أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:14-15].
يقول تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي: على بصيرة ويقين من أمر الله ودينه بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم أي: ليس هذا كهذا، كقوله تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19].
وكقوله تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].
قوله - تبارك وتعالى -: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَفَمَنْ "الهمزة" للإنكار، و"الفاء" يقول بعض أهل العلم: إنها للعطف على مقدر، يعني: أفيستوي من كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ؟ لا يستوون، وهذا كما يقال في الكفار فإنه يقال أيضًا في غيرهم، ممن كان على غير هدى، من أهل الأهواء والضلالات والبدع، ومن ثَمّ فإن المؤمن من شأنه أن يتبصر، وأن لا يُقدم على شيء حتى يعلم أنه حق، وموافق للشرع، فهو على بينة من ربه، يتوثق فيما يأتي وما يذر، ولا يكون الحامل له على الفعل أو الترك هو مجاراة الناس، فيفكر بعقولهم ويجاريهم، سواء كانوا على حق أو على باطل، فهو يتبعهم في ذلك كله.
وأمّا من كان على ضلالة فهو يعمل بحسب ما نشأ عليه، أو تلقفه من غيره، أو كان مجاريًا في ذلك لأهل زمانه، هذا لا يكون عليه المؤمن بحال من الأحوال، لا يستوي هذا وهذا.
والمقصود: أن ذلك يحمل أهل الإيمان على التبصر في كل ما يأتون ويذرون، ولا يكون شيء من العمل أو الاعتقاد إلا على بينة وحجة من كلام الله، أو كلام رسوله ﷺ.
كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هنا بني الفعل للمجهول، فالنفس تزين له، وشياطين الإنس والجن يزينون له، كما أخبر الله - تبارك وتعالى - عن ذلك في مواضع من كتابه، فالشيطان يزين لهؤلاء أعمالهم، فيتشبثون بها ويتعلقون، ويرون أنها الحق الذي لا محيد عنه، ويموتون دونها، وهكذا كل صاحب هوى، فإنه يتشبث في هواه، كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] يعني أشربوا حبه، تعلقوا به، يعني صارت محبته بهذه المنزلة، بلغت إلى حد الإشراب، أُشربتها القلوب، نسأل الله العافية.
فهكذا تفعل العقائد بأهلها وأصحابها، فذلك كله من تزيين الشيطان، يزين لهم هذا الباطل، والعمل السيئ.
وهنا في قوله: وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ جاء الجمع باعتبار معنى "مَن"؛ لأن "مَن" اسم موصول تكون بمعنى الجمع، كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فهذه من جهة المعنى تكون للجمع؛ لأن الاسم الموصول من صيغ العموم.