الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَٰهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله : وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني: مكة.

أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله ﷺ، وهو سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟

فإنْ رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة، فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود:20].

قوله - تبارك وتعالى -: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ "كأي" هذه مركبة من "الكاف" و"أي" وهي بمعنى: كم، وتستعمل للتكثير: أن قرى كثيرة أهلكها الله كانت أعظم قوة، وأشد تمكينًا مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي من قومك الذين أخرجوك، أهلكهم الله - تبارك وتعالى.

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ يعني: وَكَم مِّن قَرْيَةٍ [الأعراف:4] هذا هو المعنى، والله أعلم.

وقوله تعالى: مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي: الذين أخرجوك من بين أظهرهم.

وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس - ا -، أن النبي ﷺ: لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه قال: فالتفت إلى مكة، وقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك فأعدى الأعداء من عدا على الله -تعالى- في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية، فأنزل الله - تعالى - على نبيهﷺ: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13][1].

قوله: عن ابن عباس - ا -، أن النبي ﷺ: لما خرج من مكة إلى الغار، وأتاه، فالتفت إلى مكة، وقال: أنتِ أحب بلاد الله إلى الله الحديث.

هنا السياق الذي ورد فيه هذا الحديث على أنه سبب نزول هذه الآية لا يصح.

ومن هنا قال بعض أهل العلم - كما سبق -: إن سورة محمد - كما هو معلوم - هي من السور المدنية بالاتفاق، لكن كما سبق أنه روي عن بعض السلف استثناء هذه الآية، بناءً على ماذا؟

بناءً على رواية في أسباب النزول، لكنها لا تصح، وهي أن النبي ﷺ قال ذلك حينما كان خارجًا إلى الغار، لما خرج من مكة في هجرته ﷺ.

وكثيرًا ما نجد من الأقوال في التفسير، سواء كان في استثناء بعض الآيات، في أنها مثلاً مكية، أو أنها مدنية، أو في بعض الأقوال التي لربما فيها غرابة في التفسير، ولا يساعد عليها السياق، كثيرًا ما نجد لو أجَلْنا النظر في كتب المأثور، نجد لها مستندًا من روايات قد لا تصح، بمعنى: أن هذا القول الذي ذكر في التفسير في كثير من الأحيان له مستند، لو أنك بحثت ونظرت، له مستند، تجد رواية، وإن لم يصرح بها هذا القائل، لكن حينما تنظر في الروايات الموجودة ستجد أن هذه الرواية مطابقة أحيانًا بلفظها في بعض الأقوال، وهذا كثير، والأقوال التي قد يرى أنها بعيدة أو غريبة أو لا وجه لها أحيانًا تستند إلى مرويات، لكنها لا تصح، وهذا مهم في تبرير هذه الأقوال، أنها لم تكن لمجرد الرأي المحض، وإنما كان لذلك مستند بالمأثور، ولكنه لا يثبت، وغالب ذلك من غير ذكر هذا المستند.

وهنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ذكرنا مرارًا أن النبي ﷺ خرج مستخفيًا، وأنه ﷺ هو الذي خرج بنفسه، وأن المشركين ما كانوا يريدون خروجه، وكذلك أصحاب النبي ﷺ في هجرتهم كما هو معلوم، ولكن الله أضاف ذلك إلى المشركين، بأي اعتبار؟

أنهم اضطروهم إلى الخروج، فأضيف الإخراج إليهم: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1] فهذا مضى في عدد من المناسبات، وهنا يقول: فأعدى الأعداء من عدا على الله - تعالى - في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية، ذحول الجاهلية يعني ثأر الجاهلية، ما كانوا عليه من الثأر، فأنزل الله - تعالى - على نبيه ﷺ: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ فتأمل: هنا جعل ذلك هو سبب النزول، فهذا السياق لا يصح.

وقوله - تبارك وتعالى -: أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يحتمل أن يكون المراد وهذا هو الظاهر - والله أعلم - الذي يدل عليه السياق: أنه فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ عند نزول العقوبة، وحلولها بهم، لمّا وقع بهم بأس الله لم يكن لهم من ينصرهم، ويخلصهم من ذلك فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ.

ويحتمل أن يكون: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يعني الآن بعدما أهلكوا من عذاب الله الذي يلقونه، ولا مخلص لهم من ذلك.

وهذا تحتمله الآية باعتبار أنه قال: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ فيمكن أن يكون في المستقبل، أو في الحال، لا ناصر لهم يخلصهم من عذاب الله في قبورهم، وفي القيامة.

  1. رواه ابن جرير في تفسيره (22/165) بلفظ: "فأعتى الأعداء من عتا..."، بدلا من: "فأعدى الأعداء من عدا...".