السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ٱلْقَوْلِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَٰلَكُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ يقول : وَلَوْ نَشَاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانًا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترًا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردًّا للسرائر إلى عالمها.

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : "ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه".

قوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ يعني: أنْ تعرفهم بأشخاصهم تحديدًا، فلان، وفلان، وفلان، وفلان، وهذا كان قبل أن يُطلع الله نبيه ﷺ على جماعة من المنافقين بأعيانهم، وأسرّ النبي ﷺ إلى حذيفة - كما هو معلوم - بأسماء جماعة من المنافقين.

وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ يعني: لعرّفناك هؤلاء، يقول: ولكن لم يفعل ذلك في جميع المنافقين سترًا منه على خلقه.

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ يعني: لحن القول: فحواه ومغزاه، وذلك مما يتفوهون به من ثلب ووقيعة، أو توهين أمر النبي ﷺ، وأصحابه، وسوء الظنون بالله - تبارك وتعالى -، فتارة يقول قائلهم: "سمِّنْ كلبَك يأكلْك".

وتارة: "والله ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أشد حرصًا على البطون، وأجبن عند اللقاء".

وتارة: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8]، وقولهم: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [المنافقون:7].

يعني حتى يتفرقوا عنه، ويطلبوا بلدًا آخر يُؤويهم، فلا يتواردون على مدينتكم وبلدتكم، فيزاحمونكم في أقواتكم وأرزاقكم، اقطعوا عنهم النفقة، وغير ذلك من العبارات التي كانوا يتفوهون بها، فقد سجل القرآن عليهم جملة من ذلك، وكذلك جاء في السنة في أسباب النزول، وفي غيرها، فهذا مما يعرف به أهل النفاق، وذلك أن ما يتفوه به بلسانه، أو يكتبه بقلمه يُنبئ عن حاله، فهذا الذي لم تزل كتاباته في الوقيعة، والثلب، والحط على أهل الإيمان، وليس له بضاعة، وليس له شيء يشتغل به إلا هذا اللون من الأذى لأولياء الله  - تبارك وتعالى -، وتوهين كل ما يتعلق بأمر الدين، فهو تارة يعلن فرحه بكل ما يحصل ويوجد ويقع من الأمور التي من شأنها أن تضعف الدين في نفوس الناس، أو في تمسكهم به أو في ذيوعه وانتشاره بينهم، أو يكون ذلك بإظهار الشماتة بأهل الإيمان، وإطلاق الألقاب القبيحة عليهم، أو التشكيك في مقاصدهم، أو التندر بالعبارات أو الشعارات التي يذكرونها، فهذه بضاعة أهل النفاق، وهذا من لحن القول الذي يعرفون به، حينما لا يعرف عن هذا الكاتب، أو هذا الذي يطعن ويثير قالة السوء بين أهل الإيمان، ما يعرف عنه إلا هذا فمثل ذلك ينادي على نفسه أنه ممن في قلوبهم مرض.

فمثل هذا حينما يصدر منه خلاف ذلك، يعني يغلط مرة، أو يفيق ضميره ويستيقظ قلبه، فيكتب كتابة حسنة، يستغرب الناس ويقلّبونها ويتداولونها بينهم، ما الذي حدث؟

لأنه كما قال الله : الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26].

وذكرنا هناك: أن ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين من الناس، فهم معادنها، فإذا صدرت عنهم فإن ذلك لا يستغرب، وأثر ذلك يرجع عليهم، ولا يضر أهل الإيمان، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول والأفعال، وإن كان المعنى أعم من هذا، الخبيثات من النساء والأوصاف والأقوال والأفعال للخبيثين من الناس، لكن هذا المعنى الذي ذكره ابن جرير هو بعض ما يدخل في معناها، الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس.

فهؤلاء هم مظنة لصدور مثل هذه المقالات، والأفعال القبيحة، ولم يزل ذلك منذ عهد رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، وهم يشتغلون هذا الاشتغال، ويتكلمون بمثل هذه القبائح، فهذا لحن القول، يعني فحواه ومغزاه.

وأصل اللحن هو إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء، لغرض من الأغراض، فهو يلحن في كلامه، لا يأتي به صريحًا فيعلن نفاقه، وإنما يتكلم بطريقة تدل على أن قائلها والمتفوه بها من المِراض وليس من الصحاح، أنه مريض، نسأل الله العافية.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ: "وذلك في حق المنافقين: فالأول: فراسة النظر والعين: فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ.

والثاني: فراسة الأذن والسمع: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة، ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط، بل أخبر به خبرا مؤكداً بالقسم، فقال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام ومغزاه.

والمقصود: أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم، فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه؛ أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه، فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية. والفراسة تتعلق بالنوعين: بالنظر والسماع"[1].

وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ قال: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله ثم تلا قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75][2]، والحديث فيه ضعف.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وَذَلِكَ أَن ظُهُور مَا فِي قلب الْإِنْسَان على لِسَانه أعظم من ظُهُوره فِي وَجهه، لكنه يَبْدُو فِي الْوَجْه بدوًّا خفِيًّا يُعلمهُ الله، فَإِذا صَار خلقًا ظهر لكثير من النَّاس، وَقد يقوى السوَاد وَالْقتمَة حَتَّى يظْهر لجمهور النَّاس، وَرُبمَا مُسخ قردًا أَو خنزيرًا، كَمَا فِي الْأُمَم قبلنَا، وكما فِي هَذِه الْأمة أَيْضا"[3].

قال ابن القيم - رحمه الله -: "وظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظم من ظهوره على وجهه، لكنه يبدو في الوجه بدوًّا خفيًّا يراه الله، ثم يقوى حتى يصير صفة في الوجه يراها أصحاب الفراسة، ثم يقوى حتى يظهر لجمهور الناس، ثم يقوى حتى يُمسخ الوجه على طبيعة الحيوان الذي هو على خلقه من قرد أو خنزير، كما جرى على كثير من الأمم قبلنا، ويجري على بعض هذه الأمة، كما وعد به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى"[4].

هذا صحيح، ولذلك ترى ذلك يظهر جليًّا يعرفه كل أحد فيما يتعلق بأصحاب البدع الغليظة، من الرافضة مثلاً، فإذا رأيته بين ملايين الناس عرفت أنه رافضي، وهذا فيه أكبر عظة وعبرة، لو أن هؤلاء يعقلون لتابوا إلى الله - تبارك وتعالى - من هذا، بمجرده، دعك مما وراءهم من العقائد الفاسدة.

فما يكنّه الإنسان يظهر على وجهه، فيقوى تارة فيعرفه كل أحد، وقد يكون دون ذلك فيراه أهل الفراسة، ولذلك مهما كان يتصنع في مظهره، في محاكاة أهل الإيمان، ونحو ذلك، فهم يرون في وجهه شيطانًا، يرون هذه اللحية التي ظهرت على وجهه أنها ليست بلحية حقيقية تظهر عليها أنوار السنة، ويظهر ذلك على وجهه، وإنما هي لحية تحت كل شعرة منها شيطان، وهذا أمر مشاهد لا يخفى يلوح على وجه صاحبه، يراه أهل الإيمان، "فما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه، وفلتات لسانه".

  1. مدارج السالكين (2/452).
  2. أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة الحجر، رقم (3127)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (1821) وفي ضعيف الجامع الصغير، برقم (127).
  3. الاستقامة (1/355).
  4. بدائع التفسير، (2/455)، دار ابن الجوزي، ط1، سنة النشر:1427هـ.