إِلَّا بِالْحَقِّ هذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، هذا الذي يذكره عامة المفسرين، ابن جرير - رحمه الله - يقول: إلا لإقامة الحق والعدل في الخلق، الشنقيطي - رحمه الله - ذكر المعنى السابق: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، ثم ذكر أوجهًا في ذلك من استقراء القرآن قد لا تجدها في كتاب من كتب التفسير، ذكر هذه الأوجه، استنبطها، واستخرجها من القرآن، وذكر ما يدل عليها، وأورد النصوص الدالة عليها، أعطيك فقط رءوسًا من هذه الأشياء التي ذكرها[1]، يقول: إلا خلقًا متلبسًا بالحق، يعني: أنه خلقهما لحكم باهرة، ولم يخلقهما باطلاً، ولا عبثًا، ولا لعبًا، ثم بدأ يذكر هذه الأوجه، يقول: فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسًا به: إقامة البرهان - هذا أولاً - على أنه الواحد المعبود وحده - جل وعلا - كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف، كقوله في البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]، ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إلى أن قال: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، وهنا يقول في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله لَآيَاتٍ بعد قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يقول: هذا واضح في أنه خلق السموات والأرض خلقًا متلبسًا بالحق؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله هو أعظم الحق.
طبعًا الشنقيطي يذكر أنه في مواضع كثيرة جدًّا في القرآن يقرر الله فيها أن الذي يستحق العبادة هو من خلق، ويورد على هذا نصوصًا كثيرة جدًّا، يحسن مراجعته، يقول: كقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا إلى أن قال: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، ويورد في هذا أشياء كثيرة، لكن من الأوجه الداخلة تحت قوله في المعنى: خلقًا متلبسًا بالحق، يقول: وقد بين - جل وعلا - أن من الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما خلقًا متلبسًا به تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علمًا، وذكر الآية: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، يقول: هذا مما يدخل في ذلك، خلقًا متلبسًا بالحق لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يقول: وبه تعلم أن خلقه السموات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن، ما جعل ذلك، ما خلقه إلا خلقًا متلبسًا بالحق.
ومن الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما خلقًا متلبسًا به هو: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جازاهم على أعمالهم، كما قال في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7]، فاللام للتعليل، متعلقة بقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فهذا من التلبس بالحق في خلقهما، وذكر أيضًا آية الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، وقوله في الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2].
يقول: ومما يوضح أنه ما خلق السموات والأرض إلا خلقًا متلبسًا بالحق قوله في آخر الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وكذلك أيضًا يذكر من ذلك مجازاة الناس بأعمالهم كقوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31]، يعني: خلقهما من أجل أن يجزي الناس، وهكذا، وهنا أيضًا تُراجع هذه المواضع.
يعني أن قوله في قوله تعالى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، أي: وبتقدير أجل مسمى، هذا الذي رجحه الشنقيطي، وهذا الأجل هو يوم القيامة، وقال بهذا جماعة من المفسرين، هذا هو الأجل المسمى، يعني أنه في يوم القيامة تتغير أحوال هذا العالم، كما قال الله - تبارك وتعالى - وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، هذا حال السموات، والأرض قال عنها: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، وذكر تغير أحوال هذا العالم العلوي والسفلي، وتبديل الأرض مثلاً: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، فهذا الأجل المسمى هو يوم القيامة، وبعضهم يقول: المقصود بالأجل المسمى انتهاء أجل كل فرد من أفراد هذه المخلوقات، يعني سواء كان ذلك يوم القيامة أو قبله، يعني الناس يموتون، فهذا أجلهم، هناك أشياء تتحول وتتغير قبل يوم القيامة من هذه المخلوقات.
ابن جرير يقول: وإلا بأجل لكل ذلك معلوم عنده يفنيه إذا هو بلغه، وهذا لا يخالف ما سبق، بل يرجع إلى ما سبق.
وَأَجَلٍ مُسَمًّى: محدد عند الله - تبارك وتعالى - لا يتبدل، لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي: لاهون.
عَمَّا أُنْذِرُوا "ما" هذه يحتمل أن تكون موصولة، يعني عن الذي أنذروا، أي معرضون عن الذي أُنذروه، ويحتمل أن تكون مصدرية، يعني "عما أنذروا" أي: عن الإنذار معرضون.
الإنذار معروف وهو إعلام مقترن بتهديد، يعني كل إنذار فهو إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، فالإعلام المقترن بتهديد هو الإنذار، وقال سبحانه: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام: 4] كما ذكر الله هنا عن هؤلاء: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، وكما قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6].
- انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 209) وما بعدها.