الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، ويقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم - وبّخهم وقرعهم -: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، وقال أبو مجلز: ليفقدنّ أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا.

قوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "يقال لهم: أذهبتم طيباتكم"، فلم يتكلم عن هذا المقطع.

وبعضهم يقول: أي: يقربون منها، فينظرون إليها، فيقال لهم عند ذلك، يعني: أن الذين كفروا هم الذين يعرضون على النار، ومعنى يعرضون: يقربون منها، فيرونها أمامهم، فيقال لهم عندها.

وبعضهم فسر وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني: يعذبون، تقول: عرضت الذهب على النار يعني: أنك أحرقته فيها، أدخلته فيها، وهكذا في قولهم: عرضه على السيف.

وبعضهم يقول: الكلام فيه قلب، فقوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني: أن النار هي التي تعرض عليهم، والقلب أسلوب من أساليب العرب في كلامها ومخاطباتها، هذا أسلوب معروف يعرفه أهل البلاغة، وله شواهد يذكرونها من القرآن، ومن كلام العرب في شعرهم ونثرهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس - ا -، يقولون: مثل قول القائل: عرضتُ الناقة على الحوض، يقولون: الأصل عرضْتُ الحوض على الناقة، ويقولون هكذا أيضًا في قوله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [الكهف:100]، هذا مثل هذا الموضع، فبعضهم يقول: إن هذه الآية تكون مفسِّرة، فقوله: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ لا تكون مقلوبةً إذا قيل: إن هذا الموضع الذي في سورة الأحقاف مقلوب، وهو قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، ففي سورة الكهف قال: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ فهي التي تعرض عليهم، فيكون ذلك من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.

قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا يعني: يقال لهم ذلك، واختصر؛ لأن العرب تختصر من الكلام ثقة منها بفهم السامع، وهذا له أمثلة كثيرة.

أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ أي: يقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، وقرأ هذا الحرف ابن كثير  - رحمه الله - بهمزتين مخففتين: أَأَذْهَبْتُمْ، ويكون على سبيل الاستفهام، والعرب - كما يقول بعض أصحاب معاني القرآن كالفراء والزجاج - توبخ بالاستفهام، وبغيره، فقوله: أَأَذْهَبْتُمْ تكون الهمزة الأولى همزة الاستفهام، أي: يوبخهم، وعلى القراءة الثانية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا بهمزة واحدة، فلا يكون ذلك من قبيل الاستفهام، وعلى كلا القراءتين يكون ذلك توبيخًا لهم.

قوله: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا يوبخون بهذا.

ابن كثير - رحمه الله - نقل عمن قال من السلف: ليفقدنّ أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، وقبله يقول: وقد تورع أمير المؤمنين عمر عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، يقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ.

هذه مسألة معروفة: هل الاستمتاع بالطيبات في الدنيا والتوسع في الملذات يكون على حساب النعيم الأخروي أو لا؟

هذه الآية في الكفار، فالكفار جاءت الآيات الكثيرة بأنهم يتمتعون، وأن الله يمتعهم قليلاً، ثم بعد ذلك يضطرهم إلى عذاب النار، لكن بالنسبة لأهل الإيمان: هل ما يتعاطونه من اللذات والطيبات يكون نقصًا في نعيم الآخرة؟ عمر كان يتحرز من التوسع في المباحات واللذات احتجاجًا بهذه الآية، والصحابة نُقل عن بعضهم: أنه كان يتخوف أن تكون قد عجلت له حسناته في الدنيا، لما صاروا إلى حال من السعة، والغنى، بعدما قضى أصحابهم من الأولين ، كمصعب بن عمير، وحمزة، وأمثال هؤلاء ، ممن ماتوا في أول الهجرة، أو ماتوا قبل الهجرة وكانوا في حال من الشدة، ولم يروا تلك الفتوح وما أفاض الله على المسلمين من جراء ذلك، فكان بعض الصحابة يبكي، جاء هذا عن بعضهم كصهيب الرومي ، وغيره.

وهذا القول وإن قال به بعض السلف إلا أن الجمهور على خلافه - الجمهور من الصحابة فمن بعدهم -، والنبي ﷺ يقول: حُبب إليّ من دنياكم: النساء والطيب[1]، وكان ﷺ يحب الحلو البارد[2]، فكان النبي ﷺ يأكل ما تيسر، والله يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فهم كما يشاركهم فيها غيرهم من الكفار في الدنيا إلا أنها تكون خالصة لهم يوم القيامة، فهذا الذي عليه الجمهور أن ذلك لا يكون نقصًا في نعيمهم في الآخرة، وفي حديث أنس عند مسلم: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها، وفي لفظ: إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته[3]، فهذا يدل على هذا المعنى: أن ذلك لا يكون نقصًا لنعيمهم في الآخرة، والشاطبي - رحمه الله - تكلم على هذا المعنى في الموافقات، وتكلم عليه أيضًا غيره، لكن ابن القيم - رحمه الله - له كلام من وجه آخر فيمن تعاطى اللذات المحرمة، هل يحرم في الجنة من هذا النوع من اللذات؟ الحديث دل على أن من شرب الخمر في الدنيا ثم مات ولم يتب فإنه لا يشرب من خمر الآخرة[4]، هذا في الخمر خاصة، لكن هل يقال ذلك في غير الخمر؟ يعني: مثلاً الذي يلبس الحرير من غير عذر في الدنيا، ما حكمه؟ الذي جاء فيه النص لا إشكال في ذلك، لكن ما لم يرد فيه نص كالذي يزني، ويموت وما تاب، هل يقال: إنه لا يكون له من جنس هذا النعيم، أعني: الوقاع في الجنة، فلا يتمتع بالحور العين، ونحو ذلك؟، ظاهر كلام ابن القيم - رحمه الله -: أنه يحرم من النعيم الذي يكون من هذا القبيل، وهذا يحتاج إلى دليل، وهذه الأمور لا يجري فيها القياس.

وقوله : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم، واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي جازاهم الله - تبارك وتعالى - بعذاب الهون، وهو: الإهانة، والخزي، والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله.

قوله هنا: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ يعني: الهوان، بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ الباء هذه سببية، يعني: بسبب استكباركم، فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، هل يوجد أحد يستكبر في الأرض بحق؟.

الجواب: لا يوجد استكبار في الأرض بحق، فهذا كقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، هل هناك أحد يقتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بحق؟ لا يوجد، وكقوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]، فهل هناك أحد يدعو مع الله إلهًا آخر له فيه برهان؟ لا، فمقتضى مفهوم المخالفة - وهو حجة عند الجمهور كما هو معلوم - أن من دعا غير الله ببرهان فلا حرج عليه، من قتل الأنبياء بحق فلا حرج عليه، أليس كذلك؟ هذا مقتضى مفهوم المخالفة؛ إلا أن مفهوم المخالفة لا يحتج به في نحو سبعة أو ثمانية مواضع، من هذه المواضع: أن تكون الآية نزلت على وفاق الواقع، يعني: لا يوجد أحد يقتل نبيًّا بحق، لا يوجد أحد يدعو مع الله إلهًا آخر ببرهان، فلا تكون هذه الصفة مقيدة، فلا مفهوم لها، وإنما هي صفة كاشفة، تكشف عن حقيقة الأمر؛ لأنه لا يكون إلا كذلك أصلاً، كقوله تعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] هل هناك أحد يكتب بغير يده؟ وقوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:167]، وقوله: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، الطائر يطير بماذا؟ يطير بجناحيه، فهي صفة كاشفة، ومن ثَمَّ المخالفة لا مفهوم لها، فهنا حينما يقال لهؤلاء: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لا مفهوم للمخالفة؛ لأنه لا يوجد أحد يستكبر في الأرض بحق؛ لأن الاستكبار لا يصلح للمخلوق.

  1. أخرجه أحمد، رقم: (12293)، والنسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته، رقم: (3124).
  2. أخرجه أحمد، رقم: (24100)، والترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أيّ الشراب كان أحب إلى رسول الله ﷺ؟ رقم: (1895)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته، رقم: (4627).
  3. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، رقم: (2808).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [المائدة: 90]، رقم: (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، رقم: (2003).