السبت 24 / ذو الحجة / 1446 - 21 / يونيو 2025
وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله هاهنا: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ وذلك أن موسى لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان؛ ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنًا، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه، وأنه لا يخاف دركًا ولا يخشى، وقال ابن عباس - ا -: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا كهيئته وامضِه، وقال مجاهد: رَهْوًا طريقًا يبسًا كهيئته، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يرجع آخرهم، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد.

هذه العبارات التي نقلها ترجع إلى معنى واحد، يعني اتركه على حاله، يعني لا تضربه بعصاك ثانية فيرجع؛ لأن المشهد لم يكتمل، ليس ذلك قد وقع من أجل إنجاء بني إسرائيل بل بقي نصف المشهد وهو هلاك فرعون، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا هذه الأقوال والروايات التي ذكرها ترجع إلى هذا المعنى، وهو اختيار ابن جرير، يعني قول من قال: إن المراد اتركه ساكنًا، اتركه على حاله إلى آخره، يعني لا تغير حاله، دعه حتى يتحقق العذاب لفرعون، وتشاهدون ذلك بأعينكم، وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50]، فهذا كما ذكرنا في سورة البقرة فيه من التشفي ما فيه؛ حيث يكون إهلاك العدو أمامك، تراه وهو يصارع الأمواج، هذا بخلاف لمّا يأتيك الخبر ويقال: غرق فرعون وانتهى، كيف غرق؟ ما الذي حصل؟ هذا بخلاف ما إذا وقع ذلك وأنت تشاهد، فقوله - تبارك وتعالى -: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا رهوًا: قول من قال: ساكنًا هذا قول الأكثر وإن اختلفت العبارة التي يعبرون بها عن ذلك، يعني يقال في أصل اللغة: رها رهوًا يعني سكن، اتركه ساكنًا لا تغير فيه، يقال: افعل ذلك رهوًا كما يقول الجوهري: يعني ساكنًا ويقال: العيش الراهي يعني الساكن حينما يكون خفض العيش والسكون والرفاهية، يقال: راهٍ، نحن لا نستعمل هذه العبارة لكن نستعملها في معنى قريب من هذا وهو الكثرة والاتساع، تقول: هذا طعام راهٍ، هذا ثوب راهٍ، فهنا يدل على العيش الراهي، يعني الساكن معناها أنه في دعة، هو المعنى نفسه، فهذا كله يرجع إلى شيء واحد، هذا الذي يقوله أكثر أهل العلم من المفسرين وأهل اللغة، يعني لا تؤمره بعصاك، لا تضربه بعصاك ثانية فيرجع إلى حاله الأولى، اتركه حتى ينطبق عليهم فيغرقون، وقريب من هذا قول من قال كأبي عبيدة معمر بن المثنى: إن هذه المادة تدل على الانفتاح، فرهوًا يعني مفتوحًا، تقول: رها بين رجليه، يعني باعد بين رجليه، أي فتح رجليه، يعني اترك البحر منفرجًا، فهذا وإن اختلفت فيه العبارة لكنه يرجع إلى المعنى الأول، لكن الأول فسر بالسكون، وهنا بالانفراج، وذلك يرجع في أصل المعنى إلى شيء واحد، يعني اتركه على حاله منفرجًا، وعلى الأول لا تغير من حاله، دعه هكذا؛ لأن البحر انفلق، تصور كم عمق البحر إلى القعر؟ يعني هم ما صار السطح بالنسبة إليهم يابسة أو جامدًا ومشوا على الماء، لا، انفرج فصار كل فرق كالطود العظيم، تصور جبلا شاهقًا عن يمينهم وعن شمالهم وليس طريقًا واحدًا، كم طريق؟ اثنا عشر على عدد أسباط بني إسرائيل، فيرون الماء بالجوانب أمثال الجبال واقفة، وهم يمرون يمشون على الأرض، يمشون على القعر - سبحان الله - ويابس يبسًا ما فيه وحل، ما فيه زلق، وإنما يابس، أرض يابسة كأنهم يمشون في البر والماء واقف على الجوانب، اتركه ساكنًا، اتركه منفرجًا، وهذا معنى يقول به علماء كبار من أهل اللغة مثل أبي عبيدة، وقبله قال به جماعة كمجاهد، فهذا المعنى الذي هو الانفراج صحيح في اللغة، فيمكن أن تحمل - والله أعلم - على المعنيين، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني على حاله ساكنًا منفرجًا، فهذا كله لا إشكال فيه - إن شاء الله -، حتى إن بعضهم يربط بين المعنيين تمامًا يقول: لأن البحر أصلاً إذا كان بهذه المثابة - أي إذا سكن جريه - انفرج، يعني هذا الذي حصل في الواقع، توقف الماء انفرج، وبقي بهذه الهيئة بينه طرقات يمشي ويمر بها الإسرائيليون، فهذا كله يرجع إلى معنى واحد، بخلاف من قال: إن ذلك يرجع إلى نعت موسى ﷺ، وبعضهم يقول: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني سر ساكنًا على هيئتك يا موسى وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا فيكون ذلك مما يرجع إلى موسى ، وبعضهم يقول: إن رهوًا يعني طريقًا، وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني طريقًا، وهذا في الواقع يرجع إلى الأول، يعني لا تضربه بعصاك فيرجع الماء مرة أخرى إلى حاله الأولى، هذه أقوال للسلف، يعني هذا قال به الضحاك والربيع بن أنس، قالا: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا يعني سهلاً، اترك البحر سهلاً، وهذا يرجع إلى القول الأول، وهكذا قول من قال: اتركه طريقًا ككعب والحسن البصري، وقول من يقول: اتركه يبسًا، الشيء نفسه، كل هذا يرجع إلى الأول كما جاء عن عكرمة، - رحم الله الجميع.

على كل حال المعنى: اتركه على هيئته، فرهوًا هذا يرجع إلى البحر، وليس يرجع إلى موسى .