الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا۟ لِلَّذِينَ كَرِهُوا۟ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ ٱلْأَمْرِ ۖ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي: مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين، يظهرون خلاف ما يبطنون.

ولهذا قال الله : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ أي: ما يسرون وما يخفون الله مطلع عليه، وعالم به، كقوله - تبارك وتعالى -: وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ.

قوله - تبارك وتعالى -: ذَلِكَ هذا إشارة إلى ما تقدم من ارتدادهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ.

هنا هؤلاء: الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ هذا الارتداد لأي شيء كان؟

لكونهم: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ بهذا كانوا مرتدين.

وهذا السياق كما هو معلوم في المنافقين، فالآيات لم تزل تتحدث عنهم، وهذه من صفات المنافقين، فهنا: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ من الذين كرهوا ما نزل الله؟

أهل الكتاب مثلاً، هذا قال به جماعة من أهل العلم، وذلك كما في قوله - تبارك وتعالى - عن المنافقين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم [المجادلة:14] يعني المنافقين تولوا اليهود.

وقالوا لهم أيضًا: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [الحشر:11] فهم يقولون: لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نقبل عذل عاذل، فبعض أهل العلم حمل ذلك على المنافقين، أنهم قالوا ذلك لليهود.

وبعض أهل العلم يقول: الذين كرهوا ما نزل الله هم الكفار والمشركون، فهم كرهوا ما نزل الله.

وهذا يشهد له قوله - تبارك وتعالى - قبله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:8].

قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9] هذه في صفة الكفار التي ذكرها قبل ذلك.

فهنا جاء الكلام عن المنافقين بعد هؤلاء الكفار، قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.

فهذا يمكن أن يكون قرينة تدل على ذلك.

ولا شك أن الكفار من المشركين أنهم بهذه المثابة، وبهذه الصفة: أنهم كارهون لما أنزل الله، وكذلك أيضًا أهل الكتاب، فكل ذلك واقع ومتحقق في صفتهم.

ابن كثير - رحمه الله - يقول: أي: مالئوهم وناصحوهم، يعني: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ناصحوهم في الباطن على الباطل، يعني أن المنافقين يتمالئون مع أعداء الله ، الكارهين لشريعته، ووحيه وأحكامه وحدوده، يقولون لهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ تأمل فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ليس في كل الأمر، فهنا هذا من أعمال المنافقين التي أوجبت كفرهم وردتهم؛ لأن الله قال بعده: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ فالذين يكونون بهذه الصفة عند الوفاة تضرب وجوههم وأدبارهم هم الكفار وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50].

فهذا لا يكون لأهل الإيمان من العصاة، فهذه الآية فيها وعيد شديد وتهديد لمن أذعن للكفار، وأطاعهم، وانقاد لهم، مَن دخل في طاعتهم، ولو في بعض الأمر.

خطورة تقديم التنازلات، والاستجابة لمطالب أعداء الله ، فإن ذلك قد يؤدي إلى الخروج من الإسلام بالكلية - نسأل الله العافية -، فالأمر ليس بالسهل.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في "الأضواء" تكلم على هذا الموضع بكلام جيد، يحسن مراجعته، إذا كان طاعة هؤلاء الكفار في بعض الأمر توجب هذه النهاية الخطيرة، فكيف بالدخول تحت طاعتهم في كل شيء، وتبديل شرائع الإسلام بالكلية، والتمالؤ معهم على كل شيء، بل لربما تحول بعض من ينتسب إلى الإسلام إلى حال من الإفساد والنكاية بالدين وأهله أعظم مما للكفار، فيتحول هو إلى محرض لهم، ومهدد لهم من الإسلام وأهله، يخوفهم من الإسلام وأهله، يعني هم لربما لا ينشطون في بعض القضايا أن يحاربوها، أو يكون لهم موقف حاسم تجاه قضايا المسلمين، فيأتي هذا ويحرضهم ويخوفهم ويضغط عليهم، من أجل بعث هممهم لمحاربة هذا الأمر الذي يتصل بدين الله ، أو أوليائه، وأهل طاعته، يعني يكون هو أسوأ حالاً منهم، هو يستقوي بهم ويحرضهم على الإفساد والإيقاع بأهل الإيمان، أو إفساد شرائع الدين، نسأل الله العافية.

حتى قال قائلهم: أنا أعلم بمصلحة فرنسا من فرنسا، يعني هو يستحثهم على خطوات وإجراءات، وهم يتباطئون فيها، يرون أن النار الهادئة أولى لتحقيق أهدافهم، وهو يريد أن لا يتوانوا في سحق ما يتصل بالإسلام، فيقول: أنا أعلم بمصلحة فرنسا؛ لأنه طبعًا وليه هناك، يقول: أنا أعلم بمصلحة فرنسا من فرنسا، إلى هذا الحد صار - نسأل الله العافية - الضلال والنفاق متغلغلاً في عروقه، وقد تحدثنا في مناسبة ماضية عن حديث: اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا[1] إلى آخره.

وذكرنا أن الإنسان يصل به الحال أحيانًا إلى أن يكون في حالة كأنما عجن وخلط الإيمان مع لحمه ودمه، وكذلك يصل في حال الضلال والانحراف إلى حال كأنما عجن النفاق بلحمه ودمه، لا ينطق ولا يرى ولا يبصر ولا يتكلم ولا يتصرف ولا يحاول ولا يزاول إلا بنفاق حامض - نسأل الله العافية - فيكون من المردة، كما قال الله - تبارك وتعالى -: مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ [التوبة:101] الإنسان المسلم يحذر من هذا كله.

وكما قيل: كثرة المزاولات تورث الملكات، هذا في الخير وفي الشر، يصير النفاق كأنه سجية وملكة له، ولذلك لما ذكر الله المنافقين ذكر من أحوالهم أشياء عجيبة، حتى في الآخرة لما يبعثون: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] يعني هم إلى آخر لحظة، حتى في الآخرة، يقوم من قبره وهو يحلف أيمانًا، ما بعد هذا شيء، هل ترجِّي أن هذا يرجع في الدنيا ويتوب ويستغفر؟ هذا حتى في الآخرة يقوم من القبر، وبهذا الكذب الفج الذي يحلف عليه ويقسم الأيمان، نسأل الله العافية.

أما قول من قال: إن القائلين هم اليهود قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي اليهود قالوا للمنافقين، والمنافقون هم الذين كرهوا ما نزل الله فهذا بعيد، الآية في المنافقين، قالوا للكارهين لما أنزل الله، وقد ذكر الله هذه الكراهة بصفة الكافرين في السورة نفسها، يقولون لهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فهؤلاء كما قال الله عنهم: إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا يعني هم يريدون التوفيق بين الإيمان والكفر، بين أهل الإسلام والكفار، فيلفقون لهم دينًا ومنهاجًا وشريعة من هذا وهذا، وهذا لا يمكن أن يحصل به التوفيق إطلاقًا، الذين يفعلون ذلك لا يمكن أن يصلوا إلى نتيجة، فالله يقول: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] الرضا لن يتحقق حتى تتبع ملتهم، أمّا أن تتنازل عن بعض الأشياء فهذا لربما يغض الطرف عنك مؤقتًا، ثم يأتي التحطيم، ويدوسونه بنعالهم، كما شاهد العالم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هذا الرضا، لكن الكف عن القتال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217] فالكف عن القتال إلى حد الردة، أما الرضا فـحَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ لاحظ اليهود والنصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ لكن ملة من؟

إذا اتبعت ملة النصارى لن ترضى اليهود، وإذا اتبعت ملة اليهود لن ترضى النصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113].

وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [البقرة:135] "أو" هذه للتقسيم، يعني قالت اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، وليس معناه التخيير، فاليهود لا يقولون: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا، هم يرون أن النصارى كفار، والنصارى يعادون اليهود في أصل دينهم، فهذا لن يتحقق له مبتغاه، الذي يلفق ويطيعهم في بعض الأمر، زعمًا منه أنه يريد الإحسان والتوفيق، وأولئك كما قال الله : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:63].

هؤلاء أهل النفاق: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:60-63] هذه في المنافقين.

يقولون: إن السيخ، الديانة هذه التي في بلاد الهند، طبعًا بعضكم لربما ما أدرك هذا، في أواخر القرن الماضي، ليس ذلك ببعيد، يعني قبل نحو ثلاثين سنة، أو نحو ذلك، قاموا على المسلمين في بلاد الهند، وذبحوا الصغير والكبير، مقتلة للأطفال والنساء والشيوخ، وهدموا، والإعلام لم يكن بهذه الصورة الآن بوسائله وقنواته إلى آخره، ولكن وصلت بعض الصور، فلو بحثت مثلا في النت عن: "السيخ، مذابح السيخ للمسلمين" إلى آخره لشاهدت العجب العجاب.

فهؤلاء من أشد الناس عداوة للمسلمين، وحقدًا عليهم، يعني أشد من الهندوس والبوذيين، يقال: إن أصل هذه الديانة، هي ديانة حادثة في الهند، يعني متأخرة، يقال: إنها أصلها أن رجلاً من الهندوس كان يشتغل عند تاجر من المسلمين، فكان معجبًا بأمانته وأخلاقه واستقامته ونزاهته، أعجب به إعجابًا شديدًا، فكان مترددًا بين ديانته الهندوسية، وما يرى من أخلاق هذا المسلم، ويرى التنافر والصراع الدامي بين المسلمين والهندوس، فأزمع على أن يجمع الطائفتين، ويوحد بينهما في ديانة واحدة، لينتهي هذا الصراع، فهو يرى أن المسلمين جيدون، كحال هذا التاجر الذي عرفه من قرب، وأن هؤلاء الهندوس هم قومه وأهل دينه، فأراد أن يجمع ويمزج بينهما، فجاءت هذه الطائفة: السيخ، التي صارت أشد عداوة على المسلمين من الهندوس، فأقامت مذابح للمسلمين، ولو قرأتم في تاريخ بعض ملوك الهند من المسلمين، والتحولات التي حصلت، والتبديل والتلفيق، حصلت أشياء من هذا القبيل، ومحاولات للجمع بين هذه الديانات، لتكون ديانة متقاربة، أو ديانة واحدة، فماذا نتج عن ذلك؟.

اقرءوا في تاريخ الهند.

  1. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، رقم (6316)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (763).