هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يعني الذنوب الكبار.
وقد مضى الكلام على ضابط الكبيرة، فمن أهل العلم من يقول: ما ورد فيها وعيد خاص، أو لعن، أو حد، وما إلى ذلك.
وبعضهم يوسع في دائرتها، فيقول: هي كل ما كان عظيمًا كبيرًا، ليس من قبيل الصغائر في نظر أهل الإيمان، يعني كل ما استعظموه، كل ما كان عظيمًا، ليس من قبيل الصغائر، فهو من الكبائر.
ولم يرد تحديد للكبائر بنص في الكتاب ولا في السنة، وإنما العلماء اجتهدوا في ذلك، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في "أضواء البيان" في هذا الموضع ذكر أقوال العلماء في تحديد الكبيرة، وذكر تطبيقات وأمثلة على الكبائر، من خلال النصوص، ذكر تطبيقات يعني تارة يطلق عليه أنه فاحشة، فجاء بنصوص من هذا القبيل: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [الأعراف:80].
وتارة يصفه الله بأنه عظيم، أو بأنه كبر، أو نحو ذلك: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً [النساء:22].
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
وكذا ما ورد فيه اللعن، إلى غير ذلك، فيراجع كلامه - رحمه الله -، وقد أطال في الكلام على هذه القضية وتطبيقاتها، وأقوال العلماء فيها.
وهنا في هذه الآية، ذكر الفواحش: كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ الكبائر هي الذنوب العظام، خلاف الصغائر وَالْفَوَاحِشَ هي من الكبائر، فهنا عطفها عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ومن هنا قال بعض السلف: إن ذلك ما يوجب الحد خاصة وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ يعني الكبائر وَالْفَوَاحِشَ موجبات الحدود، كما يقوله مقاتل.
وبعضهم خص ذلك بنوع مما يوجب الحدود، وهو الزنا، وهذا باعتبار - والله أعلم - أن الفاحشة تطلق في عرف الاستعمال غالبًا على الزنا، وما في معناه: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وبعضهم يقول - كما بينت هذا في سورة الأحزاب عند قوله تعالى: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [الأحزاب:30] -: إن الفاحشة إذا جاءت معرفة بـ"أل" فهي الزنا، أو ما في معناه.
وإذا جاءت منكّرة فالمقصود بها الذنب العظيم، وإذا جاءت مقيدة بالبيان فهي عقوق الزوج خاصة: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ لكن هذا لا دليل عليه، فأصل الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح، ويقال ذلك للشيء الكثير العظيم، يقال: "هذا مال فاحش، ودم فاحش، وقول فاحش، وفعل فاحش".
فالخصلة المتناهية في القبح يقال لها: "فاحشة" وهنا: يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فالفواحش هنا هي من جملة الكبائر، لكنها أخص منها، فهي نوع من الكبائر، يمكن أن يقال: إن ذلك: "الزنا" وما في معناه.
ويمكن أن يقال: إن كل ما كان مستقبحًا، مستكرهًا، مستبشعًا يقال له: "فاحشة" يعني كبيرة، وبالإضافة إلى ذلك فهي غاية في القبح.
قوله: كَبَائِرَ الْإِثْمِ بينا - سابقا - أنه يطلق إزاء معنيين، يطلق على العمل نفسه، يقال: هذا إثم، يعني المعاصي يقال لها: آثام، ويطلق على نتيجة ذلك، يعني ما يترتب على المعصية، فتقول: من فعل كذا فهو آثم، يأثم عليه، إثم.
الْإِثْمِ هذا هو الجزاء، فيقال لهذا وهذا.
وذكرنا في مناسبات سابقة: أن العرب قد تطلقه على نوع خاص من الجرائم، أو من الآثام، أو من المعاصي، وهو الخمر، وذكرنا شاهدًا على هذا من قبل، وهو قول الشاعر:
شربْتُ الإثمَ حَتَّى ضَلَّ عقلِي | كذاكَ الإثمُ تَذْهبُ بالعقولِ |
يقصد الخمر، باعتبار أنها أم الآثام، أصل الآثام، كانت العرب تسميها: إثمًا، وهي تشربها!.
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي: سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس.
وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله[1].
تأمل هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني ذكر هنا الجانبيْن اللذين يحصل بهما الإقدام على المعصية:
الأول: وهو القوة الغضبية، فبها يحصل القتل، وإلحاق الأذى بالآخرين، والعدوان، وما إلى ذلك، بهذه القوة الغضبية، فهي باب من أبواب المعصية، والجرأة على حدود الله - تبارك وتعالى.
الجانب الثاني: وهو القوة الشهوانية، فذكر هنا: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فهم إزاء هذه الشهوة يضبطونها، وليست هي التي تقودهم، وأيضًا فيما يتصل بالغضب يكون هؤلاء هم الذين يتحكمون في مشاعرهم وتصرفاتهم، فلا يصدر منهم إلا ما يجمل وما يليق.
وهنا ذكر الغضب، يعني: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لأنه كما قيل:
ليست الأحلامُ في حالِ الرِّضا | إنّما الأحلامُ في حالِ الغضبْ |
هو ذكر حالة الغضب، هي التي تستدعي هنا الثناء والمدح، إذا حصل معه الغفر والعفو، مع تحرك الدواعي في نفس الإنسان للانتقام.
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لا يغفر في حال هدوء النفس، وسكون المشاعر، فهذا أمر متوقع، لكن حينما يكون ذلك مع قوة الغضب، وما يؤثره في دفع الإنسان للانتقام فهذا هو الكمال، فذكر هذين الأمرين اللذين تحصل بهما العدالة، وتتحقق بهما الاستقامة، وبهذا تقوم المروءات، ويكون الإنسان على حالة مرضية، فلا تقوده الشهوات، ولا يكون أيضًا في حال من الغضب، والإنسان يحصل له السكر إما بهذا وإما بهذا، يعني الغشاوة التي تحصل على العقل وتغطيه، وتذهب بمبادئه، والمفاهيم التي كان يقررها أو تعلمها، أو تربى عليها، هذا الغضب يكون على العقل مثل الغطاء، فيتصرف تصرفات ثم يندم، وهكذا إذا تحركت الشهوة واضطرمت، فإنه يكون على العقل مثل الغطاء، فإذا قضى نهمته ندم، فهؤلاء تحركهم هذه النوازع، وإنما ذلك يكون لضعف الوازع في قلب الإنسان، وازع الدين، وكذلك أيضًا ضعف العقل، فإن كمال العقل يقتضي أن يزمّ الإنسان نفسه في الحالتين، حالة الغضب، وحالة الشهوة.
- جزء من حديث رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3560)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام، رقم (2327) بلفظ: ... وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها.