الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَجَزَٰٓؤُا۟ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:40-43].

قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، وكقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [النحل:126].

يعني أن بعض أهل العلم يقولون: سماها سيئة وهي من باب القصاص باعتبار المشاكلة في اللفظ، يعني أنه عبر بعبارة تشاكل العبارة التي قبلها، فهذا الذي حصل من العدوان هو سيئة، فحينما يقابل ويقتص منه فهل هذا يقال له: سيئة؟

بعضهم يقول: هذا من باب المشاكلة، لما ذكر عدوانه، وسماه بهذا سيئة سمى الاقتصاص سيئة من باب المشاكلة اللفظية، والمشاكلة هي نوع من المجاز على خلاف في ذلك عند أهل المجاز.

وهذا ليس بلازم، يعني حتى على القول بالمجاز لا يلزم أن تكون هذه من قبيل المشاكلة، وذلك أن أصل كلمة: سيئة تقال لما يسوء: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79] فهذا الذي يصيبه من مرض، أو يصيبه من شوكة، أو غير ذلك، من نكبة، أو نحو هذا، سماه سيئة، وذلك بأنه يسوء صاحبه، الشيء الذي يسوء الإنسان يقال له: سيئة، أيًّا كان، فبهذا الاعتبار هذا الانتقام أو الاقتصاص من هذا الجاني: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40] هذا القصاص منه، ماذا يقال له؟ ما أثره على ذلك المقتص منه؟

يسوءه، فقيل له: سيئة، بهذا الاعتبار: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ولا حاجة لأن يقال: هذا من قبيل المشاكلة، لأن هذا يسوء أصلاً من وقع له، إذًا هو سيئة بالنسبة إليه.

والسياق الذي ذكرت فيه هذه الآية -كما أشار ابن القيم - رحمه الله -: أنه لما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حد العدل غالبًا قال الله : وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا لا يكون الانتصار بأكثر من هذا، ولهذا قال الله : وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33].

وذكرنا هناك أن الإسراف في القتل يكون بقتل غير القاتل، كما كانت العرب تفعل، يقولون: لا يكافئه هذا القاتل، فيقتلون شيخ القبيلة مثلاً، أو فارس القبيلة، أو يقتلون جمعًا من الناس بواحد لم يتسببوا في قتله، ولم يشتركوا فيه، فيقولون: هذا ما يكافئه واحد، أو يمثل بالقاتل مثلاً، يتشفى، فكل هذا داخل في "فلا يسرف في القتل"، كل هذه الصور الثلاث داخلة فيه.

الإسراف في القتل يكون بقتل غير القاتل، كما كانت العرب تفعل، يقولون: لا يكافئه هذا القاتل، فيقتلون شيخ القبيلة مثلاً، أو فارس القبيلة، أو يقتلون جمعًا من الناس بواحد لم يتسببوا في قتله، ولم يشتركوا فيه، فيقولون: هذا ما يكافئه واحد، أو يمثل بالقاتل مثلاً، يتشفى، فكل هذا داخل في "فلا يسرف في القتل"، كل هذه الصور الثلاث داخلة فيه.

فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو؛ كقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45].

ولهذا قال هاهنا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: لا يضيع ذلك عند الله، كما صح في الحديث: وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا[1].

وقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: المعتدين، وهو المبتدئ بالسيئة.

يعني الجاني، أما هذا المقتص فإنه لا ذنب عليه، ولا سبيل عليه.

وبعضهم يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني من يتعدى في القصاص.

وهذا ظاهره العموم: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] فيدخل في هذا كل ظالم، سواء كان المبتدئ في الجناية، أو كان المعتدي في القصاص.

ثم قال: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم.

وقوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: إنما الحرج والعنت.

عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يبدءون الناس بالظلم، كما جاء في الحديث الصحيح: المُستبّان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يَعْتَدِ المظلوم[2].

أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: شديد موجع.

قوله هنا: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ "اللام" هذه لام الابتداء، خلافًا لمن قال: إنها للقسم، كما يقوله ابن عطية.

وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم، ليس عليهم مؤاخذة، ولا ذنب.

إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: إنما الحرج والعنت: عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

يَظْلِمُونَ النَّاسَ يقول: يبدءون الناس بالظلم.

والذي عليه عامة المفسرين: الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني في تعاطيهم وتعاملهم، وما يأتون وما يذرون، في النفوس والأموال، بغير الحق.

وعن محمد بن واسع قال: قدمت مكة، فإذا على الخندق قنطرة، فأُخذت فانطُلق بي إلى مروان بن المهلب، وهو أمير على البصرة، فقال: حاجتك يا أبا عبد الله، قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي، قال: ومن أخو بني عدي؟ قال: العلاء بن زياد، استعمل صديقًا له مرة على عمل، فكتب إليه: أما بعد: فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فقال مروان: صدق والله ونصح، ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي، قال: نعم"[3]، رواه ابن أبي حاتم.

ثم إن الله - تعالى - لما ذم الظلم وأهله، وشرع القصاص، قال نادبًا إلى العفو والصفح: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ أي: صبر على الأذى وستر السيئة: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ.

قال سعيد بن جبير: يعني لَمِن حقِّ الأمور التي أمر الله بها، أي: لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، التي عليها ثواب جزيل، وثناء جميل.

لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ يعني من الأمور التي يعزم عليها، لفضلها، وعلو مرتبتها، لكونها من محابِّ الله ، وما لها من الآثار الجميلة في الدنيا والآخرة.

وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] فهكذا تورث مثل هذه الخصال آثارًا حميدة في الدنيا والآخرة، فهي مما يعزم، من الأمور التي يعزم عليها، يعني تستحق أن يتوجه إليها العزم، وتتوجه الهمم في تحصيلها وتطلبها.

  1. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (2588).
  2. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن السباب، رقم (2587).
  3. رواه ابن أبي حاتم، (10/3279) رقم (18487)، وابن أبي شيبة في المصنف، رقم (35725).