السبت 21 / صفر / 1447 - 16 / أغسطس 2025
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُۥ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ۖ كَفَىٰ بِهِۦ شَهِيدًۢا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ۖ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:7-9].

يقول ابن كثير - رحمه الله -: يقول مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات، أي: في حال بيانها ووضوحها وجلائها، يقولون: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: سحر واضح، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ يعنون: محمداً ﷺ، قال الله : قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لو كذبتُ عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك - لعاقبني أشد العقوبة، ولم يَقْدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، كقوله: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ۝ إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ [الجن:22-23]، وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]؛ ولهذا قال هاهنا: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، هذا تهديد لهم، ووعيد أكيد، وترهيب شديد.

فيخبر الله - تبارك وتعالى - عن هؤلاء الكافرين إذا سمعوا آيات الله تتلى كذبوا بها وقالوا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، أي: سحر بيِّنٌ واضح، مع وضوح هذه الآيات، وما فيها من الهدايات، والله - تبارك وتعالى - قد أخبر في مواضع من كتابه عن قول المكذبين للرسل - عليهم الصلاة والسلام - في كل زمان أنهم قالوا عما جاءت به الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -: إن هذا سحر مبين، وقالوا عن هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - مثل ذلك، قال فرعون والملأ من قوم فرعون عن موسى : إنه ساحر، وحينما خاطبوه، وطلبوا منه أن يدعو الله لهم قالوا: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ [الزخرف:49]، على اختلاف بين أهل العلم في توجيهه، فالمقصود أن هذه سنّة المكذبين.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، "أم": هذه منقطعة، يعني: هي منقطعة بمعنى: بل والهمزة، ويمكن أن تكون أيضاً مع ذلك للإضراب، فيكون المعنى: دع هذا، واسمع قولهم المُستنكَر؛ لظهور كذبهم فيه، فيقولون: إن النبي ﷺ قد اختلقه، قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يعني: أن الله - تبارك وتعالى - يعاقبه على ذلك، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ  الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44 - 47]، قال آمرًا له أن يجيب عن مقالتهم هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ، أي: تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء بمعنى: الاندفاع والخوض فيه، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ، يعني: بما تقولون في هذا القرآن من التكذيب، وأنه سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين، أو نحو ذلك، كما يقول ابن جرير - رحمه الله - عند هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ يقول: أفاضوا في حديثهم عن كذا بمعنى: اندفعوا يتحدثون عن هذا الأمر.

وقوله - جل وعلا -: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترغيب لهم في التوبة والإنابة، أي: ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر ورحم.

وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۝ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:5-6].

وقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، أي: لست بأول رسولٍ طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني، وتستبعدوا بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله - جل وعلا - قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.

هنا قوله - تبارك وتعالى -: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بعد ذكر مقالتهم في القرآن، وأن النبي ﷺ افتراه، وكذا في قولهم: إن هذا القرآن سحر مبين، هذا كله من المواضع الدالة على الرجاء، فالله - تبارك وتعالى - يرجّيهم بالتوبة والإنابة إليه، ويذكر مغفرته لهؤلاء، وهذا لا شك أنه يدل على سعة رحمته، كما قال - تبارك وتعالى - في أصحاب الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] أحرقوا أهل الإيمان، أحرقوا أولياءه، وحينما توعدهم قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، ولما ذكر مقالة النصارى في نسبة الصاحبة والولد إلى الله - تبارك وتعالى - دعاهم إلى التوبة بألطف عبارة: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة: 74]، بهذه العبارة اللطيفة، فهذا وأمثاله يدل على هذا المعنى، فهنا هؤلاء يقولون في القرآن هذه الأقوال الشنيعة، ثم تختم هذه الآية بقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.