الثلاثاء 25 / جمادى الآخرة / 1447 - 16 / ديسمبر 2025
وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا۟ عَن كَثِيرٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45].

وفي الحديث الصحيح: والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَب، ولا هم ولا حزَن، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها[1].

وروى الإمام أحمد: عن معاوية - هو ابن أبي سفيان - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته[2].

وروى الإمام أحمد أيضاً: عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحَزَنِ؛ ليكفرها[3].

قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ بعض السلف حمل ذلك على معنى خاص، وهو الحدود، قالوا: إنها مقابل الجناية التي صدرت من العبد، ولكن هذا أيضًا لا دليل عليه، فظاهر الآية العموم، بل هي نص صريح في العموم، كما هو ظاهر: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فـمُّصِيبَةٍ هنا نكرة في سياق الشرط، وقد سبقت بـ"من" وقد بينا أن ذلك ينقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ أيّ مصيبة: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأن "الفاء" هذه الداخلة على الجواب تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، هذا الذي يسمونه بدلالة الإيماء والتنبيه، وهي تدل على التعليل: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فكل ما يقع للإنسان من المكاره إنما هو بسبب جنايته، قال: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وقد ذكر الواحدي: أن هذه أرجى آية في كتاب الله ، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - جعل ذنوب المؤمنين على صنفين: الصنف الأول: ما يجازيهم عليه بالمصائب، فهذا النوع الأول، فتكون كفارة.

والنوع الثاني: هو الذي قال فيه: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ بمعنى أنه لا يَبقى عليه ذنوب، فهي إما أن تكون مقابلة بمصائب تكفرها، يجازيهم عليهم بهذا، وإما أنه يعفو، فيقدم العبد على ربه - تبارك وتعالى - في الآخرة ليس عليه شيء، هكذا قال الواحدي، وكأنه فهم هذا من حديث جاء عن النبي ﷺ في هذه الآية خاصة، وإن لم يذكر فيه أنها أرجى آية، ولكن جاء فيه التنويه بهذه الآية، باعتبار أنها اشتملت على هذا المعنى، ولكن الحديث لا يصح، ضعيف، وليس بالضرورة أن يكون الأمر كما قال، يعني أن الله - تبارك وتعالى - يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ بمعنى أنه لا يعاجلكم بالعقوبة، وليس معنى ذلك: أنه لا يحاسبهم على ذلك في الآخرة، والنصوص الكثيرة الدالة على دخول طوائف من هذه الأمة النار - حديث الشفاعة، وغير أحاديث الشفاعة - تدل على هذا المعنى، أن من أهل الإيمان من يدخلون النار، والنبي ﷺ يقول: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض[4]، إلى غير ذلك.

فليس بصحيح - والله أعلم - أن يقال: إن ذنوب أهل الإيمان إما أن تكون مقابلة بمصائب في الدنيا، فتكون مكفرة لها، وإما أن تكون من قبيل العفو، والنبي ﷺ قال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير[5] هذا في عذاب القبر.

وقوله هنا: وروى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قول النبي ﷺ: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله - تعالى - بالحَزن؛ ليكفرها[6]، هذا لا يصح، الحديث ضعيف.

وفي قوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79].

ولما قال المؤمنون في يوم أحد: أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]؟ أجاب الله - تبارك وتعالى -: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ فالمقصود هنا أنه بيّن أن المصائب التي تقع للناس والنكبات، أن ذلك بجنايتهم، وبسبب ما كسبت أيديهم، ولكن ليس المقصود في سياق هذه الآيات: أن الله - تبارك وتعالى - يجازيهم على ذلك في الدنيا، ويكون ذلك في الآخرة معفوًّا مغفورًا، فقد تكون الأشياء التي تحصل لهم في الدنيا لا تكافئ الجناية التي فعلوها، يعني المصيبة التي وقعت له قد تكون يسيرة بالنسبة إلى عظيم الجناية، فيبقى له في الآخرة ما يوجب العذاب إلا أن يعفو الله عنه، وهكذا الأشياء التي لم يجازيهم عليها في الدنيا، ولهذا قال الله : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [فاطر:45] فهم لا يحتملون، لو أن الله يؤاخذهم على كل تقصير، كل جناية، وكل ذنب لهلكوا.

  1. رواه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم (5641)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، رقم (2573) بلفظ: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه.
  2. رواه أحمد (16899) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  3. رواه أحمد (25237) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب، رقم (1994).
  4. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، رقم (3318)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي، رقم (2619).
  5. رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (218)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292).
  6. رواه أحمد (25237)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب، رقم (1994).