أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:9-12].
يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، ومخبرًا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشورى:9]، أَمِ هذه هي المنقطعة، بمعنى: بل، والهمزة، يعني: بل أتَّخذ الكافرون من دونه أولياء - يعني معبودين - يطلبون منهم النصر والعز والرزق، وما إلى ذلك: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ.
ثم قال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور، وهذا عام في جميع الأشياء: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي: هو الحاكم فيه بكتابه، وسنة نبيه ﷺ؛ كقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
هذا معنى ذكره الحافظ ابن كثير، وذكره كثير من أهل العلم: أن المقصود: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي: أن الرد فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
والمعنى الآخر: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ يعني أن الله يحكم بينكم يوم القيامة، أن هذا الحكم في الآخرة: فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ الله - تبارك وتعالى - يحكم بين عباده في الآخرة، وكما ذكر الله - تبارك وتعالى -: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج:69] فحكم الله - تبارك وتعالى - بين المختلفين واقع في الآخرة، وكذلك أيضًا الله - تبارك وتعالى - إليه الحكم والتشريع وحده فيما اختلف فيه الناس: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59].
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، وغير ذلك من النصوص.
وهذا معنى صحيح، ومن ثم فإنه لا يجوز التحاكم إلى غيره، وكل من تحاكم الناس إليه وكان يحكم بينهم بغير ما أنزل الله - تبارك وتعالى - فذلك حكم الطاغوت، بأي اسم كان، سواء بمجلس الشعب، مجلس تشريع، برلمان، أو غير ذلك، فمثل هذا لا يُرد إليه ما اختلف الناس فيه، وإنما يحكم فيه بما شرعه الله - تبارك وتعالى.
وحكم أولئك ولو كان موافقًا للشرع فإنه حكم بالطاغوت؛ لأنه حكم بأهواء الناس، باعتبار غالبية الأصوات، أغلب هؤلاء ممن هم يمثلون الشعب، فصار الحكم بهذا الاعتبار.
يعني لا لأن الله شرّعه، فليس ذلك بحكم الله، وإن كان موافقًا له في هذه الجزئية، - والله المستعان -.
أهل الصلاح والمصلحون، ونحو ذلك يرون أنهم حققوا انتصارًا كاسحًا في بلاد كثيرة، وصارت الغلبة، والظهور لهم، وأعداؤهم من العلمانيين والليبراليين يقولون: بل نحن الذين انتصرنا، بأي اعتبار؟
يقولون: نحن حملنا هؤلاء على المبادئ التي ندعو إليها، وهي الديمقراطية، وحكم الشعب للشعب، وأن المرجع هو الشعب، وأن الشعب هو مصدر السلطات، فصاروا يلهجون بذلك ويرددونه، ويقررونه، ويعملون بمقتضاه، فصرفناهم عن حكم الشرع، يقولون: نحن الذين انتصرنا، نحن استطعنا أن نحول هؤلاء من مبادئهم وعقيدتهم إلى مبادئنا وعقيدتنا، يقولون: نحن الذين انتصرنا، وإن فاز هؤلاء بالانتخابات، ولكن الواقع نحن الذين انتصرت مبادئنا، هم حصلوا على أصوات كثيرة، لكن المبادئ التي انتصرت وراجت، وهم صاروا يتسابقون إليها، ويرفعون هذه الشعارات، يقولون: هي شعاراتنا وليست مبادئهم وعقيدتهم، هكذا يقولون، والله المستعان.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي: الحاكم في كل شيء.
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي: أرجع في جميع الأمور.
تأمل النصوص دائمًا، يعني هنا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الأولياء هنا يدخل فيها معانٍ، قد يكون هؤلاء الأولياء أصنامًا، قد يكون هؤلاء من البشر ممن ينتصرون بهم، ويتقوون بهم: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
فالرب هو الذي يشرّع، وهو الذي يصرّف عباده وخلقه، فهو المستحق للطاعة والعبادة.
ثم انظر هذا التعقيب: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فهذا الرب المعبود الذي يتحاكم إليه دون أحد سواه، يكون التوكل عليه وحده لا شريك له، فلا يخاف الإنسان من المخلوقين أن يوصلوا إليه أذى أو ضررًا، أو أن يمكروا به، وتجد النصوص في القرآن كثيرة: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف:43] الله يأمره: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ [هود:112-114] تأمل هذه النصوص كيف تربي القلوب على الطاعة المطلقة لله ، والتحاكم إليه، والعمل بشرعه، مع الاستقامة، والتوكل، هؤلاء لن يستطيعوا أن يوصلوا إليك الأذى والضرر وأنت تركن إلى الله - تبارك وتعالى -، فلماذا تخافهم؟ لماذا تتنازل؟ لماذا تحاول أن تلتقي معهم في منتصف الطريق؟.
ولهذا يقول الله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا[الأحزاب:1-3].
لأنه حينما يطيع الله وحده، يطيع ربه وحده، يتحاكم إليه وحده، قد يعاديه بل سيعاديه أكثر الخلق، فهنا يأتي التوكل: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ هذا هو تعليم القرآن، ما هو المخرج؟ ما هو الطريق؟.
يستقيم كما أمره الله ، ويتوكل عليه، ويثق به، والله ينصره، ابتلاء ثم تمكين، لكن منتصف الطريق هذا هو الذي يحصل معه الخذلان، الاستنصار بالمخلوقين، التقوي بأعداء الله من أجل أن يمكنوه، أن ينصروه هذا هو الخذلان والفشل الحقيقي.