وقوله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي: ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ وليس في تقدم علم الله - تعالى - بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد حتى نعلم وقوعه، ولهذا يقول ابن عباس - ا - في مثل هذا: إِلَّا لِنَعْلَمَ [سبأ:21] أي: لنرى.
قوله - تبارك وتعالى -: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ هذا كما قال الله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [البقرة:214].
وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
وفي قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16] إلى غير ذلك مما وعد الله به.
وذكرنا هناك في سورة الأحزاب عند قوله - تبارك وتعالى -: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] تعليقًا على قول ابن كثير - رحمه الله - حينما ذكر معنى حسنًا فيها: أن ذلك إشارة إلى ما وعد الله به من الابتلاء وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وهو: أَمْ حَسِبْتُمْ.
والقول الآخر: هذا ما وعد الله ورسوله من النصر.
وبين القولين نوع ملازمة، ذكرنا أن المعنى - والله تعالى أعلم - هو الذي ذكره الحافظ ابن كثير: الابتلاء الذي يعقبه النصر، هذا الذي وعد الله ورسوله، وأن المؤمن إذا رأى الابتلاء تذكر وعد الله به: أَمْ حَسِبْتُمْ والنصر يعقب ذلك، والتمكين يحصل بعد الابتلاء.
وهنا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لنختبرنكم بالأوامر والنواهي، وليس ذلك فحسب، وإنما فيما يبلوهم به مما يجريه - تبارك وتعالى - في خلقه، ويقع في كونه مما يكون ابتلاء لعباده من تسلُّط الكافرين، ومن إنهاض عزائمهم وهممهم لحرب المسلمين، فيبتلي الله بذلك أهل الإيمان، فالكفار يُبتلون بالمسلمين، والمسلمون يُبتلون بالكفار، والله يبلو الناس بعضهم ببعض.
فهنا هذه الأمور الواقعة مما يبتلي الله بأمره ونهيه وشرعه.
وكذلك أيضًا فيما يقع في هذا الباب من النسخ، كنسخ القبلة مثلاً: لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143].
وكذلك أيضًا ما يجري في قدره، كل هذا يقلب الله فيه الناس، فيبتليهم حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين.
قال: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ يعني نظهرها ونكشفها امتحانًا لكم، ليظهر للناس من أطاع ومن عصى، ومن آمن ومن كفر.
وابن جرير - رحمه الله - يقول: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ يعني فنعرف الصادق منكم من الكاذب، والله لا يخفى عليه شيء، ولكن كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بقوله: فالمراد حتى نعلم وقوعه، يعني هذا يفسر به المواضع في كتاب الله - تبارك وتعالى - التي ذكر فيها التعليل بالعلم: إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] الله يعلم ولكن القصود العلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وقل مثل ذلك في سائر المواضع.
وتارة يراد به العلم الذي يحصل به الظهور والانكشاف للناس، يعني في آية الكهف في قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12] لنعلم هذا العلم الذي يحصل به الانكشاف للناس والظهور، وإلا فالله يعلم: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا.