ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم أي: فارقوا الإيمان، ورجعوا إلى الكفر مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي: زين لهم ذلك وحسنه.
وَأَمْلَى لَهُمْ أي: غرهم وخدعهم.
قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى يقول: فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر.
من هؤلاء؟
هذه ظاهرها العموم: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم يعني رجعوا إلى الوراء، والدُّبر معروف، فمن رجع فإنه يكون قد ولى دبره.
فبعض أهل العلم كقتادة واختاره ابن جرير يقولون: هذه قصد بها أهل الكتاب، بأي اعتبار؟
باعتبار أنهم عرفوا نعته ﷺ ثم كذبوا وكفروا، وأعرضوا: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.
وبعضهم كالضحاك والسدي يقولون: هي في المنافقين أظهروا الإيمان، وعرفوا حقيّة ما جاء به الرسول ﷺ ثم نكصوا وكفروا، وتركوا العمل بما أمروا به من طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، والجهاد في سبيل الله.
وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك فيمن ارتد بعد إسلامه، هذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله.
وكأن هذا أقرب - والله أعلم -؛ لأن ظاهر اللفظ العموم إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى فالذين قالوا: إنها في المنافقين قالوا: لأن السياق في المنافقين.
قال: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، سَوَّلَ لَهُمْ يقول: زين لهم ذلك وحسنه وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه:96] يعني زينت وحسنت.
وكما قال الله - تبارك وتعالى -: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30] زينت له نفسه ذلك.
هنا: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ.
سَوَّلَ لَهُمْ الشيطان.
وَأَمْلَى لَهُمْ من الذي أملى لهم؟
هنا ابن كثير يقول: غرهم وخدعهم، يعني الشيطان، كل ذلك في الشيطان، أن الضمير يرجع إلى الشيطان في الموضعين.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ الإملاء بمعنى: أنه يعدهم ويمنيهم، يعدهم بالمغفرة، يرجيهم بالتوبة، فكل ذلك تغرير بهم.
وبعض أهل العلم يقولون: إن الذي أملى لهم هو الله.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ زين لهم الكفر والارتداد، وترك طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وَأَمْلَى لَهُمْ أي: الله.
فيكون المعنى: أنه أمهلهم، فلم يعاجلهم بالعقوبة، واستدرجهم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45].
وقالوا: الإملاء من الله على سبيل الاستدراج، والتسويل من الشيطان، وقد ذكرنا قاعدة من قواعد التفسير، وهي: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.
وهذا الذي يدل عليه ظاهر السياق.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ هو أيضًا، وَأَمْلَى لَهُمْ أي: الشيطان.
لكن لو نظرنا أيضًا إلى القراءات في الآية فهذه قراءة الجمهور: وَأَمْلَى لَهُمْ.
وفي قراءة أخرى متواترة، قراءة أبي عمرو بالبناء للمجهول "الشيطان سول لهم وأُمْلِى لهم"، من الذي أملى لهم؟
هنا غير مذكور، فبعضهم يقول على هذه القراءة: "أُملِي لهم" يكون الذي أملى لهم هو الله.
فتأمل هنا: "الشيطان سول لهم وأُمْلِى لهم" فالذي أملى بهذا الاعتبار عند بعض أهل العلم هو الله، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، وبهذا قال الفراء، مع أن ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك مطلقًا - يعني سواء على هذه القراءة، أو على قراءة الجمهور: وَأَمْلَى لَهُمْ - على أن الذي أملى لهم هو الله، والشيطان سول لهم.
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمة الله عليه - ذكر شواهد الأول، وشواهد الثاني، يعني يقول: كل واحد منها يشهد له القرآن، يعني توجد نصوص بأن الشيطان يرجِّيهم، ويملي لهم، يعني يوسع لهم الأمل، ويفسح لهم فيه، من أجل الاستغراق في الكفر والمعاصي، والاسترسال في ذلك، كما قال الله : وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22].
الله يقول: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ فوعْده هو إملاؤه، وعَدَهم التوبة، وعدهم أن لهم عند الله الجنة، ونحو ذلك بمغفرة الله لهم، ثم ورطهم، فالشنقيطي - رحمه الله - ذكر شواهد لهذا، وشواهد لهذا، مع أنه يميل إلى أن الذي أملى لهم هو الشيطان.