قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:10-14].
يقول تعالى: قُلْ يا محمد، لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليَّ لأبلغكموه، وقد كَفَرتم به وكذبتموه، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أي: وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قبلي، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به؟.
قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ يعني: أخبروني إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إن كان هذا القرآن، هذا قول الجمهور، إن كان هذا القرآن الذي قلتم: إنه سحر ومفترى، وبعضهم يقول: إن كان محمد ﷺ مرسلا من الله، أن الله أرسله، مرسل من عند الله، والأول هو الأشهر، وَكَفَرْتُمْ بِهِ أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم؟.
وهنا يشير ابن كثير - رحمه الله - إلى أن الجواب محذوف في قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ أين جوابه؟ هل هو مذكور أو محذوف؟ بعضهم يقول: هو مذكور، وهو قوله: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، ولكن الذي عليه الجمهور أنه محذوف، وإن اختلفوا في تقديره.
يعني: الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يشير إلى الجواب هنا، وأنه محذوف مقدر بقوله: "ما ظنكم أن الله صانع بكم؟"، إن كان من عند الله وكفرتم به فما ظنكم أن الله صانع بكم؟
وبعضهم كالزجاج يقول: أتؤمنون؟، يعني: هذا هو التقدير: أتؤمنون إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، يعني: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أتؤمنون، أتصدقون، أتنقادون؟
وبعضهم يقول: التقدير: فقد ظلمتم.
وبعضهم يقول: فمن أضل منكم إذا كذبتم به وهو من عند الله - تبارك وتعالى -، مع هذه الشهادة المذكورة؟
وبعضهم يقول: إن التقدير: أتؤمنون به؟، أو نحو ذلك من العبارات المقاربة لما ذكره الزجاج.
وبعضهم يقول كأبي علي الفارسي: إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ: أتأمنون عقوبة الله - تبارك وتعالى - أن تنزل بكم؟
والشنقيطي - رحمه الله - يقدره بأنتم ضُلال ظالمون يعني: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ فأنتم ضلال ظالمون.
من أين أخذ هذا التقدير؟
أولاً: الأصل في القواعد في التقديرات أو المقدرات أن لها ضوابط، منها: أن الأصل عدم التقدير، ومنها: أن التقدير ينبغي أن يراعى فيه الأخصر، والأبلغ، والموافق للسياق.
فالشنقيطي - رحمه الله - عبر بهاتين اللفظتين: "فأنتم ضلال ظالمون"، واحتج بآية فصلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52]، فمن قوله تعالى: مَنْ أَضَلُّ أخذ الضلال، والآية شبيهة بهذه الآية، وفي الأحقاف: فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أخذ من هذه الآية الظلم، فأنتم ضلال ظالمون؛ ولهذا قال - تعالى - في آخر هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ ولهذا قال بعضهم: ألستم ظالمين؟ على أن هذا هو المقدر.
وعامة أهل العلم يقولون: إن الجواب مقدر، وإنْ اختلفوا في تقديره، وهذه أقوال مقاربة، وما ذكره الحافظ ابن كثير هنا: أي: ما ظنكم أن الله صانع بكم؟ ونحو هذا.
قال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فمن هو هذا الشاهد؟ وما المراد بقوله: عَلَى مِثْلِهِ؟ فهذا الموضع اختلف فيه السلف ومن بعدهم، وذكر ابن كثير - رحمه الله - طرفًا من هذا.
وقوله : فَآمَنَ أي: هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل؛ لمعرفته بحقيقته، وَاسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن اتباعه.
وقال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغيره، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام ، وهذه كقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:53]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [الإسراء:107-108].
وعن سعد قال: ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام[1].
هذه التي ذكرها ابن كثير فيمن شهد لهم النبي ﷺ بالجنة.
قوله - تبارك وتعالى -: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، هنا قولان في الآية:
الأول: أن الشاهد هو: موسى ﷺ.
والقول الآخر: أنه عبد الله بن سلام ، وهذا الذي عليه الجمهور من السلف ومن بعدهم، وهو الذي يدل عليه أيضًا سبب النزول.
هذه السورة مكية، والأصل في السورة المكية أن جميع الآيات النازلة فيها أنها نازلة بمكة، هذا الأصل، وكما ذكرنا مرارًا: أنه لا يصح أن يُخرَج شيء من ذلك بالنظر إلى المعنى، فلو بقينا مع المعاني لأمكن أن يقال إذا كانت في عبد الله بن سلام : إن الآية قد تنزل قبل تقرير حكمها - يعني مقتضاها وحصول المضمون الذي دلت عليه-، وإن الحكم ليس المقصود به - كما عرفنا - الحلال والحرام، لا، وإنما مقتضى الآية وما تضمنته - حصول ذلك -، فقد تنزل الآية قبلُ؛ فتكون إشارة إلى ما سيقع بعد ذلك، حيث أسلم عبد الله بن سلام، وشهد أن هذا القرآن هو المذكور في التوراة، وأن صفة النبي ﷺ عندهم ثابتة، ومعروفة، وأنها منطبقة عليه ، يمكن أن يقال هذا، وتبقى هذه الآية مكية، ويقال: كل آيات السورة مكية، ولكن بالنظر إلى ما صح من أسباب النزول فإن ذلك يدل على أن هذه الآية نازلة بالمدينة، إلا أن يقال: إنها نزلت مرتين، مرة مع السورة بمكة، ومرة في قصة ابن سلام في المدينة، وهذا خلاف الأصل، يعني: هذا نلجأ إليه متى؟ إذا تعددت عندنا مرويات في أسباب النزول، ولكن هنا لا يوجد.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ يعني: أن في التوراة ما يوافق ما جاء به القرآن من الهدايات، على قول بعض أهل العلم، فهو موافق لما جاء في الكتب السابقة، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فـ"على مثله": بعضهم يقول: يعني على مثل القرآن، وهو: التوراة، وهذا عليه الأكثر، وبعضهم كالجرجاني يقول: إن هذه اللفظة "على مثله" صلة، وإذا قالوا: صلة ماذا يقصدون؟ يقصدون أنها زائدة، يعني: إعرابًا، زائدة إعراباً، وهذا قاله بعضهم في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فإن الله ليس له مثل حتى يُنفى عنه المثل، يعني: عن مثلِ مثلِه، فليس له مثل - تبارك وتعالى -، يعني: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، يعني: ذات القرآن، وليس على مثل القرآن، وهو: التوراة، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ أي: أن القرآن من عند الله - تبارك وتعالى -، وهذا الذي اختاره الواحدي، ولكن الأكثر على أن المراد بذلك التوراة.
فالشاهد هو عبد الله بن سلام، كما ذكر ذلك ابن كثير - رحمه الله - عن هؤلاء من السلف ، وهذا القول هو الذي عليه عامة أهل العلم، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فالشنقيطي يقول: إن الآية مدنية، باعتبار سبب النزول، وقال به أيضًا غير من ذكرهم ابن كثير - رحمه الله - من السلف، قال به الحسن ومجاهد.
ابن جرير - رحمه الله - يقول: المراد به ابن سلام، وقوله: عَلَى مِثْلِهِ يعني: التوراة، فعلى مثل القرآن هو: التوراة، يقول: وذلك شهادته أن محمدًا ﷺ مكتوب في التوراة أنه نبي، كما هو مكتوب في القرآن، يعني: الشهادة له بأنه نبي موجودة في التوراة.
إذاً وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هو: عبد الله بن سلام، عَلَى مِثْلِهِ أي: على مثل القرآن، وهو التوراة، أن النبي ﷺ مكتوب في التوراة أنه نبي، وذُكرت لهم صفته ، والعلماء ينقلون مثل هذه العبارات، والله - تعالى - يقول: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، فهذا بنص القرآن أن صفته ﷺ مثبتة في التوراة.
القول الآخر: أنه موسى ﷺ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني: موسى ، عَلَى مِثْلِهِ يعني: على مثل القرآن، وهو: التوراة، أن التوراة من الله وحي، يعني: كيف تكذبون، وتنكرون هذا الوحي، وهذا القرآن، وتقولون: إن النبي ﷺ قد افتراه؟، وهذا الخطاب موجه للمشركين في مكة على قول الجمهور، والسياق كله في خطاب المشركين في هذه السورة قبله وبعده، بخلاف من قال: إن ذلك خوطب به اليهود، لكن لو قال قائل باعتبار أن الآية مدنية: إن ذلك من خطاب اليهود، فإن ذلك ليس بمستبعد، ولو قيل: إن ذلك يشمل كل المكذبين بالقرآن الذين يقولون: إن النبي ﷺ قد افتراه، فالخطاب متوجه إليهم، فهذا أيضًا يحتمل، والله تعالى أعلم.
قول مسروق: إنه موسى ﷺ يعني الشاهد، هنا نقل عن مسروق قال: واستكبرتم أنتم عن اتباعه، قال مسروق: فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه، وكفرتم أنتم، هنا ما ذكر قوله الصريح: إنه موسى، لكن هذا معروف عن مسروق.
إذا قلنا: إن هذه السورة مكية، فموضع الإشكال الذي ذكرته عند أهل العلم هو: كون هذه السورة مكية وتتحدث عن أمر وقع في المدينة، وهو: شهادة عبد الله بن سلام قبل أن يسلم، وقبل أن يهاجر النبي ﷺ وقبل أن يقع ذلك، كيف تحدثت عن قضية لم تقع؟ فقالوا: موسى هو المراد بقوله - تعالى -: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فهو موسى، عَلَى مِثْلِهِ يعني: التوراة، هذا لو لم توجد عندنا روايات في أسباب النزول، ولم توجد أقوال هؤلاء الصحابة لكان متجهًا هذا القول، لكن الذي يمنع من الالتفات إليه: أنه يخالف أقوال هؤلاء الصحابة ومنهم: عبد الله بن سلام، فقد صرح أن هذه الآية نازلة فيه، يعني: بعض المرويات فيها أنها نزلت في عبد الله بن سلام، فهذا كما سبق في مناسبات شتى أنه غير صريح بأنه سبب النزول، يعني: أن هذا من قبيل التفسير، وأن هذا مما يدخل فيه، يدخل في المعنى، لكن ابن سلام يقول: هذه الآية نزلت فيّ، وكذلك أيضًا صح أنه هو سبب النزول، وذلك حينما جاء النبي ﷺ إلى اليهود في يوم عيد لهم، وخاطبهم، ودعاهم، وذكّرهم، وأنهم يعلمون أنه هو النبي الذي عرفوا صفته، وسألهم عن ذلك، وعن إقرارهم، فلم يجيبوه، فخرج النبي ﷺ راجعًا، فتبعه ابن سلام ، وأقر للنبي ﷺ بذلك، وأنه هو الذي يعرفون صفته في كتابهم[2]، الشاهد: أنه أسلم، في هذه الرواية التصريح بأن الآية نزلت فيه، فأنزل الله، فهذه الراوية ثابتة، إذًا هذه الآية نازلة في المدينة، فتكون مستثناة من السورة - والله تعالى أعلم -.
وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ أي: قالوا عن المؤمنين بالقرآن: لو كان القرآن خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالاً، وعماراً، وصُهَيباً، وخباباً ، وأشباههم، وأقرانهم من المستضعفين، والعبيد، والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطًا فاحشًا، وأخطئوا خطأ بينًا، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ.
وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
وقوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.
هناك في الكلام على قوله - تبارك وتعالى -: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، قال ابن كثير - رحمه الله - عبارة ذكرها هناك قال: "الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغيره، فإن هذه الآية مكية، نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام"، هذا القول ما أحسنه لو لم يرد في ذلك سبب النزول، فلا يقال هنا: إنه اسم جنس بهذا الاعتبار، يعني: ابن كثير - رحمه الله - حاول أن يجمع بين هذه الأقوال، ولكن الرواية في سبب النزول تأبى ذلك.
قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ابن كثير - رحمه الله - يقول: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يعني: بالقرآن، وبعضهم يقول: بمحمد ﷺ، وبعضهم يقول: بالإيمان، ابن جرير - رحمه الله - يقول: وإذ لم يبصروا بمحمد، وبما جاء به من الهدى، لاحظ دقة العبارة، يعني: جمع بين قول من قال: بمحمد ﷺ، وقول من قال: بالقرآن، وقول من قال: بالإيمان، هذه الأقوال الثلاثة عبر عنها بهذه العبارة الشاملة المنتظمة لهذه الأقوال جميعًا: وإذ لم يبصروا بمحمد، وبما جاء به من الهدى فيُرشَدوا به إلى الطريق المستقيم فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، فقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بهذا الهدى، وبهذا النبي، وبهذا القرآن.
يعني قوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ما سبقونا إلى ماذا؟ ما سبقونا إلى الإيمان، ما سبقونا إلى هذا الوحي، إلى هذا القرآن، إلى هذا النبي ﷺ، كل ذلك، ما سبقونا إلى الدخول في الإسلام، يعني: هم يرون أنهم أهل العقول الراجحة الذين يميزون بين الأشياء، ولو كان في ذلك خير لما سبقهم إليه هؤلاء الأعبُد، ومن يزدرونهم من الضعفاء، فجعلوا ذلك مقتضيًا ضعف عقولهم، يعني: أن الضعف المادي عندهم يقتضي ضعف العقول، فالمعايير عندهم أصلا فاسدة.
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً النصب هنا على الحال: إِمَامًا وَرَحْمَةً، وبعضهم يقول: على القطع، وبعضهم يقول: بمقدر محذوف بتقدير: كتاب موسى جعلناه إمامًا ورحمة، والأصل عدم التقدير، يعني: حال كونه إمامًا ورحمة.
وهذا أيضًا منصوب على الحال: لِسَانًا عَرَبِيًّا.
قوله: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل أنه يرجع إلى القرآن، لأن بعض العلماء يقولون: إن ذلك يرجع إلى الله - تبارك وتعالى -، يعني: لينذر الله به، وهذا لا يخالف قول من قال: إنه القرآن؛ لأن القرآن كلام الله - تبارك وتعالى -، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ، يعني: لينذر من أوحينا إليه هذا القرآن الذين ظلموا، وهذا ظاهر وواضح على القراءة الأخرى قراءة ابن عامر والبَزِّي: لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالتاء.
فقوله: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا تذكرون في شرح كتاب "طريق الوصول إلى العلم المأمول" من الأشياء التي مرت بنا: أنه قد تُذكر علة لشيء ويكون هناك علل أخرى في مواضع، هذا نقلته عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في بعض المناسبات، فالله - تبارك وتعالى - مثلما ذكرنا بالأمس - لما ذكر العلة من خلق السموات والأرض، من أجل ماذا؟ من أجل الابتلاء، ومن أجل أن تعرف وحدانيته - تبارك وتعالى -، إلى غير ذلك من المعاني المتنوعة، فذكر في موضع إحدى هذه الحكم، وذكرت الحكم الأخرى في مواضع متفرقة، فهنا: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: هل أنزل القرآن لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين فقط، أو لمعانٍ آخر أيضًا غير النذارة والبشارة؟، كذلك أيضًا فيه: الأحكام، والهدايات، وشرائع الإسلام، وما إلى ذلك، لكن لكل مقام مقال، فالله لما ذكر النجوم مثلاً في موضع قال: لِتَهْتَدُوا بِهَا [الأنعام:97]، وفي موضع آخر في سورة الصافات ذكر الزينة والحفظ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:6-7]، فلم يذكر الاهتداء، وهكذا.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا يعني: أنهم أذعنوا بالتوحيد، واستقاموا بالطاعة، واستقاموا بالعمل.
قبل أن نجاوز هذا المقطع أقول: ما ذكرته عن الجرجاني في قوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، يعني: أن قوله: عَلَى مِثْلِهِ صلة، يعني: على ذاته، أي: شهد شاهد من بني إسرائيل على أن القرآن حق، وأن النبي ﷺ حق، رسول من عند الله، هذا أيضًا رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، يعني: هو لا يرى أن عَلَى مِثْلِهِ أي التوراة مثل القرآن، وذكر شواهد لهذا، يعني: في قوله تعالى مثلاً: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ [البقرة:137]، ما المقصود؟ يعني: بما آمنتم به، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، أي: ليس كهو، أو ليس كذاته شيء، على أحد الأقوال المعروفة في الآية، وقوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، يعني: كمن هو في الظلمات.
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام ، رقم: (3812)، وأخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عبد الله بن سلام ، رقم: (2483).
- أخرجه أحمد، رقم: (23984)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.