الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰنًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىٓ ۖ إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15-16].

لما ذكر تعالى في الآية الأولى: التوحيد له، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه عطف بالوصية بالوالدين، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن، كقوله : وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقوله : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقال هاهنا: وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا أي: أمرناه بالإحسان إليهما، والحنو عليهما.

وروى أبو داود الطيالسي عن سعد قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟، فلا آكل طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا الآية، ورواه مسلم، وأهل السنن إلا ابن ماجه[1].

في قوله - تبارك وتعالى -: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا، الوصية بالوالدين بعدما ذكر الله حقه، كما في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، والآيات المحكمات في سورة الأنعام.

فأعظم الحقوق بعد حق الله - تبارك وتعالى - هو حق الوالدين، وإذا كانت هذه الآية قد نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه، وهي مشركة، وتدعوه إلى الكفر، ومع ذلك جاءت الوصية بالإحسان إلى الوالدين، فكيف إذا كان هؤلاء الأبوان يدعونه إلى الإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ؟! فإن الإحسان إليهما في هذه الحال يكون أعظم، وهذا يدل على أن الإحسان إلى الوالدين في كل الحالات لا يُستثنى منه شيء، ولهذا الفقهاء - رحمهم الله - تكلموا فيما لو كان الوالد أو الوالدة ملابسًا لمنكر، كيف يُغيَّر هذا المنكر؟ يعني: لو كان مثلاً يلبس لباسًا منكرًا، أو قد علق صليبًا، أو نحو ذلك، هل له أن ينزعه منه أو لا؟ باعتبار أنه لا يخلو من إساءة ونوع جرأة على هذا الوالد.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا، فقوله: إِحْسَانًا: هذه قراءة عاصم وحمزة والكسائي، وأما قراءة الجمهور فهي حسنًا في هذا الموضع فقط، يعني: في بقية المواضع يقرءون: إِحْسَانًا، كقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا في سورة الإسراء، وفي سورة الأنعام، أما في هذا الموضع في سورة الأحقاف ففيه قراءتان: فالجمهور يقرءونه: حسنًا.

وعلى القراءتين: إِحْسَانًا وحسنًا النصب يكون على المصدرية، يعني: ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه حسنًا وإحسانًا، وصيناه أن يحسن إلى والديه حسنًا وإحسانًا، فأطلق هذا الإحسان، فيشمل جميع صور الإحسان، من الإحسان بالقول، والإحسان بالفعل، والإحسان بالمال، والإحسان بالمعاشرة والمخالطة، بل الإحسان حتى في النظر إليهما، والإحسان حتى في المشاعر نحو الوالدين، وكل ما يمكن أن يتصور من الإحسان فهو داخل في هذه الآية، فأطلقه الله - تبارك وتعالى -، فيحسن في المخاطبة، ويحسن في المخالطة، ويحسن بالمال.

بعض الناس قد يقول: هؤلاء من الوالدين غير محتاجين للمال، نقول: لكن إعطاء المال لهما أو لوالدته مثلاً إذا كان ليس لها مال، وإن لم تكن محتاجة، فهي مكفية قد كفاها زوجها مثلاً، فإن هذا التصرف من الولد يدل على أصالته، ويدل على كرم ضريبته، ويدل على سمو تربيته، فهذه الأم التي تعبت، وربت، وفي كل يوم هي معه صباح مساء تنظر إلى وجهه، وتهيئه لمدرسته، وشقيت معه طويلًا حتى تخرج وصار يعمل تنتظر العائدة من هذا الولد من حسن تعامله، وبره، وما إلى ذلك، فإذا كان هذا الولد يبادر من أول ما بدأ يعمل، ويكتسب، فيعطيها شيئًا، ولو لم تكن محتاجة، فإن هذا لا شك أنه يؤثر فيها غاية التأثير، ويغمرها بمشاعر لا يمكن وصفها تجاه هذا الولد: أن هذا الولد بار، وأصيل، وأنه ما نسيها قط، وأنه يدرك ما بذلت من إحسان، وتربية، وجهد، وأن ذلك لم يذهب، ولم يتلاشَ، وما ضاع، فهي ترجو عائدته أيضًا في الآخرة.

الأم تحتاج أن تتصدق، وتحتاج أن تُفرح الصغار، وما أشبه ذلك، ولا تحتاج في مثل هذه القضايا أنها تنتظر وتقول: أعطوني أنا محتاجة كذا، أنا أريد كذا، أريد أن أقدم هدية لفلانة، أو نحو هذا، فيكون ذلك بيدها، والأم عادة تبادر لأمور قد لا تخطر لهذا الولد على بال، إذا حصل نقص، أو نحو هذا فإنها تبادر وهي مسرورة فرِحة بتسديد هذه الحاجات، بخلاف غيرها ممن لربما لا يقع في يدها شيء إلا أتلفته، الأم تحنو وتحفظ للولد هذا المال، وإذا رأت فرصة انتهزتها في شأن من شئون بيتها، وبيت ولدها، فمثل هذا ينبغي أن نتذكره، فكثير من الناس لا ينتبهون لهذا، ويقول: هي غير محتاجة، فهذا من الإحسان الذي نغفل عنه، وله أثر بالغ، ولربما تبقى صامتة وساكتة، ولكن ذلك يقع في نفسها: أن هذا الولد لم يتذكر بذلها، وإحسانها، لكنه حينما يترجم عنه بمثل هذا سيكون له غاية التأثير.

من البر المنسي للأسف الشديد وهو شاق على نفوس الأبوين مما لا يعرفه كثير من الذين ظاهرهم الاستقامة والصلاح: أنه يعرف من حال أبيه أو من حال أمه أنهما يكرهان كذا، يكرهان صحبته لفلان، يكرهان ذهابه إلى المكان الفلاني، يكرهان هذا الفعل منه، يكرهان هذه المزاولات والاشتغال بكذا من الأمور التي ليست من العمل الصالح، لكنها أمور قد تكون مباحة، قد يريد أن يخرج إلى المكان الفلاني، وهم يكرهون ذلك، فإذا عرف منهم هذا فلا داعي لأن يكرره عليهم، أو أن يطالبهم بالسماح له بزعم أنه بار لا يخرج إلا بإذنهما، فيُضجر أبويه في المطالبة بهذا الشيء الذي يعلم أنهما يكرهانه، فلربما وافقا على ذلك على مضض، يريدان الخلاص من هذا الإلحاح، فإذا عرف الإنسان أنهما يكرهان طرح الأمر الفلاني، ذكر القضية الفلانية، المطالبة بالشيء الفلاني؛ لمصلحته، أو لمصلحة غيره، أو نحو ذلك، يكف عنه، فهو يعرف من خلال هذه العشرة الطويلة الممتدة ما الذي يدخل السرور عليهما، وما الذي يحصل به الانزعاج لهما، فيترك هذه الأمور التي يكرهانها، ولا يحبان سماعها، للأسف هذا منسي لدى الأكثر، وإن زعم وظن أنه بار باعتبار أنه لا يفعل إلا بإذنهما، لكن هذا الإذن لا يأتي إلا بعد السآمة، والضجر، والملل، والضيق، تضيق به الدنيا بما رحبت من كثرة هذا الإلحاح والطرق على هذا الموضوع حتى يوافق هذا الأب كارهًا ومرغمًا من أجل الخلاص من هذا الإزعاج، وعند نفس هذا الولد أنه بار، وهذا من العقوق الذي لا يدركه كثير من الأبناء، والله المستعان.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبًا، من وحَام وغثيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا، قوله: كُرْهًا: هذه قراءة الجمهور، بالضم ثم السكون، وعلى قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز بفتحهما، يعني في الموضعين، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا، بالضم، وبالفتح، وهما لغتان، والمعنى واحد عند أكثر أهل العلم، الجمهور يقولون: المعنى واحد وهما لغتان، وإن فرق بعضهم بينهما.

ما المعنى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا؟ يعني: ذات كره، ومشقة، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، واختار هذا أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وهذا كله بمعنى متقارب.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا أي: حملته على مشقة ومعاناة، وذلك أن الحمل إذا ثقل فإن ذلك يؤثر فيها غاية التأثير، كما هو معلوم في أمور كثيرة، وفي الوضع فيه من الآلام والمشقة، وذكر هذا بالنسبة للأم خاصة، يعني: الحمل والوضع، هذا كله مما تختص به الأم، والأب لا يشعر بشيء من ذلك، هذا إشارة إلى تأكد حق الأم، ولهذا جعل لها النبي ﷺ حينما سئل: أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك ثلاثًا[2]، فهذا في الصحبة والمعاشرة، يعني: البر الذي يكون للأم على ثلاثة أضعاف ما يكون للأب، يعني: من التلطف والحنو واللباقة، فإذا كان الإنسان مأمورًا بالبر مع الأبوين، وأنه أطلق الإحسان - كما سبق -، فماذا عسى لو أنه ضاعفه ثلاث مرات؟ سيكون في غاية التلطف والتذلل مع أمه، يعني: إذا كان بارًّا بأبيه غاية البر لا يمكن أن يمشي أمامه ولا يدخل قبله، ولا يرفع صوته، ولا ينظر إليه شَزْرًا، كل هذا وغير هذا مع الأب، فلو ضاعفنا ذلك ثلاث مرات: كيف ستكون الحال مع الأم؟ حتى ندرك مدى التقصير الذي مُنينا به، والله المستعان.

وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، وقد استدل علي ، بهذه الآية مع التي في لقمان: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقوله - تبارك وتعالى -: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]: على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح.

هذا الاستنباط ماذا يسمى عند الأصوليين؟ هذا النوع من الاستنباط تحت أي نوع يدخل؟ يدخل تحت دلالة الإشارة، ليس التفسير الإشاري عند الصوفية، لا، دلالة الإشارة هي: أحد أنواع المنطوق غير الصريح، يعني: الكلام: إما منطوق، وإما مفهوم، والمنطوق: إما دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام، أو إيماء وتنبيه، أو إشارة، فهذا الإشارة، والإشارة على نوعين: تارة يكون ذلك من دليل واحد، كما ذكرنا في الكلام على آيات الصيام: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فإذا أبيح لهم الأكل والشرب والجماع إلى آخر لحظة من الليل فهذا ما دلت عليه الآية بالمعنى المطابق، لكن بدلالة الإشارة - وهي من المنطوق -: أنه لو أصبح جنبًا لصح صومه، من أين أخذناه؟ أنه إذا صح له أن يجامع إلى آخر لحظة من الليل فالغسل متى يكون؟ يكون بعد طلوع الفجر، أخذناه من دلالة الإشارة، والمقصود بها: إشارة اللفظ إلى معنًى ما سيق اللفظ من أجل تقريره، يعني: الآية: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ما سيقت من أجل بيان صحة صوم من أصبح جنبًا من غير احتلام، هل الآية سيقت من أجل هذا؟ الجواب: لا، فهذا من دليل واحد، وأحيانًا تكون دلالة الإشارة من مجموع دليلين مثل هذا، فإذا كان قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا مع الآية الأخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] يعني: أربعة وعشرين شهرًا، فيبقى من الثلاثين للحمل إذا أخرجنا مدة الرضاع، يبقى ستة أشهر للحمل، إذًا يمكن أن يولد الولد مكتملاً ويعيش لستة أشهر من الحمل، أقل مدة الحمل، وأما أكثر مدة الحمل فهذه في الغالب تسعة أشهر، وقد يزيد، في تراجم بعض أهل العلم تجدون أن بعضهم كان حمله في سنتين، بل ذكر لبعضهم أن أمه حملت به خمس سنين.

ومن دلالة الإشارة مما يؤخذ من دليلين: وجوب إعفاء اللحية من القرآن، من آيتين في قوله: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه:94]، قول هارون ﷺ، فدل على أن له لحية، وأن هذه اللحية لم تكن مجرد خط أو عوارض، كما يقال، وإنما لحية كثة يمكن أن يؤخذ بها، مع آية الأنعام لما ذكر الله الأنبياء فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، فقال: وَمُوسَى وَهَارُونَ، فهارون من الأنبياء الذين أُمر النبي ﷺ أن يقتدي بهم، كما قال بعدما ذكر هؤلاء الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة والسلام -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]، فالنبي ﷺ مأمور بالاقتداء بهؤلاء، وهارون  كانت له لحية كثة.

روى محمد بن إسحاق بن يسار، عن بَعْجَةَ بن عبد الله الجهني قال: "تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت: وما يبكيك؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله - تعالى - غيره قط، فيقضي الله في ما شاء، فلما أتي بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليًّا ، فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي : أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، وقال: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، قال: فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا، عليّ بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها، قال: فقال بَعْجَةُ: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه، قال: وابتلاه الله - تعالى - بهذه القرحة بوجهه، الآكلة، فما زالت تأكله حتى مات"، رواه ابن أبي حاتم[3].

هذا لو صح، فأنتم تعرفون حال محمد بن إسحاق، لكن حتى مثل هذا، يعني: كون الرجل ولدت له لستة أشهر، ويفهم أن المرأة لا يمكن أن تلد لستة أشهر ولدًا تامًّا، وهكذا فهم عثمان لأول وهلة، ومن حضره من الصحابة، حتى أورد عليه عليٌّ ما قد سمعتم، فهل الرجل يكون ملومًا بسبب هذا؟ الرجل غير ملوم، يعني: هذا منتهاه، هذا مبلغه من العلم، وعثمان وافقه في أول الأمر، هذا لو صحت الرواية، فكونه عوقب بعد ذلك بظهور هذه القرحة بوجهه حتى مات، هذا فيه إشكال، يعني: هو لم يقصد الإساءة والظلم والعدوان.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء، حدثنا علي بن مِسْهَر، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس - ا - قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا.

يعني: مثل هذا نظر فيه إلى ظاهر اللفظ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وهذا الاستنباط له وجه ظاهر، فينقص من مدة الرضاع بقدر ما كان له من الحمل، لكن إذا نظرت إلى الآية الأخرى مجردة وهي قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، فهذا عام أيًّا كان له من الحمل، مع أن الغالب أن الحمل يكون لتسعة أشهر، هذا هو الأصل، وما كان أقل فهو خارج عن هذا الأصل، فإذا كان الله - تبارك وتعالى - يقول هذا القول العام مع مراعاة أن الغالب تسعة أشهر لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ؛ فيدل ذلك على أن إتمام الرضاعة بصرف النظر عن مدة الحمل تكون لعامين.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: قوي وشب وارتجل، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه.

بلوغ الأشد: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، مضى الكلام عليه عند قوله: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، فما هو بلوغ الأشد؟ لاحظ هناك في اليتيم: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، ما هو بلوغ الأشد بالنسبة لليتيم؟ بعضهم يقول: البلوغ، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن مع قوله: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، بعضهم قيده بمرحلة عمرية، يعني: بعضهم يقول: إذا بلغ ثمانية عشر عامًا، وبعضهم يقول: إذا بلغ إحدى وعشرين سنة، لكن الأقرب أن ذلك لا يقيد بعمر معين، فبالنسبة لليتامى يُمتحنون، فلابدّ من أمرين، لابدّ من وصفين:

الأول: هو البلوغ.

والثاني: حسن التصرف في المال، لقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا؛ لأن هذا هو المطلوب، وهذا قد لا يصير صفة للولد إذا بلغ الثامنة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، فقد يكون سفيهًا مضيعًا، فلا يعطى المال، وذكرنا الأقوال في بلوغ الأشد ما المراد به لاسيما في مثل هذه الآية: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ، فبلوغ الأشد كم يكون؟

بعضهم يقول: البلوغ، وبعضهم يقول: إذا بلغ الثامنة عشرة، وبعضهم يقول: الخامسة والعشرين، فالشعبي وابن زيد يقولان: إذا بلغ الحلم فهذا بلوغ الأشد، والحسن يقول: إذا بلغ أربعين سنة، يعني: كأنه فهم أن هذا العطف يوضح ما قبله، أي: قوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً هذا تفسير لبلوغ الأشد، وبعضهم يقول: إذا بلغ الثالثة والثلاثين.

ولما ذكر الله خبر يوسف ﷺ وقصته وأنه صار عند امرأة العزيز قال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [يوسف:22]، متى بلغ أشده هنا وهو في بيت العزيز؟ معنى ذلك: أنه لم يبلغ الأربعين بعد وقد بلغ أشده، فدل هذا على أن بلوغ الأشد لا يحد بسن معين، - والله تعالى أعلم -، ولهذا قال ابن جرير: هو تناهي قوته، واستواؤه، هذا بلوغ الأشد.

التناهي عندنا: تناهي قوة البدن، وتناهي قوة العقل، فالأطباء يقولون: إن نمو العظام مثلاً عند البنت إذا بلغت سبع عشرة سنة توقف النمو، يعني: ما يرجى أنها تطول أكثر، أو أن عظامها تحصل لها قوة زائدة، أو نحو ذلك، كذلك لو كان عندها عيوب معينة قد تنمو مع الوقت، أو نحو ذلك في العظام ينتظرون، فإذا بلغت السابعة عشرة معناها: أنه لا ينتظر بعد ذلك مضاعفات جديدة، أو نحو هذا، أما الأبناء أو الذكور فيكون إلى الحادية والعشرين ثم يتوقف نمو العظام عند الذكور، هذا بالنسبة لنمو العظام، لكن قوة البدن لا تزال تنمو، فيكتمل ذلك إلى الأربعين، أما بالنسبة للنمو العقلي فإن الإنسان إذا وصل إلى سن الواحد والعشرين مثلاً فإنه يكون قد بلغ مبلغ الرجال لا في أحكام الشرع، فأحكام الشرع إذا بلغ، يعني: وصل سن البلوغ أي: الاحتلام، وإذا لم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ المعروفة فإنه يحكم ببلوغه إذا أتم الخامسة عشرة، باعتبار أن النبي ﷺ رد ابن عمر ثم قَبِله، يعني: رده في بدر، ثم قبله في أحد، كان عمره أربعة عشر عامًا، فعمر بن عبد العزيز قال: يصلح أن يكون هذا حدًّا، يعني: فاصلاً بين الرجل والغلام، فإذا كمّل الخمسة عشر حتى لو ما بلغ؛ لأن بعض الأبناء أو بعض الشباب قد لا يبلغ حتى يدخل الجامعة، متى يدخل الجامعة؟ بعد الثامنة عشرة، قد حدثني بعض الناس أنه دخل الجامعة، وسجل في الجامعة، وهو لم يبلغ بعد، ولم يظهر عليه أي شيء من علامات البلوغ، فهذا يحصل وإن كان قليلاً، فمنتهى القوة البدنية واكتمال القوة البدنية إلى الأربعين، ومنتهى القوة العقلية إلى الأربعين، فيبقى في حال من التماسك لربما إلى الخمسين، ثم بعد ذلك يبدأ بالضعف والتلاشي، ويبدأ بالشيخوخة والضعف، وتبدأ الخلايا لا تتجدد في الجلد وفي غيره، فيبدأ الذبول، والنظر يضعف، والسمع، وما إلى ذلك، ولذلك يقولون: الذي لم يحصل له رشد بعد أن بلغ الأربعين لا يرجى له رشد بعد ذلك، يعني: وصل الأربعين وهو سفيه، ما ينتظر من هذا الإنسان أن يكون راشدًا عاقلاً -والله المستعان-، فهذا اكتمال العقل.

هذه الآية تضمنت معنى كبيرًا ينساه الكثيرون إذا بلغوا هذا السن، يقول الله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، هو جاوز مرحلة الطيش، ومراحل الغفلة، فينبغي أن يكون راشدًا بحق، ويدعو بمثل هذا الدعاء، وأن يزداد بره بأبويه، وأن يترك ما كان فيه من الجهالات، والحماقات، والسفه، وما إلى ذلك، فتكون أقواله وأفعاله واقعة على وجه الصواب، والحكمة، ومقتضى العقل، والرشد، وتصرفاته موزونة، فلا يصلح لشيء من السفه، ومخالطة السفهاء.

ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين.

 

ابن جرير فيما يتعلق بالرشد اختار أنه إذا بلغ الثالثة والثلاثين، بأي اعتبار؟ أولاً: هذا أحد الأقوال عند أهل العلم من أهل اللغة وغيرهم، أنه إذا بلغ الثالثة والثلاثين، مع أنه لا دليل عليه، فهذا كله من الرشد، وابن جرير يقر بهذا: أن القضية لا تتقيد بسن معين، لكن يقصد في هذه الآية هنا فقط، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15].

وباعتبار أن الأربعين ليست بتفسير لبلوغ الأشد، كما سبق عن الحسن أنه قال: إذا بلغ الأربعين، فيكون من باب التفسير له: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ابن جرير يرى أن هذا مغاير لما قبله، فبلوغ الأشد يحصل قبل الأربعين، ولكن منتهى ذلك والاكتمال يكون في الأربعين.

لماذا قال: ثلاثة وثلاثين، ما قال: ثمانية عشر، أو قال: إذا بلغ الاحتلام؟ ابن جرير بنى ذلك على قاعدة وأصل عند العرب في كلامها ومخاطباتها، وهي باعتبار: أنها إذا عطفت وقتين مثلاً، أو مثل هذا عطفت وقتًا على صفة، هذه الصفة تحمل وقتًا، أو فسرت بأوقات، أو نحو ذلك، العرب تجعل الثاني قريبًا من الأول، يقول: فالثلاثة والثلاثون قريبة من الأربعين، يعني: العرب ليس من مخاطبتها، وليس من طريقتها أن تقول مثلاً: عدد القوم واحد واحتمال أنهم ألف، يعني: مثل هذا لا يقبل في الكلام، واحد واحتمال ألف المباينة بينهما كبيرة، لكن لو قلت: إنهم عشرة واحتمال اثنا عشر مقبول، لكن واحد واحتمال ألف يقال: هذا ليس من كلام العقلاء، فيقول: العطف هنا إذا قلنا: بلوغ الحلم، وهو إذا بلغ ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، يحتلم الولد، أو يصير بالغًا، أو إلى الخامسة عشرة يحكم ببلوغه، فهذا القول مع الأربعين تكون المدة بينهما بعيدة، فجعله في أقرب هذه الأعمار المذكورة، هذا وجه كلام ابن جرير، وأنه لا يبلغ منتهى الأشد حينما يكون محتلمًا، واختار ثلاثة وثلاثين؛ لأنه أحد الأقوال في بلوغ الأشد، وأنه قول صحيح، ولكنه يقر بأن ذلك مما يصدق عليه بلوغ الأشد، ولكن لماذا اختار هذا؟ لأن أقصى ما ذكر في الأعمار دون الأربعين هو ثلاثة وثلاثون، لأن بعضهم قال: خمسة وعشرين، وبعضهم قال: ثمانية عشر، وبعضهم قال: البلوغ، وبعضهم قال: الخمسين، أخذوه من قول عليٍّ ، يروى عنه قول:

 أخو خمسين مُجتمِعٌ أشُدِّي ونجّذني مجاورةُ الشؤونِ

فقالوا: بلوغ الخمسين، والواقع أن الخمسين من بلوغ الأشد، فابن جرير نظر إلى قوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فأخذ الأقرب في العدد، وقال: من عادة العرب أنها لا تجعل مباينة بين العددين، فإذا بلغ الحلم وبلغ أربعين سنة قفزة بعيدة، هذا وجه كلام ابن جرير في قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لكن يمكن أن يقال: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: بلغ منتهى القوة، وأكمل الأربعين، فهذا تمام سن الرشد، وابن جرير لم يختر هذا القول من أجل أنه أعمار أهل الجنة، كما يظن البعض، وإنما باعتبار أنه أحد الأقوال في بلوغ الأشد، فهو نظر إلى الأقوال، وأعداد السنوات المذكورة، فأخذ القريب من الأربعين باعتبار هذه القاعدة أو الأصل عند العرب في مخاطباتهم، ووجوه كلامهم، راعى هذا فقط، ولم يذكر غيره.

قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: في المستقبل، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: نسلي وعقبي، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، ويعزم عليها.

فيما يتصل بكلام ابن جرير الآنف، يعني: تصور لو أردنا أن ننظر إلى السياق: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: ثلاثًا وثلاثين سنة، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، لكن لو بقينا على أصل كلام ابن جرير: أن الأشد هو تناهي القوة والاستواء، هذا أولى من تحديد ذلك بسن معين، يعني: حتى إذا اكتملت قواه البدنية والعقلية، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، هذا هو الأقرب، والله أعلم.

ولاشك أن الناس يتفاوتون في النمو الجسمي، وفي النمو العقلي، وفي الكمال في هذه الأمور، وأحيانًا تجد الشاب عمره ثماني عشرة سنة بل أقل، وإذا جلست معه كأنك جالس مع ابن أربعين، هذا شيء مشاهد، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن هذا قليل، والغالب الطيش، والخفة، وقصور النظر في الأشياء.

ولاشك أيضًا في الوقت نفسه أن السن له أثر، وهنا ينبغي أن يفرق بين العلم والعقل، يعني: العلم ليس هو العقل، قد يكون الإنسان من أوعية العلم، ولكن لا عقل له، وقد يكون جاوز السبعين والثمانين وعقله في خفة، كما يقال: أحلام الطير، يطيش، ويلقي الكلام على عواهنه، ولا يزن الكلمة، أو العبارة، أو الفتوى، وردود الأفعال عنده سريعة، يلقي كلمات قوية شنيعة في أمور لا تستحق؛ لمجرد ردود أفعال سريعة، بناء على شيء سمعه، أو قرأه، أو نحو ذلك، فهذا غير صحيح، وهو موجود، ومثل هذا لا يصح أن يفتي، ولا يصح أن يُرجع إليه في النوازل، والقضايا، والمصائب، والمشكلات، والبلايا التي تقع في الأمة؛ لأنه يسرع مباشرة بردود الأفعال العنيفة التي لم توزن، ومع أنه من أوعية العلم، يعني: عنده علم كثير، فالعلم وحده لا يكفي، والسن له أثر في الفتيا، وفي النظر في الأمور، وما إلى ذلك، فكون الناس يرجعون إلى من جرب الأمور، وخبرها، واستقر عقله ومداركه، هو الأفضل، وقد يكون غيره أكثر حفظًا منه، ولكن هذا السن يؤثر، وقد رُئى هذا في الناس، فقد يوجد في بعض منهم في مقتبل العمر من الحافظة والجمع للعلم أكثر بكثير ممن جاوزوا الستين وما إلى ذلك، لكن إذا سمعت كلام هؤلاء، وتقريرات هؤلاء ترى الفرق، فهذه الخبرة مع العلم، والممارسة الطويلة للفتيا، وما إلى ذلك؛ تجد عنده من الاستقرار، وحسن النظر ما لا يوجد عند غيره؛ ولذلك ينبغي مراعاة مثل هذه الأمور، وأن الإنسان في نفسه لا يستعجل، ثم يقرر أن هذه الأشياء لا محيد عنها وإلى آخره في قضايا قابلة للأخذ والرد، فقد يغير رأيه كما هو معلوم، فالسن يؤثر.

العقل نوعان:

عقل غريزي فطري، فهذا يهبه الله ، ويتفاضل الناس فيه.

وعقل بالتجارب، العقل المكتسب، والله المستعان.

في قوله - تبارك وتعالى -: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، "أوزعني" قال: أي: ألهمني، ابن جرير يقول: أغْرِني بشكر نعمتك، والإلهام في ألهمني أن أشكر يعني: ادفعني لذلك، أغرني به، ألهمني إياه، الأكثرون يفسرونه بالإلهام، حتى بعض من ذكر معاني قريبة مثل: الإغراء بالشيء، أو نحو ذلك، أو الدفع بهذا الاتجاه يذكرون الإلهام أيضًا: ألهمني ذلك.

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، يقولون: أصله من وزعتُ الرجل على كذا يعني: دفعته عليه، الحافظ ابن القيم  - رحمه الله - ذكر أنه يرجع إلى معنى: ألهمني ذلك، واجعلني مُغرًى به، وكُفَّني عما سواه، فجمع بين المعنيين: أغرني وألهمني، بمعنى: وفقني لهذا، وألهمني إياه، واحملني عليه، فالإنسان يحتاج إلى أن يوفق للشيء، وأن يعان على فعله، ولذلك يقول: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، ما الذي أنعمه الله على والديه؟ ما هي نعمته عليه وعلى والديه؟ هي: نعمته بالخلق، وبالإيجاد، وبالنعم، ربّاهم، وغذاهم بنعمه الظاهرة والباطنة، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب، وهداهم للإيمان، واختارهم من بين الناس ليكونوا من أهل الإيمان، وأنعم عليهم بالمال، وأنعم عليهم بنعم كثيرة ظاهرة وباطنة، فهذا كله داخل تحت قوله: نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، ولا يقيد هذا بأن نعمته على والديه: أن الله أغراهما بالعطف والحنو عليه مثلاً، لا، بل كل النعم داخلة في ذلك.

  1. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص ، رقم: (1748)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة العنكبوت، رقم: (3189)، وأخرجه أبو داود الطيالسي، أحاديث سعد بن أبي وقاص ، رقم: (205)، ولم أجده في سنن أبي داود، ولا سنن النسائي.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، رقم: (5971)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، رقم: (2548).
  3. أخرجه ابن أبي حاتم، في تفسيره (10/ 3293)، رقم: (18566).