الخميس 19 / صفر / 1447 - 14 / أغسطس 2025
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

أما قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، فيقول: أي: لست بأول رسول طرق العالم؛ بل جاءت الرسل من قبلي.

البِدْع من كل شيء هو: المبدأ، والابتداء معروف يعني: الشيء الذي لا نظير له، الشيء المبتكر، يعني: ما أنا بأول رسول حتى تستغربوا، وتستنكروا، وتستنكفوا من الإيمان، وهذا المعنى هو الذي عليه المفسرون سلفًا وخلفًا، وبنحو هذا قال ابن جرير، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع - والله يقول: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] الآية، فالله - تبارك وتعالى - قد جرت سنته أن يختار من هؤلاء البشر من يصطفيهم لرسالته، وينزل عليهم وحيه، فلم يكن النبي ﷺ ببدع في هذا الأمر.

وبعض أهل العلم يقول: إن المراد بقوله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ : ما أنا بأول رسول، وبعضهم يقول: إن الشيء البديع هو الذي لم يُرَ مثله، وكلها عبارات وأقوال مقاربة لهذا وترجع إليه، فهي بنفس المعنى، وترجع إلى المعنى نفسه، الشيء الذي ليس له مثال سابق يقال له: بِدْع، مُبْتَدَع.

وقوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في هذه الآية: نزل بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2][1]، وهكذا قال عكرمة، والحسن، وقتادة: إنها منسوخة بقوله - تعالى -: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بيّن الله تعالى ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله - تعالى -: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [الفتح:5][2]، هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية[3].

قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، هذا يحتمل أن يكون المراد بذلك في الدنيا، ومن ثَمَّ فإنه لا إشكال فيه، لا إشكال في المعنى، ويحتمل أن يكون المراد بذلك في الآخرة، وهذا موضع الإشكال، فهنا ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من قول هؤلاء من السلف من أنه نزل بعدها: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، وما ذكر من الروايات من كونها منسوخة: كل هذا باعتبار أن ذلك في الآخرة، وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، يعني: في الآخرة كيف تكون حالنا، وما نصير إليه، أن الله يدخلنا الجنة، ويرحمنا، أو أنه يعاقبنا، فهذا باعتبار أن ذلك في الآخرة، ويكون ذلك موضع الإشكال باعتبار أن الله - تبارك وتعالى - أخبر عن نبيه ﷺ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فكيف قال: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ؟، فهنا جاء عن هؤلاء من السلف أنها منسوخة، ولا يقصد بالنسخ: النسخ المصطلح عليه، أو المعروف، أو في عرف المتأخرين الذي هو بمعنى رفع الحكم المتقدم بخطاب متأخر متراخٍ عنه، فهذا لا يكون في الأخبار - وهذا خبر -؛ فإن وقوع ذلك في الأخبار تكذيب لها، وإنما يكون ذلك في الأحكام، ويمكن أن يقع في الخبر الذي بمعنى الإنشاء، يعني: الأمر والنهي.

وقولهم: إنها منسوخة، السلف كانوا يطلقون النسخ على معنى أوسع، وذلك كل ما يعرض للنص من تقييد للمطلق، وتخصيص للعام، وبيان للمجمل، إضافة إلى المعنى عند المتأخرين وهو: الرفع.

فالمراد هنا: أن هذه الآية بينت ذلك، أي ما يكون عليه حال النبي ﷺ أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحال أهل الإيمان: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

ويقول ابن كثير: هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية.

الذي في الصحيح هو نزول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1][4]، وليس فيه الكلام على هذا: أنهم قالوا له: هنيئًا لك يا رسول الله... إلى آخره، وإنما جاء هذا عن عكرمة مرسلاً، يعني: أن قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا سبب النزول في قصة الفتح، هذا لا إشكال فيه، هذا ثابت في الصحيح، ولكن ما بعده من قولهم: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لنا؟ هذا عن عكرمة مرسلا، وليس في الصحيح، بل لا يصح.

وقوله: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ بعض أهل العلم حمل ذلك على أنه في الدنيا، يعني: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، هل أخرج من مكة - لأن السورة مكية -، أو أبقى فيها؟، أو هل أُقتل؟، أو أنكم تدخلون في هذا الدين، ويظهرني الله على من خالفني، وناوأني، وما أشبه ذلك؟، هذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، أن هذا في الدنيا لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهذا الذي رجحه أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع -، ماذا يكون في شأنكم، وفي حقكم؟ هل تعجل لكم العقوبة في الدنيا كما وقع ذلك لأمم خلت، أو أن الله يمهلكم؟، هل تحصل لكم الهداية فتدخلون في الإسلام، أو غير ذلك؟، ما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

أو أن يكون المراد: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم فيما يفترضه الله عليّ، وينزل عليّ من الشرائع والأحكام في مستقبل الزمان، فأنا أتلقى عن الله - تبارك وتعالى - ولست مفتريًا عليه، لما قالوا: إنه افتراه، فيرد عليهم: مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يعني: أنا أستقبل من الله - تبارك وتعالى - هذا الوحي وهذه الهدايات، ولست بالذي يأتي بشيء من عند نفسه، فالله - تبارك وتعالى - ينزل عليّ وحيه وشرائعه وأحكامه، هكذا قال بعض أهل العلم.

وبعضهم - وهم الذين قالوا: إن ذلك في الآخرة، وقالوا: هي في حق النبي ﷺ وفي حق أتباعه - قالوا: هذه الآية منسوخة، يعني مبيَّنة بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ.

وبعضهم قال: إن هذا الخطاب: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ موجه لأتباعه، يعني النبي ﷺ يخاطب أتباعه، وأن الخطاب هذا ليس للمشركين، فالنبي ﷺ يقول لأتباعه: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ، حتى أعلمه الله كما سبق في آيتي الفتح، وهؤلاء كأنهم أخذوا ذلك مما سيأتي في قصة عثمان بن مظعون حينما مات، الحافظ ابن كثير ذكر هذا في الرواية التي ذكرها بعد هذا مباشرة.

روى الإمام أحمد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء - وهي امرأة من نسائهم - أخبرته وكانت بايعت رسول الله ﷺ قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون ، فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله ﷺ فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك أن الله – تعالى - أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله ﷺ: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: والله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان عينًا تجري، فجئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بذلك، فقال رسول الله ﷺ: ذاك عمله، انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم[5]، وفي لفظ له: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به[6].

الآن لاحظ هذه اللفظة: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، ابن كثير - رحمه الله - في الأصل يقول: "وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ؛ بدليل قولها: "فأحزنني ذلك"، يعني: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به؛ لأن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، وإنما يوحي الله إليه بشأن عثمان، وغير عثمان ، يعني في الآخرة هل هو في الجنة أو لا، والسياق في النهي عن التزكية.

فمثل هذا حينما تكون الرواية: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، يكون لا إشكال، فكأن الذين قالوا: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ: إن المراد في الآخرة نظروا إلى الرواية الأولى، قالوا: هذه موافقة للآية، لكن إذا كان محمل الرواية على هذا اللفظ: ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به، فهذا لا إشكال فيه، وتكون الآية باعتبار الدنيا، وهذا المعنى هو الذي رجحه الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- أيضاً، ورجح هذه الرواية، أنها هي المحفوظة.

وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة، وابن سلام، والغُميصاء، وبلال.

لأن عبد الله بن سلام شهد له النبي ﷺ بهذا، كما سيأتي في قوله - تبارك وتعالى -: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، سيأتي ما يدل على هذا المعنى: أن النبي ﷺ شهد له بالجنة، والغميصاء هي: أم سليم - ا - لحديث: دخلتُ الجنة فسمعتُ خَشْفة  - صوت حركة - بين يدي، فقلت: ما هذه؟، ثم ذَكر أنه أجيب بأنها الغميصاء، أو أم سليم - ا -[7]، فهذه شهادة لها بالجنة.

وبلال كذلك لمّا ذكر النبي ﷺ أنه سمع أيضًا صوت نعليه في الجنة[8].

وسراقة، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر.

لمّا ذكر النبي ﷺ أن الله كلمه كفاحًا[9].

والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة.

يعني: لاحظ هناك بعض هذه الأشياء يفهم منها ضمنًا، يعني: كمثل ما ذكر النبي ﷺ فيما أوحى الله إليه وكان قرآنًا يتلى ثم نسخ لفظه: "أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"[10].

وزيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء .

هؤلاء استشهدوا وشهد لهم النبي ﷺ في مؤتة، هؤلاء القادة الثلاثة .

طبعًا مَن شهد له النبي ﷺ بالجنة فهذا لا شك فيه، سواء كان ذلك صراحة أو ضمنًا، والذين شهد لهم النبي ﷺ أكثر من هؤلاء، وأكثر من العشرة، ومن أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مَن ذكر أن من استفاض في الأمة فضله فإنه يشهد له بالجنة، هكذا قال، يعني: مثل عمر بن عبد العزيز، مثل الإمام أحمد، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وأمثال هؤلاء، - رحم الله الجميع - أئمة المسلمين، هؤلاء الأئمة أئمة الهدى، فشيخ الإسلام - رحمه الله - يرى أن مثل هذه الاستفاضة تجعل الشخص يُشهد له بالجنة، فعنده أن مثل هؤلاء يُشهد لهم بالجنة، والوقوف مع النص أولى.

وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ أي: إنما أتبع ما ينزله الله عليَّ من الوحي، وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: بيِّن النّذَارة، وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل، والله أعلم.
  1. أخرجه الطبري في تفسيره: (22/ 99).
  2. أخرجه أحمد في المسند: (12374)، والطبري في تفسيره: (22/ 200)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 436).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم: (4172).
  4. المصدر السابق.
  5. أخرجه أحمد، رقم: (27457)، والبخاري، كتاب التعبير، باب العين الجارية في المنام، رقم: (7018).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، رقم: (1241)، وأحمد في المسند، رقم: (27457).
  7. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي ، رقم: (3679)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أم سليم أم أنس بن مالك، وبلال - ا -، رقم: (2456)، واللفظ له.
  8. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل بلال ، برقم: (2458).
  9. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة آل عمران، رقم: (3010)، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه، أبواب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله، رقم: (2800)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: (7905).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل قول الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169 - 171]، رقم: (2814)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم: (677).