أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:24-28].
يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه، وناهيًا عن الإعراض عنه، فقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه.
روى ابن جرير: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: تلا رسول الله ﷺ يومًا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله - تعالى - يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي، فاستعان به.
قوله - تبارك وتعالى -: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ هذا توبيخ من الله - تبارك وتعالى - في هذا الخطاب الموجه للمنافقين، وسبق الكلام على التدبر، وأن الآيات الأربع فيه منها آيتان في المنافقين: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا هذه.
وفي الآية الأخرى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82].
والثالثة في الكفار: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون:68].
والرابعة عامة: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ [ص:29] هذه عامة للخلق جميعًا.
وذكرنا هناك أن التدبر لا يحتاج إلى كون الإنسان عالمًا، ليس ذلك من شرطه، فهذا خطاب للمنافقين، وهناك أيضًا خطاب الكافرين، وخطاب عموم الأمة، ولا يوجد في موضع واحد أن الله وجه ذلك الخطاب لخصوص أهل الإيمان، أو للعلماء مثلاً، وذلك أن التدبر مطلوب من الجميع، وكلٌّ بحسبه، التدبر الذي يخاطب به هؤلاء من أهل النفاق والكفار كقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82] فهنا قد يتدبرون من أجل أن يعرفوا أن هذا القرآن حق، بحيث لا تناقض فيه، ولا اختلاف، وهذه قضية تتأتى لمن نظر في القرآن وفحصه، ولا تحتاج إلى عالم، فهذا أحد مطالب المتدبرين.
وكذلك أيضًا: أن يتدبر قارئ القرآن من أجل الوقوف على العبر والعظات المضمنة في هذا القرآن وألوان الهدايات، فهذا لا يحتاج إلى عالم، ولا طالب علم.
وكذلك حينما يتدبر من أجل التعرف على محابّ الله ومساخطه، وأوصاف المؤمنين، وأوصاف الكافرين، وكذلك وصف هذه الدار الحياة الدنيا والآخرة، فهذا لا يحتاج إلى عالم، هناك قضايا واضحة في القرآن ذكر الله فيها صفات هؤلاء وصفات هؤلاء، ذكر صفة الجنة وصفة النار، القارئ يدرك هذه المعاني.
ثم أيضًا يتدبر ليعرض نفسه على القرآن، وما ذكر فيه من صفة أهل الجنة وصفة أهل النار، فيتتبع ذلك، وينظر بهذه الأوصاف هل تنطبق عليه أو لا تنطبق عليه، هذا لا يحتاج إلى عالم.
تدبر القرآن من أجل أن يرقق قلبه، وأن يلينه، وأن يعالجه من أدوائه وعلله، هذا لا يحتاج إلى عالم.
لكن أين المشكلة؟.
المشكلة هي أن الكثيرين صارت أذهانهم تتوجه حينما يذكر التدبر، أو حينما تنبعث همهم إليه أنهم يطلبون المعاني الدقيقة، واللطائف التي تستخرج بالمناقيش، مما لم يسبقوا إليه، يعني هو يبحث عن لفتات دقيقة، وأشياء تنكشف له، قد لا توجد، أو لم تذكر من قِبَل أحد قبله، وهذا غير مراد، يعني هذا نوع، ومثل هذا غالب ما فيه إنما يستخرجه من كان عنده آلة وقدرة على الغوص، من أجل استخراج هذه المعلومات، ولذلك كثير من هؤلاء حينما يغوصون - أعني ممن لا بصر لهم - يستخرجون لفتات غير صحيحة، ومعانيَ ليست كما ينبغي، هذا فيما نشاهده فيما ينشر بعضهم ويكتب ويرسل رسائل بالجوال، أو عبر الوسائط الأخرى.
وبعضهم يسأل قبل ذلك، يرسلون نماذج، يقول: ما رأيك فيها؟، أريد أن أنشرها؟ وهؤلاء قلة، بل ندرة، وفي كثير من هذه الأشياء واضح إذا كان الإنسان هذا ليس عنده بصر، ولا آلة تمكنه من هذا الغوص أنه يأتي بمعانٍ غير صحيحة، واستنباطات ولطائف ولفتات ليست بسديدة، وهذه هي المشكلة، أن تتوجه الأذهان حينما يذكر التدبر إلى هذه اللفتات واللطائف، ليس هذا هو المراد من هؤلاء الناس، حينما نخاطب الناس بالتدبر، ونطالبهم به نحن لا نطالبهم بمثل هذا، نقول: اعرضوا أنفسكم على القرآن، رققوا قلوبكم بالقرآن، انظروا في محابّ الله ومساخطه، فامتثلوا، افعلوا ما أحبه، واجتنبوا ما سخطه، انظروا في صفة هذه الدار، فازهدوا فيها، وانظروا في صفة الآخرة، فشمروا لها، هذا هو المراد.
ومن كان عنده شك في القرآن وتردد من أهل النفاق والكفر ونحو ذلك نقول: اقرأ القرآن، وتدبر لتعرف مصدر القرآن، وأنه من عند الله -تبارك وتعالى.
المقصود: أن مطالب المتدبرين متنوعة، فلا يصح أن تتوجه أذهاننا إذا ذكر التدبر إلى هذا النوع بخصوصه، ومن ثم يتكلف الإنسان تكلفات لا يحسنها، ويكون قائلا على الله بلا علم.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا "أم" هذه هي المنقطعة، بمعنى: بل والهمزة.
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أي: بل على قلوب أقفالها، يقول: فهي مطبقة، لا يخلص إليها شيء من معانيه، يعني بمعنى أن القلب هذا عليه قفل، فكأنه قد أغلق وأُرتج بالكلية، ولا يمكن فتحه، قد صار عليه القفل، فهو مغلق، لا ينفذ إليه شيء، يعني أن هذا القلب لا يستقبل، كما أن اليد آلة للبطش، والرجل للمشي، والعين للإبصار، فإذا تعطلت منافع هذه الأعضاء صارت كالعدم، القلب آلة للفكر والتفكر والعقل والعلم والفهم والإدراك، فإذا تعطل من هذا صار كالعدم.
لذلك الله - تبارك وتعالى - نفى عن هؤلاء الذين صاروا بهذه المثابة الذين: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] فصاروا لهم قلوب لا يعقلون بها، يعني إذًا لا قلوب لهم؛ لأن قلوبهم لم تعد تبصر فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فكما أن العين إذا ذهب بصرها فإنها تكون معطلة لا ينتفع بها، إنما هي صورة فقط، فكذلك القلب حينما يصاب بالعمى، وهذه الأدواء فإنه لا ينتفع به، فلا يعقل عن الله - تبارك وتعالى.
وقد ذكرت - سابقًا - أنواع هذه الحواجز والموانع التي تمنع من العقل عن الله والتدبر والتفكر بالكلية: الران، الأقفال، الأكنة، الأغلفة، الختم، الطبع، كل هذه الأشياء تمنع بالكلية، لكن قبل ذلك المرحلة الرمادية هذه التي يتفاوت فيها الناس، فهي قضية نسبية، فالقلب يمرض كما يمرض البدن، فهنا قد يكون المرض يسيرًا قد يتعاظم ويشتد، لكن إذا وصل إلى حال الموت فهنا يكون صورة بلا معنى، مثل الجثة، الإنسان المريض حركته ضعيفة، نشاط الأعضاء ضعيف، وظائف الجسم ضعيفة، وإذا تعاظم فيه المرض، ووصل إلى حال الموت فعند ذلك يكون جثة هامدة، لا يعمل شيء من هذه الأعضاء والأبعاض، والله المستعان.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ "الفاء" هذه عاطفة على جملة محذوفة، كأن التقدير: أيعرضون عن كتاب الله، فلا يتدبرون القرآن؟!