الثلاثاء 24 / صفر / 1447 - 19 / أغسطس 2025
فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوٓا۟ إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍۭ ۚ بَلَٰغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْفَٰسِقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال - تبارك وتعالى - آمرا رسوله ﷺ بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي: على تكذيب قومهم لهم، وأولو العزم هم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء كلهم محمد ﷺ، قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى.

قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، أولو العزم يعني: أصحاب العزائم العظيمة، والثبات العظيم على الحق، وعلى دعوة قومهم، والصبر العظيم على الأذى الذي لقوه في سبيل ذلك، فالله - تبارك وتعالى - هنا لم يحدد هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ولهذا اختلف أهل العلم فيهم اختلافًا كثيرًا، وقد مضى الكلام على ذلك في الكلام على سورة الشورى، والكلام على سورة الأحزاب، وهنا يشير إلى هذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "وقد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى"، فآية الأحزاب قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، وآية الشورى قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فهاتان الآيتان يذكر كثير من أهل العلم أنهما مفسرتان لهذه الآية من سورة الأحقاف، في كل من هاتين الآيتين لم يذكر ذلك على أنه من قبيل ما ذكر هنا في سورة الأحقاف، أي: ما ذُكروا على أن هؤلاء هم أولو العزم، يعني هناك في آية الأحزاب في أخذ الميثاق: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7] إلى آخره، فذكر جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ، ثم خص هؤلاء، ففُهِم منه أن هؤلاء لهم مزية.

فقوله: مِنَ النَّبِيِّينَ أي: من كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فلما ذكر هؤلاء الخمسة -خامسهم النبي ﷺ فُهِم أن هؤلاء لهم مزية على بقية الأنبياء، لكن السياق في أخذ الميثاق، وكذلك في آية الشورى فيما شرَّعه الله من الدين: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا إلى آخره، فهذا في هذا السياق، وإلا فما الفرق بين هذا وبين قوله - تبارك وتعالى - في مقام الإيحاء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [النساء:163]، ففي هذا السياق في مقام الإيحاء ذكر فيه هؤلاء، فلماذا لا تفسر آية الأحقاف بهذا مثلاً؟ وهؤلاء الأنبياء المذكورون هنا غير الأنبياء المذكورين في الآيتين من سورة الأحزاب والشورى؛ ولهذا فإن أهل العلم اختلفوا في هذا كثيرًا، وقد مضى الكلام على هذا، يعني: بعض أهل العلم يقولون: كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم من أولي العزم، لكن هذا يرِد عليه إشكال؛ لأن الله قال لنبيه ﷺ: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، وهو يونس ﷺ، فهذا يُشكل على ما ذُكِر: أن جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من أولي العزم، وبعض أهل العلم يذكر أيضًا آدم ﷺ لقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، لكن قد يُرَدّ على هذا بأن آدم ﷺ لم يكن من الرسل، وإنما كان نبيًّا، فأول الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هو نوح ﷺ.

على كل حال القول بأن أولي العزم هم هؤلاء الخمسة هو قول مشهور يذكره كثير من أهل العلم، وممن قال به من السلف مجاهد - رحمه الله -، أنهم هؤلاء الخمسة، ويستدلون على هذا بالآيتين السابقتين، وبعضهم كأبي العالية يقول: هم ثلاثة: نوح وإبراهيم وهود، وبعضهم كالسدي يقول: إنهم ستة إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد ﷺ، وبعضهم يقول: هم ستة فيذكر نوحًا وهودًا وصالحًا وشعيبًا ولوطًا وموسى - عليهم الصلاة والسلام -، وابن جريج يقول: منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس، الشعبي والكلبي يقولان: هم الذين أُمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة، يعني: ذكرا لهم صفة ولم يعينا أسماءهم، قالا: الذين أُمروا بالقتال هم أولو العزم، وبعضهم يقول: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84] فذكر ثمانية عشر رسولاً: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، هذا قال به بعض أهل العلم كالحسين بن الفضل، واحتج بقوله تعالى بعد ذكرهم في سورة الأنعام: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]، قالوا: فالنبي ﷺ مأمور بالاقتداء بهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وبعضهم يقول: اثنا عشر أرسلوا إلى بني إسرائيل، وهذا بعيد، والحسن البصري يقول: هم أربعة: إبراهيم وموسى وداود وعيسى.

وهذه الأقوال جميعًا - والله أعلم - كما ترون تدل على أن هذه المسألة ليست محل اتفاق، وإن كان المشهور الذي ربما لم نسمع أو لم يسمع الكثيرون غيره أنهم خمسة، لكن هذا لا دليل عليه، فالله أمر نبيه ﷺ بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، أصحاب العزائم العظيمة، والثبات العظيم على الحق، والتحمل لأعباء الدعوة، فكل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - الذين يصدق عليهم هذا الوصف داخلون فيه من غير تحديد، ولا شك أن هؤلاء الخمسة - عليهم الصلاة والسلام - من أولي العزم من الرسل، وهم من أفضل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه.

ومِنَ هنا في قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ على القول بأنهم بعض الرسل: تبعيضية، وعلى القول بأنهم جميع الرسل تكون "مِن" بيانية.

وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم، كقوله - تبارك وتعالى -: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل:11]، وكقوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17].

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، كقوله : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46]، وكقوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45] الآية.

يعني: مدة البقاء في الدنيا حينما يكون هؤلاء في القيامة تكون بهذه المثابة، كأنهم ما بقوا في الدنيا إلا ساعة واحدة؛ وذلك لسرعة تقضِّي هذه الحياة، وكما سبق في عدد من المناسبات: أن هذا الأمر يجده الإنسان فيما مضى من أيامه، والحياة التي مضت كأنها أحلام أو كأنها ساعة.

وقوله - جل وعلا -: بَلَاغٌ أي: إن هذا القرآن بلاغ.

يعني: كما قال الله  هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ [إبراهيم:52] وقوله: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106] وهكذا، فيكون: بَلَاغٌخبرًا، يعني: هذا بلاغ، أي: خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ: "هذا"، أو يقدر نحو هذا.

والبلاغ هنا بمعنى: التبليغ، أو هذا الذي وعظتم به بلاغ، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الساعة التي في قوله: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ أي: هذه الساعة بلاغ، أو ذلك اللبث بلاغ، أي: بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، لكن الأول أقرب وهو: أن هذا القرآن بلاغ، كما دل عليه ما ذكرت مما يفسره من كتاب الله - تبارك وتعالى.

وقوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، والله أعلم.

آخر تفسير سورة الأحقاف، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.