الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَلَا تَهِنُوا۟ وَتَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال لعباده المؤمنين: فَلَا تَهِنُوا أي: لا تضعفوا عن الأعداء وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عَددكم وعُددكم، ولهذا قال: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي: في حال علوكم على عدوكم.

فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمامُ في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله ﷺ حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم ﷺ إلى ذلك.

قوله - تبارك وتعالى -: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا قال: أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين...

يعني الحافظ ابن كثير يرى أن قوله: وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ يرتبط بما قبله، وأنه قيد له، يعني: لا تهنوا وتدعوا إلى السلم إذا كنتم في حال من القوة والتمكن والظهور، وإنما في هذا المقام ينبغي أن تبلوا بلاءً حسنًا في جهاد أعداء الله - تبارك وتعالى -، وأن تبذلوا في سبيل ذلك كل مستطاع لإعزاز الدين، هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير، وهو يحتمل، ولكن عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا فسروها بغير هذا، فجعلوا الجملتين منفصلتين فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ هنا وقف تام، ثم: وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ فهذه تكون جملة استئنافية مقررة صفةً لأهل الإيمان، وهي أن العزة والعلو لهم دون غيرهم.

أمّا على ما ذكره الحافظ ابن كثير فإن قوله: وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ يكون في محل نصب حال مما قبله، فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم حال كونكم بهذه المثابة، أنكم الأعلون، فهذا لا يكون محلا للضعف والهوان لأعداء الله ، والدعوة إلى السلم.

والسلم يعني المسالمة، وترك القتال.

ويحتمل أن تكون "الواو" هذه - كما ذكرت - استئنافية مقررة لما قبلها من النهي، يعني يقول لهم: لماذا التنازل؟ ولماذا الدعاء إلى السلم والواقع أنكم الأعلون؟ يقول: لماذا يحصل هذا الذل والضعف أمام الأعداء والدعاء إلى المسالمة أن يكون ذلك مبتدَأً منكم ومبادرة من قِبَلكم، والواقع أنكم الأعلون، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولو كانوا في حال ضعف أو هزيمة، فإن هذا هو حالهم، ولهذا قال الله معزيًا لهم بعد وقعة أحد كما جاء ذلك في سياق طويل في سورة آل عمران وكان مما قال فيه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا [آل عمران:139] يعني يعزيهم بهذا العزاء اللطيف الرقيق، وهم في حال هزيمة وانكسار، فيذكرهم بهذا، هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير مع أنه يحتمل إلا أنه خلاف قول عامة أهل العلم.

الشنقيطي - رحمه الله - رد على الحافظ ابن كثير هذا القول، وحاصل ما ذكره: أن العزة وصف لازم لأهل الإيمان، فلا ينبغي أن يتطرق إليهم الضعف وطلب المهادنة والمسالمة من الكفار، ومن ثم فإن بعض أهل العلم قالوا: إن هذه الآية منسوخة.

ما الذي نسخها؟

قالوا: نسخها قوله - تبارك وتعالى -: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [الأنفال:61] قالوا: هذه تقرر السلم وهذه تنهى عنه مطلقًا، هكذا فهموا.

وبعضهم يقول: هذه الآية ناسخة لتلك، باعتبار أن سورة الأنفال نزلت بعد بدر.

لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن ذلك ليس بناسخ ولا منسوخ، وإنما هي آية محكمة في هذا الموضع، وكذلك آية الأنفال، وأن المقصود بهذه الآية: النهي عن الدعاء إلى السلم، أن ذلك لا يكون مبتدَأً منهم، لكن إذا طلبه الكفار فإن آية الأنفال تدل على أنه يمكن النظر فيه، وأن يقبل إذا كانت المصلحة تقتضيه: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فيكون ذلك مبادرة من الكفار، لا يكون ذلك مبادرة من أهل الإيمان، هذا هو المعنى الذي حمل الآيةَ عليه جماعةٌ من المحققين، والله تعالى أعلم.

وقوله - جلت عظمته -: وَاللَّهُ مَعَكُمْ فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء: وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ أي: ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئًا، والله أعلم.

يعني هنا في قوله - تبارك وتعالى -: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ فهنا الجملة حينما نقول: إنها استئنافية: وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ القرينة التي تدل على هذا المعنى الذي ذكره الجمهور ما ذكره بعده، قال: وَاللَّهُ مَعَكُمْ يعني في حال النصر، وفي حال الهزيمة، وفي حال القوة، وفي حال الضعف، فالله معكم، ومن كان الله معه فإنه لا يتطرق إليه الهوان، ولا يمكن أن يخنع ويضعف أمام عدوه، قال: وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ هنا قال: أي: ولن يحبطها ويبطلها، ويسلبكم إياها، وأصل ذلك من النقص، يقال: وتره حقه يعني نقصه، تقال: فلان موتور، مثل الذي قُتل له قتيل ولم يستوفِ القصاص مثلاً، لم يستوفِ حقه، لم يحصل له ثأره، فيبقى موتورًا؛ لأنه صار بهذه المثابة، وصار منقوصًا، فأصله بمعنى النقص: وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ يعني أن الله يوفيكم الجزاء الكامل على هذه الأعمال، ولن يتطرق إلى ذلك نقص في كل الحالات، فضلاً عن الإبطال، أي أن الجزاء على الله - تبارك وتعالى -، وأنه متحقق وثابت، سواء كنتم في حال قوة، أو كنتم في حال ضعف، فلا يظهر منكم أدنى تضعضع أمام الأعداء ولا خنوع ولا ذل ولا استكانة، فأنتم الله معكم، وجزاؤكم عليه، وسيكون هذا الجزاء وافيًا، وإنما غاية ما هنالك أن الله يطالبكم بما كان تحت قُدركم وإمكاناتكم فقط، ويجازيكم على هذه الأعمال الجزاء الأوفى.