الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم، واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].

مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله ﷺ عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ ، وهو في يده صَلْتًا، فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله ﷺ السيف من يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره، وأمر هذا الرجل، وعفا عنه[1].

والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًّا، والله أعلم.

تأمل هنا: أن الله قال قبل ذلك: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وندب إلى الغفر والعفو في مواضع، كما هو معلوم: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109]، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] وما أشبه ذلك.

ففي جميع المواضع تجد الحث على العفو، ومدح العافين.

في هذا الموضع الله - تبارك وتعالى - يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ، أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ والبغي هو العدوان هُمْ يَنتَصِرُونَ فما محل ذلك؟

هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسره بقوله: أي: فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم، واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين، ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا.

هذا كلام ابن كثير، يعني أنه لا منافاة بين كونهم يغفرون ويعفون، مع كونهم ينتصرون: إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ.

يعني أن عفوهم ليس عن ضعف ومهانة، وعجز عن المؤاخذة، وإنما ذلك لكمالاتهم، فهم قادرون على الانتقام، ومع ذلك يعفون.

وبمثل هذا فسره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بأن عندهم قدرة على الانتصار، فيهم قوة الانتصار والتمكن من ذلك، لكن إذا قدروا وتمكنوا عفوا، فيكون ذلك العفو هو الكمال.

وهنا تأمل بعده قال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فحث على العفو، ورغب فيه، مع قوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ فهؤلاء مدحهم الله بأنهم أهل تمكن واقتدار ممن بغى عليهم، ولكنهم إذا تمكنوا فإنهم يغفرون ويصفحون ويعفون، ندبَهم إلى العفو في الآية التي بعدها، هكذا قال ابن القيم، وكذلك ابن كثير - رحم الله الجميع.

ويمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - وقد قال بهذا بعض أهل العلم: إن العفو هو المرغب فيه، وهو الكمال، إلا أنه في بعض المقامات يكون الانتصار هو الأكمل، وذلك إذا كان العفو يورثه مذلة ومهانة، وهذه قضية تختلط فيها حظوظ النفس، لكن إذا كان ذلك حقيقة يورثه مذلة ومهانة ففي هذه الحال يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ يعني مثل ماذا؟

الآن لو نظرنا إلى الحال الجارية في سوريا - نسأل الله أن ينصرهم - لو جاء أحد، وقال: عفا الله عما سلف، والعفو والصفح، وما إلى ذلك، هذا مقام عفو، ومقام صفح؟

هذا مقام: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ليس هذا مقام عفو وصفح لهؤلاء الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.

وهكذا قد يكون الإنسان أجيرًا عند أحد من الناس، لا يرقب فيه إلًّا ولا ذمة، يسخر من دينه، ومن مذهبه، ومن صلاته ومن هيئته، ومن نسبه، ومن بلده، وما إلى ذلك، فهنا العفو قد يورثه مزيدًا من المذلة والمهانة مع هذا الذي لا يرقب فيه إلًّا ولا ذمة، فهذا مقام: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ.

ولا أقصد أنه ينتصر بيده، وإنما يقاضي هذا الإنسان، وينتصف منه، فلو جاءه إنسان وقال له: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] إذا كان يورثه مهانة ومذلة فليس هذا مقام عفو، يمكن أن يقال: إن ذلك بهذا القيد: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ حيث كان العفو يورثه مذلة ومهانة، فالمؤمن لا يكون ذليلاً، فعند ذلك يكون الانتصار هو الكمال، - والله أعلم -.

ابن القيم له كلام في هذا، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ".

طبعًا بعضهم حملها على الكفار، يعني: إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ والآية ليس فيها ما يدل على التخصيص.

قال: "فإن قيل: فكيف مدحهم على الانتصار والعفو وهما متنافيان؟

قيل: لم يمدحهم على الاستيفاء والانتقام، وإنما مدحهم على الانتصار، وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم، فلما قدروا ندبهم إلى العفو، قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا".

انظر وتأمل هذا التفسير يجري على كلام ابن كثير وابن القيم.

قال: "فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149].

وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74].

وفي أثر معروف: "حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".

ولهذا قال المسيح - صلوات الله وسلامه عليه -: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] أي: إن غفرت لهم غفرت عن عزة، وهي كمال القدرة، وحكمة وهي كمال العلم، فغفرت بعد أن علمت ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك، إذ المخلوق قد يغفر بعجزه عن الانتقام، وجهله بحقيقة ما صدر عن المسيء، والعفو من المخلوق ظاهره ضيم وذل، وباطنه عز ومهابة، والانتقام ظاهره عز، وباطنه ذل، فما زاد الله بعفو إلا عزًّا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذل، ولو لم يكن إلا بفوات عز العفو، ولهذا ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه قط".

ليس هذا بلازم: أنه ما انتقم أحد إلا ذل، ولهذا شرع القصاص، ولا يكون ذلك مورثًا للمذلة حينما يقتص الإنسان ممن جنى عليه، ولكن مرتبة العفو أعلى.

يقول: "وتأمل قوله - سبحانه -: هُمْ يَنتَصِرُونَ كيف يفهم منه أن فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم، لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم، ولمّا كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حد العدل غالبًا..".

يعني أنه قال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا يعني يكون ذلك بالمثل.

هذا الجواب يرد عليه إشكال يعني الذي ذكره ابن كثير وابن القيم أن هذا الذي حصلت له القدرة ثم عفا أنه فسر هذا بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ هذا الذي عفا هل يكون قد انتصر فعلاً، قد يقال: إنه لم ينتصر، عفا، لم ينتصر، لكنه عفا عن قدرة، لكن في المآل هو عفا، ما انتصر لنفسه، والنبي ﷺ عفا عن غورث بن الحارث، سقط السيف من يده، فأخذه النبي ﷺ وقال: من يمنعك مني؟[2].

فالحاصل: أن النبي ﷺ عفا عنه، ما انتصر لنفسه، ولذلك الجواب الذي ذكرته قد يقال: أنه لا يرد عليه إشكال، وهو أن ذلك حينما يكون في مقام يكون العفو مورثًا له مذلة، فهنا يمدح الانتصار، ليس العفو دائمًا، من الناس من لا يستحق العفو، يعني هذا إنسان مستخف ومستهتر بالأسواق، أو امرأة مستخفة ومستهترة تسخر بالهيئة، وتسخر بالمحتسبين، وتتطاول عليهم، وما إلى ذلك، فرفعت عليها قضية، ثم جاءت بين يدي القاضي، فهل هنا يندب هذا المحتسب، ويقال له: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ هكذا يقال، أو هنا يقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ؟، يقال: هذا مقام ينبغي أن تؤدب فيه هذه، وأن تعرف قدرها، إنسان يتطاول يستخف ويستهتر، ويؤذي الناس، ولا يقف عند حد، ويتبجح أنه لا يستطيع أحد أن يوقفه، أو أن يحاسبه، فإذا جاء من ينتصر منه، هل نقول له: تعفو عنه، هذا مقام عفو، أو نقول: هذا مقام انتصار، وإياك أن تعفو؟.

نقول له: إياك ثم إياك أن تعفو، هذا الذي يقال في بعض المقامات، مما يحصل فيه الاستخفاف ببعض المحتسبين، والإساءة إليهم أمام الملأ، وقد يصل إلى الضرب والإهانة، والكلام القبيح الذي يوجه إليهم أمام الناس في سوق، في مكان عام، ثم يرفع قضية، ثم يقال له: تعفو وتصفح، أليس كذلك؟

لكل مقام مقال، العفو يصلح في بعض المقامات، والعقوبة تصلح في بعض المقامات.

أسارى بدر، حكم الأسارى يختلف بعض الشيء، فالأسارى الإمام مخير فيهم بين ثلاثة أمور، هو مخير فيهم فينظر، وما كان فيه التخيير كما سبق في القواعد الفقهية شرح قواعد ابن سعدي هناك قاعدة هي: إن كان التخيير لأمر يرجع إلى المكلف، فذلك للتشهي، وإن كان يرجع إلى غيره، فذلك بحسب المصلحة، مثل: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ [المائدة:33] هل هذا للتشهي بالنسبة للإمام أو بحسب المصلحة؟

بحسب المصلحة، فإذا كان يرى أن المصلحة تقتضي الصلب والقتل، فهنا هو المتعين.

وكذلك في قوله - تبارك وتعالى - في كفارة اليمين: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: 89] فهنا هل هذا يرجع إلى المكلف، فيكون للتشهي، أو يكون بحسب المصلحة، يعني بحسب الحاجة مثلاً؟، يراعى فيه ذلك، فما كان يرجع إلى المكلف فهو للتشهي، يعني يختار الأرفق به، وإن كان يرجع إلى غيره، فيكون بحسب المصلحة.

فهنا بالنسبة للأسارى يكون ذلك الإمام مخيرًا فيهم، بحسب ما يراه من المصلحة، فكانت المصلحة تقتضي في أول معركة مع المشركين: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] يعني يكثر القتل، فيكسر العدو، ثم بعد ذلك فإذا: أَثْخَنتُمُوهُمْ يعني قتلاً: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء [محمد:4].

لكن لا يتسابقون على أسرهم وتقييدهم قبل الإثخان فيهم، فهذا شأن الأسرى، فالنبي ﷺ قَتل - يعني في غير هذا - لما جيء بالأسرى عقبة بن أبي معيط، جيء به أسيرًا، لكن النبي ﷺ أمر بضرب عنقه في الصفراء، لما بلغ الصفراء مقفله من بدر أمر بضرب عنقه، فقتل، هذا لم يشمله العفو.

  1. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، رقم (2910)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توكله على الله - تعالى - وعصمة الله - تعالى - له من الناس، رقم (843) بمعناه.
  2. المصدر السابق.