الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُۥ بِٱلْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦٓ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّا ٱللَّهَ إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:21-25].

يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ في تكذيب من كذب من قومه: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ، وهو هود ، بعثه الله إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف، جمع حِقْف وهو: الجبل من الرمل، قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار، وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.

قوله - تبارك وتعالى -: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، ابن كثير - رحمه الله - يقول: يقول تعالى مسليًا لنبيه ﷺ في تكذيب... على هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - يكون المعنى: وَاذْكُرْ يعني: في نفسك، الله يذكّره بهذا؛ ليصبره؛ ليسليه؛ ليخفف عنه، فيذكر له من قصص الأنبياء ما يكون به سلوة، أي سار على هذا الطريق وسلكه سالكون قبلك من الأئمة الكبار في الهدى ممن يقتدى بهم، ولقوا من أقوامهم ما لقوا من التكذيب والأذى، فلست بواحد في سلوكه، ومن ثَمَّ فيكون ذلك بمعنى: وَاذْكُرْ أي: في نفسك، ولكن يحتمل أيضًا أن يكون المراد: وَاذْكُرْ أي: لقومك؛ ليتعظوا ويعتبروا وينزجروا بما وقع لغيرهم، فالعاقل من وُعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، فهذه السورة مكية والنبي ﷺ لقي منهم من التكذيب ما لقي، وهم يعرفون خبر هؤلاء، وذلك في جزيرة العرب، فيذكرهم بذلك ويخوفهم؛ ليتعظوا، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، والآية تحتمل هذا وهذا، ويمكن أن يكون ذلك مرادًا بحيث إن الله يسليه بذلك ويذكره، وكذلك أيضًا يذكّر هؤلاء، فقد أخبر الله عن قصص هؤلاء المكذبين وغير المكذبين: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111]، يعتبر بها أهل الإيمان من أولي الأبصار والبصائر، وكذلك أيضًا يكون في ذلك من تثبيت فؤاد النبي ﷺ: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]، فإذا نزل عليه الوحي، وذكر له من أحوال هؤلاء الكبار حصلت له سلوة، إذا كان الإنسان يقول لغيره: ما وقع لك قد وقع لفلان، ووقع لفلان، ووقع لفلان ممن يقتدى بهم ويتأسى بهم فإن مثل هذا لا شك أنه يخفف عنه، فكيف إذا كان الله - تبارك وتعالى - هو الذي يقول له هذا، وينزل عليه به جبريل ﷺ، ونزول الملك بحد ذاته فيه من التثبيت ما لا يخفى.

وقوله - تبارك وتعالى -: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ هنا لم يسمه، ولكنه جاء في مواضع أخرى من كتاب الله - تبارك وتعالى - مصرحًا به، كقوله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]، والأخوّة هنا المراد بها: الأخوة في النسب؛ لأنه كان من نفس القبيلة، والأخوة كما سبق في بعض المناسبات تارة تقال للأخوة في النسب، كما في هذا الموضع، و تارة تقال للأخوة في الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وهذا هو الأكمل في إطلاقاتها، وتقال أيضًا للمتشاكلين في أمر من الأمور، المتشابهين فيها: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وقد تقال أيضًا لمن اشتركوا في أمر، كسكنى بلد، أو نحو ذلك، وهو أحد الأقوال في قوله - تبارك وتعالى - في سورة الأحزاب: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18]، بعضهم يقول: إنهم من نفس القبيلة، وبعضهم يقول: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ يعني: من المنافقين، فهذه أخوة في الاعتقاد، وبعضهم يقول: باعتبار أنهم في بلد واحد، فصاروا بهذا إخوة، فيصح إطلاق ذلك عليهم.

وقوله: الأحقاف جمع حِقْف وهو: الجبل من الرمل، قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف: الجبل والغار، وقال قتادة: ذُكر لنا أن عادًا كانوا حيًّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر.

الأحقاف: الذي عليه الجمهور أنها التي بأرض اليمن، والمقصود بها: الكثبان من الرمل، مثل الجبال من الرمل، وحال الربع الخالي معروف، فهي أمثال الجبال، ولهذا يقول الخليل: إن الأحقاف هي جمع حقف، وهو: الرمل العظيم المستطيل المعوج، وهذه معروفة، فهي أمثال الجبال، والطريق الذي يكون بينها يكون أشبه ما يكون بالطرق التي تكون بين الجبال تمامًا، وهي تلزم أماكنها عادة، يعني: هذه المنعطفات التي فيها ونحو ذلك باقية ثابتة، فلو جاء أحد وغير فيها ونحو ذلك عادت ورجعت، وهذا يدل على أنها لم تتغير من زمن هود ﷺ، يقول كثير من المؤرخين: إن عادًا من العرب البائدة، فهم كانوا في القدم، ومع ذلك هذه التضاريس كما هي، مع أن أسرع شيء في التحول والانتقال ببادي الرأي هو الرمال، هذه التي يسمونها الرمال المتحركة، فإذا كانت في هذا الموضع من ذلك الحين فهذا يدل على عدم التغير، والمدة التي كانت بين هود ﷺ وبين نوح ليست ببعيدة نسبيًّا إذا ما قرن هذا بالنبي ﷺ، يعني: هو أقرب إلى زمان نوح منه إلى عصر النبي ﷺ، فإذا كانت التضاريس لم تتحول ولم تتغير فهذا يدل على أن ما يذكره أهل الجيولوجيا وعلوم الأرض وما إلى ذلك أن هذا الكلام فيه نظر من أنها تحولت وتغيرت وإلى آخره، الله أعلم كيف يكون ذلك، ومتى يكون، لكن ليس هذا بهذه السهولة، إذا كانت كثبان الرمل باقية من ذلك الحين إلى اليوم، يعني: لم يندفن مثلاً اليمن أو حضرموت بهذه الكثبان، وزحفت عليه إلى البحر، هي باقية من ذلك الحين، وهذا موضعها، فلم تنتقل مع أنه ليس فيها نبت يذكر، وما يحجزها من التحول.

ابن زيد روايته الأخرى التي هي أكثر وضوحًا يقول: هي رمال مبسوطة مستطيلة، كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً، وبنحو هذا قال ابن جرير، وعن عطاء: رمال بلاد الشِّحْر، والشحر معروفة إلى اليوم بحضرموت، لكن ما يذكر من أن قبر هود ﷺ موجود هناك، ويعظم، ويعبد من دون الله هذا لا يثبت، كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: لا يثبت شيء من قبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مطلقًا، لا في الشام، ولا في غيرها، إلا قبر النبي ﷺ، ولهذا يوجد مكان في بلاد الشام يقال أيضًا: إنه قبر لهود ﷺ، وهود ﷺ لم يذهب إلى الشام، مع أنه وجد من المفسرين والمؤرخين من قال: إن الأحقاف ثمّة في بلاد الشام، ومقاتل يقول: هي في اليمن، في حضرموت، وهذا كله يرجع إلى معنى واحد.

وفي كلام العرب أسماء يطلقونها على مثل هذه الكثبان الرملية، لكل منها اسم بحسبه، الطويل الممتد له اسم، المستعلي الذي كأنه قمة جبل له اسم، الذي فيه انبساط له اسم، المطمئن في الأرض له اسم، فهذا يدل على سعة لغة العرب.

قوله: إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي: وقد مضت الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والرسل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.

قال ابن ماجه: باب إذا دعا فليبدأ بنفسه، ثم روى عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: يرحمنا الله وأخا عاد[1].

وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: وقد أرسل الله تعالى إلى مْن حوْل بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين، كقوله : فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66]، وكقوله - جل وعلا -: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ۝ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت:13-14].

قوله - تبارك وتعالى -: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يحتمل معنيين:

الأول: ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: من النواحي، فأرسل الله لهؤلاء الأقوام المجاورين رسلاً يدعونهم إلى الله، وإلى توحيده.

والمعنى الثاني: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: قبله وبعده، فهو واحد في سلسلة من هؤلاء الأنبياء الكرام، والرسل العظام - عليهم الصلاة والسلام -، وهذا الذي مشى عليه الفراء - رحمه الله -، ويدل عليه قراءة ابن مسعود ، وهي قراءة غير متواترة: من بين يديه ومن بعده، وقلنا: إن القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة، فقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني: من بين يديه ومن بعده، يعني: في الزمن، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وإذا كانت الآية تحتمل المعنيين، ولم يوجد ما يمنع من حملها عليهما فإنها تُحمل، فلو قال قائل: إن ذلك جميعًا حاصل فالله أرسل لهم الرسل من حولهم، وكذلك سبقه رسل، وجاء بعده رسل، فهذا كله صحيح، والله تعالى أعلم.

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: قال لهم هود ذلك، فأجابه قومه قائلين: أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا أي: لتصدنا عن آلهتنا.

يعني: لتصدنا، لتصرفنا، لتُزِيلنا، لتمنعنا مثلاً، كل هذه العبارات ترجع إلى شيء واحد، هكذا عبارات السلف في قوله تعالى: لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا.

فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادًا منهم وقوعه، كقوله - جلت عظمته -: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [الشورى:18].
 
  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب الدعاء، باب: إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه، رقم: (3852)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 377)، رقم: (4829).