وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:17-20].
يقول ابن كثير - رحمه الله -: لما ذكر تعالى حال الداعين للوالديْن البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين، فقال: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا، وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف مردود؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.
روى البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مَرْوان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان - ا -، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر – ا - شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة - ا -، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي، فقالت عائشة - ا - من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عُذرِي"[1].
طريق أخرى: روى النسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سُنَّة أبي بكر وعمر - ا -، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر – ا -: سُنَّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا الآية، فبلغ ذلك عائشة -ا - فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه، فمروان فَضَضٌ من لعنة الله[2].
فقوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي الآية، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء... إلى آخره، هذا هو الذي يقال له: المناسبة، هنا ابن كثير لم يصرح أن هذه هي المناسبة، ولكن هذا معروف، وهو كثير في هذا التفسير، ويُعنَى به بعض المفسرين عناية خاصة، ومن أعظمهم عناية بهذا - كما هو معلوم - البقاعي في كتابه نظم الدرر، وهذا تفسير كبير يزيد على العشرين مجلدًا، عنايته الأولى في المناسبات، يعني: وجه الارتباط بين الآية والتي قبلها، وهو نوع من أنواع المناسبات.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي، يقول ابن كثير: وهذا عام في كل من قال هذا، بأي اعتبار؟ باعتبار أنه لم يثبت أنها نزلت في معين - أي: أنها نزلت بسبب خاص -، فليس لها سبب نزول، وحتى لو ثبت لها سبب نزول خاص فإن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، ومن ثَمَّ فإن القول فيها باعتبار العموم من جهة أن الذي صيغة من صيغ العموم، فالعموم له صيغ لفظية كما هو معلوم، ويأتي أيضًا من جهة المعاني، ومن صيغه اللفظية: الأسماء الموصولة، مثل: الذي، ونحو ذلك، فهو بمعنى: الذين، ويدل على هذا أنه جاء بعده بصيغة الجمع؛ لأن الله قال بعده: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، فـالذين هنا مفسر لما قبله من قوله: الذي، وهذا كثير في القرآن.
أما ما ذكره مروان فقد ردته عائشة - ا -، وهي أعلم بكتاب الله منه.
وقوله هنا: "طريق أخرى: روى النسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه.." إلى آخره، هذه الرواية صححها الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، وأعلّها الذهبي بالانقطاع.
وقول عائشة - ا - هنا: "فمروان فَضَضٌ من لعنة الله" يعني: قطعة من لعنة الله، باعتبار أن النبي ﷺ لعن أباه وهو في صلبه، يعني: قبل أن يولد مروان، فهذه أعلها الذهبي بالانقطاع، وعلى فرض صحتها فإن مثل هذا قد يقال فيه: إن لعن الوالد لا يلحق الولد ولو كان في صلبه، يعني: قبل أن يولد، فلعن الآباء لا يلحق الأبناء إذا لم يكونوا على سيرتهم وطريقتهم، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وأصحاب النبي ﷺ كان آباؤهم من الكفار في أغلبهم، وإن وُجد بعض الصحابة من كان أبوه مؤمنًا، وجدّه مؤمنًا، لكن الغالب أن أكثرهم كفار، وبعض هؤلاء لعنهم النبي ﷺ يعني بعض الآباء -، ومع ذلك فإن هؤلاء الأولاد كانوا من خيار الصحابة ، هذا بالإضافة إلى أن النبي ﷺ لعن بعض من ذُكر له عمله ممن ينتسب إلى الإسلام، وأخبر النبي ﷺ أو سأل ربه أن يجعل لعْن مَن لعنه - يعني من المسلمين - أن يجعله عليه صلاة ورحمة[3]، فإذا كان مَن توجه إليه اللعن بعينه يقول فيه النبي ﷺ هذا، فكيف بمن جاء اللعن في حق أبيه - لو صح -؟!، والنبي ﷺ لعن أقوامًا وهم في الكفر، ولعن قبائل بأكملها، ومع ذلك أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامه، لكن الأصل أن المعرة والمذمة التي تتوجه إلى الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، هذه هي القاعدة، ولهذا نجد في القرآن كثيرًا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، مع أن الذين قالوا هذا هم الأجداد، وهكذا في مواضع كثيرة من كتاب الله يخاطب الله بني إسرائيل بهذه الصيغ - صيغ المخاطبين -، والذين عاصروا النبي ﷺ لم يقع منهم هذا الفعل، سواء كان ذلك في مقام الذم، أو كان في مقام الإفضال، والإنعام، والامتنان، كقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49]، وقوله: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]؛ لأن النعمة الواقعة على الآباء لاحقة للأبناء، هذا هو الأصل، والعكس: المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم.
وقوله: أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي: قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ أي: يسألان الله فيه أن يهديه، ويقولان لولدهما: وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
هذا دليل على أن قول مروان غير صحيح؛ لأنه قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وعبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، فهذا يدل على أنه غير مراد، ولو حق عليه القول لما دخل في الإسلام، وذكرنا في تفسير سورة المسد أن ما ذكره الله فيها من قوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، أن هذا حكم عليه بأنه من أهل النار؛ ولهذا لم يسلم، وهذا من إعجاز القرآن، أخبر بأمر غيبي، وتحقق، فهنا لو كان عبد الرحمن بن أبي بكر هو المراد بهذه الآية لما دخل في الإسلام، ولا يقال مثل هذا في رجل من المسلمين فضلاً عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، ولكن الناس قد يتحدثون في حال الغضب بما يكون خارجًا عن وجه الحق، والله المستعان.
وقوله: وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ هذا خرج مخرج الشفقة من الأبوين على الولد؛ فإن أعظم ما يشق عليهما هو: انحراف الولد عن الصراط المستقيم، فجيء بلفظ الاستغاثة هنا.
وقوله: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: أحاديث الأولين وأباطيل الأولين التي سطروها في الكتب مما لا حقيقة له، والله المستعان.
وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني: وجب، أي: حقت كلمة العذاب والشقاء على هؤلاء أنهم أصحاب النار، وأنهم لا يؤمنون كما قال الله : وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وقال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس:7].
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأحقاف:17]، رقم: (4827).
- أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب التفسير، سورة الأحقاف، قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا، رقم: (11427)، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (7/722): إسناده صحيح.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي ﷺ، أو سبه، أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرًا ورحمة، رقم: (2601)، ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته، أو لعنته، أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة.