الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

حم ۝ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ۝ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:1-6].

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد - صلوات الله عليه دائما إلى يوم الدين.

فهذه السورة سورة الأحقاف سميت بهذا؛ لورود ذلك فيها: إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ [الأحقاف:21]، وهذا اسمها المعروف، لا يعرف لها اسم سوى هذا، وهي سورة مكية بالاتفاق، وعامة أهل العلم يطلقون ذلك، يعني: أنها مكية من غير استثناء، هكذا جرى عامة أهل العلم عند الكلام على مكان نزولها، ولكن في ثنايا كلامهم يذكر بعضهم أنه يستثنى منها آية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10]، كما سيأتي، باعتبار أنها نزلت في عبد الله بن سلام، وهذا يحتمل - يعني حتى وإن نزلت فيه -، وذلك أن الآية قد تنزل قبل تقرير حكمها، والمقصود بالحكم ليس الحلال والحرام، كما ذكرت في مناسبات شتى، وإنما المضمون، ولكن ألفاظ المرويات الصحيحة في النزول تدل على أن هذه الآية نزلت في المدينة، يعني ليس مما نزل في مكة قبل تقرير حكمه، سيأتي مزيد إيضاح لهذا - إن شاء الله تعالى - عند الكلام على هذه الآية، أن من الألفاظ الواردة في المرويات الصحيحة ما يدل على أنها نزلت في المدينة، إلا إن قيل: إن ذلك تكرر، أي أنها نزلت مع السورة بمكة؛ لأن السورة مكية، ثم نزلت - أي هذه الآية - مرة ثانية في المدينة، هذا يحتمل، لكنه خلاف الأصل.

فيما يتعلق بالموضوع: هذه السورة في مجمل آياتها تتحدث عن الكافرين، وتحتج عليهم، الجاحدين للإيمان، والتوحيد، والوحي، والنبوة، والقرآن، وتذكر المؤمنين، وتتوعد الكافرين، وتعد المؤمنين، وكذلك أيضًا تذكر محال ملل الكفر، وطوائف الكفار الذين أهلكهم الله، كما تذكر أيضًا الجن الذين آمنوا بهذا الرسول ﷺ، وبما جاء به من القرآن.

في مجمل الآيات تتحدث عن هذا، وفي ثنايا ذلك عند الحديث عن أهل الإيمان أثنى الله - تبارك وتعالى - على صنف من عباده، وهم أولئك الذين إذا بلغوا مبلغًا من الرشد، عند قوله: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ.. [الأحقاف:15] إلى آخره، في سياق ذكر أهل الإيمان، وما يقابله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [الأحقاف:17]، فإن هذا من أوصاف الكافرين، لكن في موضوعها هي قريبة جدًّا من سورة الجاثية، ويوجد ارتباط فيما يتصل بالمعنى مع سورة الفتح في بعض الآيات، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في قوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [الأحقاف: 9]، ففي سورة الفتح ذكر فيها مغفرته له.

قوله - تبارك وتعالى -: حم سبق الكلام على الحروف المقطعة، وأن هذه الأحرف المقطعة ليس لها معنى في نفسها على الأرجح، وإنما هي تشير إلى الإعجاز أن هذا القرآن مركب من هذه الأحرف، ومع ذلك أنتم عاجزون عن المجيء بمثله، ولا بسورة واحدة، ولذلك لا تكاد تذكر هذه الحروف المقطعة إلا ويذكر بعدها القرآن، أو ما يدل عليه غالبًا، إلا فيما قل من المواضع، مع أن بعض أهل العلم يتكلف لها تكلفات يحاول أن يقول: في جميع المواضع.

وقوله - تبارك وتعالى - هنا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ: مضى الكلام على هذا في سورة الزمر، وفي سورة غافر أيضًا، في سورة الزمر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وفي سورة غافر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2]، وأيضًا في سورة الأحقاف هنا في هذا الموضع الذي نتكلم فيه.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ: هذا تنزيل، يعني يكون "تنزيل" خبرًا لمبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ، والخبر: الجار والمجرور مِنَ اللَّهِ، مضى الكلام على هذا.

ويذكر الله هنا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، وفي سورة الزمر، وفي المواضع الأخرى يذكر الكتاب، وأن الله - تبارك وتعالى - نزل الكتاب، هنا قال: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وفي سورة الزمر: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1].

الشنقيطي - رحمه الله - يذكر أنه دل استقراء القرآن -كما ذكرنا في الزمر- على أن الله إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك بذكر أسمائه الحسنى، ففي الجاثية تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:2]، كذا في الأحقاف، وفي غافر: الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2]، وفي فصلت: تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت:2]، وهكذا.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير: ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال.