الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَٰلِدٌ فِى ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ قال عكرمة: مَثَلُ الْجَنَّةِ أي نعتها.

مَثَلُ الْجَنَّةِ قال عكرمة: أي: نعتها.

وقد مضى الكلام في عدد من المناسبات عن المثل، ومعناه، وأن من أهل العلم من أعاده إلى الشبه في كل استعمالاته، وذكرنا في عدد من المناسبات: أن هذا قد لا يخلو من تكلف في بعض المواضع، وهذا من أجلاها وأوضحها.

مَثَلُ الْجَنَّةِ يعني صفة الجنة، وربطه هنا بالشبه لا يخلو - والله تعالى أعلم-  من تكلف.

وقد مضى الكلام على ذلك في ذكر الأمثال في القرآن مفصلاً، وأن شيخ الإسلام - رحمه الله - يرجع ذلك إلى معنى الشبه.

ولو حمل في بعض المواضع القليلة على غير هذا لكان أبعد عن التكلف والعلم عند الله ، ولهذا هنا في هذا الموضع فسره سيبويه وابن جرير بالوصف، صفة الجنة، فيما يتلى عليكم مثل الجنة، هكذا يقول سيبويه، يعني صفة الجنة، وصف الجنة.

فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ قال ابن عباس - ا - والحسن وقتادة: يعني غير متغير.

وقال قتادة والضحاك وعطاء الخرساني: غير منتن.

والعرب تقول: أسِنَ الماء إذ تغير ريحه.

هذه اللفظة: آسِنٍ هذه قراءة الجمهور.

وهناك قراءة أخرى متواترة لابن كثير: "أسِنٍ".

و"الآسن" و"الأسِن" بمعنى واحد.

والمقصود به: الماء المتغير، فإن الماء إذا طال مكثه فإنه يتغير طعمه وتتغير رائحته، وهذا أمر معلوم، ولذلك نجد في كلام الشعراء حينما يصفون الماء في مواضعه التي يجتمع فيها، يصفونه أحيانًا بالحركة، أو الجريان، أو نحو ذلك؛ كقول كعب بن زهير:

تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عنْهُ وَأفْرَطَهُ مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أي: بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة، وفي حديث مرفوع: لم يخرج من ضروع الماشية[1].

لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ يعني اللبن يتغير طعمه كثيرًا للحموضة، كما هو معلوم، فهذه آفة تعتري اللبن في الدنيا.

هنا هذا اللبن: لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لا بالحموضة ولا بغيرها، مما يكرهه الناس، ولا يستسيغون شربه معه.

وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ [الصافات:46].

وفي حديث مرفوع: لم يعصرها الرجال بأقدامهم[2].

هذا الحديث لا يصح من جهة الإسناد.

والخمر هنا: وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ ليست كالخمر التي في الدنيا تُعصر، وتحتاج إلى شيء من المكث والتخمير الذي تتغير معه الرائحة والطعم، ويحصل معه الكدر، ولذلك نجد أن ذلك يصاحبه أمور معروفة لدى شاربيها، فيكثر استفراغهم لها، وما تحدثه من علل عارضة ومستديمة في أجوافهم وأبدانهم، ولذلك في تلك البلاد التي أدمن أهلها على شرب الخمور، وتوجد حاناته في كل ناحية، وفي كل طريق وسوق، المحلات التجارية غالبًا عندهم تتوقف في وقت في ساعة معينة في الخامسة مثلاً مساءً، أو نحو ذلك، لا أحد يفتح متجرًا ولا غير ذلك، إلا أماكن الخمور، فهؤلاء يعطون في بعض البلاد التي يقال لها: بلاد متقدمة، يعطون ما يقابل ذلك لما يلقونه من أنواع الأذى.

من هذا الأذى الذي يلقونه: كثرة الاستفراغ - أعزكم الله -، يعني تجد المكان محلا لهذه القاذورات، هم يتعبون في التنظيف ليلاً طويلاً، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء الذين فقدوا عقولهم، يمكن أن يقتل، ويمكن أن يفعل كل شيء، ولذلك تسمع الأصوات في ساعات متأخرة من الليل، يعني من بعد الساعة الثانية عشرة، تسمع الأصوات في الطرقات، مجانين، يمشون مجموعات، شباب وفتيات، ورجال ونساء، يصرخون بأعلى أصواتهم، وتجده يقف عند هذا المكان الذي يبيع الخمر، أو غيره، ويضرب رأسه بالزجاجة، يترنح، نسأل الله العافية.

فهذه الخمر ليس فيها شيء من هذا، ليس فيها الطعم الكريه، وليس فيها الرائحة الكريهة، وإنما هي مستلذة، يعني أن أهل الدنيا حينما يشربون الخمر لا يشربونها للذة في طعمها يجدونها، وإنما يشربونها لما تؤثره من السكر وذهاب العقل، وما يجدونه من النشوة، لهذا السبب، فيتحملون الرائحة، ويتحملون الطعم الكريه، ولذلك الواحد - كما سبق - يستفرغ - أعزكم الله - من شدة ما يجد، فجوفه قد لا يتقبلها، ولكنه يحمل نفسه على ذلك لعاقبتها القبيحة، وهي السكر، من أجل أن يسكر، هم لا يشربونها يستلذون، كما يستلذ بالطيبات، هنا: لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ.

وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى أي: وهو في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح، وفي حديث مرفوع: لم يخرج من بطون النحل[3].

وهذا أيضًا لا يصح.

لكن هو عسل مصفى، هي أنهار من عسل مصفى.

والعسل المصفى لا شك أنه هو الأجود والأفضل، كما هو معلوم عند أهل العسل، مصفى، ليس فيه قذى، ليس فيه بواقٍ من نحل ميت فيه، أو أجزاء وأبعاض من هذا النحل، كما يشاهد في عسل الدنيا، ليس فيه شيء من الشمع، ليس فيه شيء من الكادورات، وإنما هو في غاية الصفاء، لا يخالطه شيء آخر.

وروى الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد[4]، ورواه الترمذي في صفة الجنة، وقال: "حسن صحيح".

وفي الصحيح: إذا سألتم الله - تعالى - فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن[5].

وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ، كقوله : يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:55].

وقولِه - تبارك وتعالى -: فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52].

وقولِه - -: وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ أي: مع ذلك كله.

"التنكير" هنا للتعظيم، يعني مغفرة عظيمة من ربهم.

وقوله : كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ أي: أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، أي: ليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات.

وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا أي حارًّا شديد الحر لا يستطاع.

فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ أي قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء، عياذاً بالله تعالى من ذلك.

قوله - تبارك وتعالى -: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ يقول: أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟ يعني: أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟.

وهذا قال به بعض المفسرين، وبعض أصحاب المعاني كالفراء في معاني القرآن.

وبعضهم كالزجاج يرى أن ذلك يرجع إلى قوله: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ يعني: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وأعطي هذه الأشياء: كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وصارت عاقبته إلى النار؟!.

وكأن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك يرجع إلى ما قبله، فمن كان بهذا النعيم، وهذه الأنهار من العسل والخمر واللبن: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟.

  1. كنز العمال (2/464)، رقم (4504)، وضعفه الألباني، في سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم (6724).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. رواه أحمد، رقم (20051) وقال محققو المسند: "إسناده حسن".
  5. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، يقال: هذه سبيلي، وهذا سبيلي، رقم (2790).