وقوله : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أي: عن الجهاد ونكلتم عنه أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصًا، بل قد أمر الله - تعالى - بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال، وبذل الأموال.
وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله ﷺ من طرق عديدة، ووجوه كثيرة.
روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: خلق الله - تعالى - الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن ، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد: 22][1].
ثم رواه البخاري بلفظ: قال رسول الله ﷺ: اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ[2] ورواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله - تعالى - عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[3]، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وروى أحمد عن ثوبان عن رسول الله ﷺ قال: من سره النَّساء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه[4]، تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها[5]، رواه البخاري.
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل، تَكلَّم بلسان طلْق ذلْق، فتقطع من قطعها، وتصل من وصلها[6].
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - يبلغ به النبي ﷺ قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحم شُجْنة من الرحمن من وصلها وصلتْه ومن قطعها بتّتْه وقد رواه أبو داود والترمذي، وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية، وقال الترمذي: "حسن صحيح"[7].
والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.
قوله - تبارك وتعالى -: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد: 22].
يقول: أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام.
هذا الخطاب الآن: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ بعدما كان الكلام عن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، وعن حالهم وصفتهم، حينما تنزل السورة التي يفرض فيها القتال، جاء الكلام على سبيل الالتفات.
وقد بينا في مناسبات شتى: أن الالتفات هو تحويل الكلام من الغائب إلى المخاطب، أو العكس، إلى غير ذلك من ألوان التصرفات فيه، مفرد إلى جمع، والعكس، وهكذا، فهذا بعض أهل العلم حمله على ذلك، يعني قالوا: الكلام لا زال عن هؤلاء المنافقين، لكنه تحول من الغيبة إلى الخطاب: فَهَلْ عَسَيْتُمْ يعني: يا معشر المتلكئين المتخلفين عن الجهاد، يخاطب الذين في قلوبهم مرض: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
والكلام على سبيل التوبيخ: إِن تَوَلَّيْتُمْ الذي عليه الجمهور يعني أعرضتم عما أمرتم به من الإيمان، وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
وبعضهم يقول: أعرضتم عما أمرتم به من الجهاد؛ لأن السياق فيه.
المقصود: أن على هذين المعنيين يكون التولي عندهم بمعنى الإعراض.
الجمهور يحملونه على هذا، بصرف النظر عما حُمل ذلك عليه من معنى عام، أو معنى خاص.
معنى عام: أعرضتم عن الإيمان، وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وهذا لا إشكال فيه، أو أعرضتم عما أمرتم به من الجهاد؛ لأن السياق في ذلك.
أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ فقتادة يقول: إن توليتم عن طاعة كتاب الله : أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بسفك الدماء وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
وهكذا جاء عن ابن جريج: إِن تَوَلَّيْتُمْ عن الطاعة، عبارات السلف في هذا متقاربة.
لكن من أهل العلم من حمله على معنى آخر، كما جاء عن الكلبي: إِن تَوَلَّيْتُمْ يعني أمرَ الأمة: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ جعله من الولاية، يعني إن صار الأمر إليكم، وصرتم من ذوي السلطة: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ إن توليتم.
ولكن هذا خلاف الظاهر، وذلك أن السياق في الكلام على الطاعة، والاستجابة لأمر الله ، وعدم التباطؤ فيه، والاستثقال له، فالذي يقابل ذلك هو الإعراض والترك والتضييع، فيقول لهم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فابن كثير حمله على الإعراض، لكنه على المعنى الخاص، أي: عن الجهاد، وهذا باعتبار السياق كما سبق.
وهنا في هذه الآية القراءة المعروفة المتواترة هي هذه التي نقرأ بها: إِن تَوَلَّيْتُمْ بالبناء للفاعل.
ولكن من المفيد الإشارة إلى قراءة أخرى مروية عن جماعة من السلف، كعلي ، وهي أيضًا رواية عن يعقوب، ويرويها عنه ورش: أنها بضم التاء والواو: إِن تُوُلِّيْتُمْ فهذه بالبناء للمفعول، فيكون المعنى: هل عسيتم إنْ ولِيَ عليكم ولاة جائرون أن تخرجوا عليهم في الفتنة، وتحاربوهم، وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل، هذا معنى هذه القراءة: إِن تُوُلِّيْتُمْ.
لكن على هذه القراءة التي عليها الجمهور، القراءة المتواترة: إِن تَوَلَّيْتُمْ يعني عن طاعة الله وطاعة رسوله، وتركتم الجهاد في سبيل الله: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.
وحملُ ذلك على ما يدل عليه السياق، أو ما يتسق معه من أن التولي عن الجهاد لا إشكال فيه، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته لابد له من مزاولة وفعل وإرادة، فإن لم يصرف ذلك في طاعة الله صار اشتغاله بأضداده، صار اشتغاله بما يضره، ولهذا فإن كل من أعرض عما هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده، وقد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابه: "القواعد الحسان" تكلم عن هذه القاعدة، وذكر لها أمثلة، ومن أوضح الأمثلة لهذا: ما ذكره الله - تبارك وتعالى - عن اليهود: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ.
ماذا كانت النتيجة؟
نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101-102] تركوا اتباع النبي المرسل ، كليم الرحمن، وتركوا الكتاب المنزل، وهو التوراة، وصاروا متبعين للسحرة، مشتغلين بالسحر، أحط الأشياء.
فمن أعرض عن الجهاد صار اشتغاله بعد ذلك بأضداده، بالإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام.
وحال الأمة شاهد على هذا، صار بأسهم بينهم.
وهكذا أيضًا فيما يتصل بالنفقات، من لم ينفق في سبيل الله ، ويمتثل أمر الله سلط ماله على هلكته في الباطل، تجد هذا الإنسان ينفق في أمور تضره ولا تنفعه، هذا على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى الأمة، فهذه الأموال الطائلة، والثروات الهائلة إذا لم تصرف في سبيل الله، ونصر الدين، وإعزاز كلمة الله أنفقت في أمور أخرى، تضر ولا تنفع.
وهكذا، فهذه قضية مطردة مشاهدة، الواقع يصدقها ويشهد لها، وتتكرر كثيرًا، تسخر الأموال في الإفساد والباطل، والله المستعان.
هنا في الحديث الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: خلق الله - تعالى - الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن[8].
الحقو: الإزار، وأصله يكون معقد الإزار، ولكن توسع في الاستعمال فصار ذلك يقال للإزار.
وهنا أيضًا في الحديث يقول: توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل.
حُجْنة المغزل هي سنارته، أعلاها المعقوف.
لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل، تَكلّم بلسان طلْق ذلْق[9] اللسان الطلْق يعني سريع النطق، والذلْق البليغ، يقال: فلان طلْق ذلْق، له لسان طلق ذلق، يعني يتكلم بطلاقة وببلاغة.
وحديث: توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة إلى آخره، في إسناده ضعف.
وقوله في الحديث: الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحمة شُجْنة من الرحمن[10].
شُجنة الشجنة أصلها في اللغة: الشجرة التي لها عروق، أو الشيء المشتبك، فيقال مثلاً: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، يعني الرحم أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، تقال الشجنة أيضًا للفرع من الشجرة المتشابك في أغصانه، شجنة تكون العروق فيها متداخلة ومشتبكة، الرحم أثر من آثار الرحمة ومشتبكة بها، مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، والله أعلم.
- رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، رقم (4830).
- رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، رقم (4831) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2554).
- رواه أحمد، رقم (20398) وأبو داود، كتاب أحاديث أبي موسى الأشعري ، باب أبي بكرة، رقم (921)، والترمذي، كتاب أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب، رقم (2511)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب البغي، رقم (4211) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
- رواه أحمد، رقم (22401) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
- رواه أحمد، رقم (6524) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح" وهو في البخاري، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، رقم (5991).
- رواه أحمد، رقم (6774) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".
- رواه أبو دواد، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم (4941)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم (1924)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد، رقم (6494)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره" وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2256).
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.