.

فالمقصود به نتيجة العمل حَرْثَ الْآخِرَةِ.

إن قلت: عمل الآخرة يعني الذي يرجون به ثوابها، فهذا أصله، صار يطلق على ثمرة العمل، يعني من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة لا يريد الدنيا: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ هنا يقول: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، يعني هنا: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نقويه ونعينه، هذا قول: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني نقويه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، فبعض أهل العلم يقولون: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبل الخير له، يعني يعان في هذا العمل: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].

وبعضهم يقول: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني ثواب الأعمال.

فهذان قولان، فتأمل عبارة ابن كثير - رحمه الله - كيف جاءت، وكيف جمع بين القولين قال: أي: نقويه، ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

جمع بين القولين: نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني يُعان، وتُفتح له آفاق وسبل الخير، ويضاعف له في الجزاء والثواب.

وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همَّة ألبته بالكلية، حَرَمه الله الآخرة، والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه، ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.

والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في "سبحان" وهي قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ۝ كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا [الإسراء:18-21].

يعني عندنا أربع آيات، ثلاث مطلقة، وواحدة مقيدة، فهنا في الشورى: وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا، وفي آية هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود:15] الآية.

وفي آية آل عمران: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، وهنا هذه الآية الرابعة في سورة الإسراء: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [الإسراء:18] فقيدها بقيدين، قيْد في المُعطَى، وقيْد في العطاء، يعني فيمن يُعطَون، وفي العطاء: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء من العطاء: لِمَن نُّرِيدُ من الناس، فما كل من أراد الدنيا أعطي منها ما أراد، وحصل له مطلوبه.

وروى الثوري عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: بشِّرْ هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب[1].
  1. رواه أحمد، رقم (21222)، والحاكم، رقم (7862)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في تلخيص الحبير: "صحيح"، وقال محققو المسند: "إسناده حسن".