إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:36-38].
يقول تعالى تحقيرًا لأمر الدنيا وتهوينًا لشأنها: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله ، ولهذا قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ أي هو غني عنكم، لا يطلب منكم شيئًا، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم.
قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ مضى الكلام على الفرق بين اللعب واللهو، وأقوال أهل العلم في ذلك في مواضع سبقت من هذا التفسير، وكذلك أيضًا في الكلام على الأمثال في القرآن، عند الكلام على الأمثال المضروبة للحياة الدنيا.
لعب ولهو، من أهل العلم من يقول: إن اللعب هو الشيء الذي لا حاصل تحته، لا نفع فيه، ولا طائل من ورائه، وإن اللهو كل ما يتلهى به، ويشغل الإنسان عما هو بصدده من حق وباطل، فهذا حال هذه الحياة الدنيا، والله - تبارك وتعالى - يدعو أهل الإيمان من أجل أن لا يتعلقوا بها، ويتشبثوا بحطامها، وإنما تكون قلوبهم معلقة بمراضيه، والعمل للآخرة، فهذه الحياة لا تستحق أن يتشبث الناس بها، وأن تكون هي غاية مطلوبهم، وعليها يؤملون ومن أجلها يعملون.
يقول هنا: أي: حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله : وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ يقول: أي: هو غني عنكم، لا يطلب منكم شيئًا، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم، كما قال الله : وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة:272] فهذه نفعها يعود عليكم، والله لا يسألكم.
وبعضهم يقول: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ بمعنى أنه لا يسألكم أن تخرجوا جميع المال، وإنما يخرجون قدرًا من هذا المال، ليعود نفعه على إخوانهم، وتقوم مصالحهم من الجهاد، وغيره، ويعود جزاء ذلك وثوابه عليهم في العاجل والآجل.
وبعضهم يقول: إن قوله - تبارك وتعالى - هنا: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ أي إنما يسألكم ماله هو ؛ لأن هذه الأموال وديعة في أيديكم، وأنتم مستخلفون فيها، وإلا فالمال حقيقة لله - تبارك وتعالى - فهو المالك الحقيقي، وإنما جعل ذلك في أيديكم من أجل أن يبتليكم، وأن ينظر كيف تعملون وتتصرفون، هكذا قال بعض أهل العلم، وهذا فيه بعد لا يخفى.
وبعضهم يقول: هذا من قبيل الآيات الأخرى التي يَذكر فيها الرسلُ - عليهم الصلاة والسلام - لأقوامهم أنهم لا يسألونهم على البلاغ والدعوة أجرًا ومالاً، وقد مضى الكلام على هذا في مناسبات من هذا التفسير، كذلك في مجالس خاصة في بعض الموضوعات، مثل: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41] طلب الدنيا بالقرآن، وكذلك أيضًا في الكلام على الدعوة إلى الله في قوله - تبارك وتعالى -: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
هنا: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ فهو يدعو إلى سبيل الله ، لا يدعو إلى نفسه، ولا يدعو من أجل أن يحصّل عرضًا من الدنيا، وأن يتخذ الدعوة تجارة، فمن أهل العلم من حمل هذه الآية على هذا باعتبار أن الدعوة مجانًا، فهو حينما يدعوكم إلى الإيمان لا يطلب على ذلك شيئًا من عرض الدنيا مما في أيديكم مقابل دعوته وتبليغ الرسالة.
وتأمل قوله - تبارك وتعالى - بعده: إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني هذا يمكن أن يكون قرينة للقول بأن المقصود بذلك: إخراج جميع الأموال؛ لأنه لو طلب منهم أن يخرجوا جميع الأموال لضاقت نفوسهم بذلك، وظهر منهم ما لا يجمل ولا يحسن، ولبقي في نفوسهم مما يكون من أثر ذلك مما هو من قبيل الأضغان: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ.
هنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا أيضًا يحتمل أن يكون هذا قرينة للقول الآخر: أن المقصود بذلك أنه لا يسأل هذه الأموال مقابل الدعوة وتبليغ الرسالة، يعني أن هذه الدعوة لا يطلب العوض المادي عليها، ولو طلب العوض المادي عليها لتحركت النفوس، ولم يكن لذلك من القبول ما يكون لمن بذل الدعوة مجانًا، نصحًا للناس، ومحبة للخير لهم، فالناس يستثقلون من يطلب منهم الأموال، ولهذا قال: إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ.
ثم قال : إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا أي: يحرجكم تبخلوا.
وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ قال قتادة: قد علم الله - تعالى - أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان.
وصدق قتادة؛ فإن المال محبوب، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا قال: "يحرجكم".
وهكذا فسره بعضهم بـ"يجهدكم".
وهذا مقارب لما قاله ابن كثير، وأصل الإحفاء الاستقصاء، يقال: أحفى في المسألة يعني استقصى، حيث يسأل بطرق ووسائل وأساليب متنوعة، فيستقصي في ذلك، لا يدع طريقًا يمكن أن يتوصل به إلى أموال الناس إلا سلكه، فهذا الإحفاء في المسألة.
ابن جرير يقول: إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ يعني يجهدكم بهذا السؤال، يشق عليكم، حينما تطلب الأموال: تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يجهدكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها، طلب هذه الأموال منكم.
تَبْخَلُوا ابن جرير يقول: تَبْخلوا بها، وتمنعوها إياه منًّا منكم بها.
يعني يكون المعنى هكذا: إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ يجهدكم بهذا السؤال يشق عليكم بهذا الطلب، طلب الأموال، النتيجة ما هي؟
تَبْخَلُوا إذا سألكم الأموال شق عليكم وأجهدكم، ونتج عن ذلك بخلكم في هذه الأموال، فتضنون بما في أيديكم، وليس ذلك فحسب: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ.
هنا نقل عن قتادة: قد علم الله - تعالى - أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان، هذا في الأصول، يعني الكتب التي تذكر المرويات، لربما تكون العبارة فيها بعض المغايرة، أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان؛ لأن العبارة هنا بمجردها محتملة، إخراج الأضغان بمعنى أنه يحصل تطهير النفوس من الأضغان مثلاً، كأن هذا غير مراد - والله تعالى أعلم -، وإنما إخراج الأضغان بمعنى أنها تبدو وتتكشف وتظهر؛ لأن طلب الأموال يبدي ويبين ويظهر ويكشف، بل وينبت الأضغان في النفوس، الناس يشق عليهم ويثقل جدًّا طلب الأموال، ولهذا قيل: "استغن عما في أيدي الناس يحبك الناس"
فالناس يستثقلون من يطلب ولو كان لغيره، وقد ذكرت في بعض المناسبات: قول الإمام أحمد - رحمه الله - لما سئل عمن يطلب المال لغيره، مع أن هذا مأجور، وعلى عمل صالح، فالإمام أحمد - رحمه الله - كره ذلك، وذكرت هناك أن هذا لا يعارض قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر: 18] فالحث على إطعام المسكين، وعلى الإنفاق، والتصدق يبينه فعل النبي ﷺ، فقد كان يقف أمام الناس، ويدعو إلى الصدقة دعاءً عامًا، يأمر الناس بالصدقة، ولا يحرج أحدًا بعينه فيقول: يا فلان تبرع، يقف على النساء: يا معشر النساء تصدقن...[1].
فإذا خص ذلك بأحد بعينه فإن ذلك يشق عليه، فيستثقله الناس، ولهذا فإن الإمام أحمد كأنه كره ذلك، مع أنه صح عن النبي ﷺ فيمن يسعى على الصدقات، ونحو ذلك، لكن فرق بين هذا وبين من يأتي للمعين يطلب منه الصدقة والتبرع، فيوقع هؤلاء في شيء من الحرج، فيخرج أضغانهم، إذا رأوه تذكروا مباشرة أن هذا جاء ليطلب منهم، فيتبرمون منه ويستثقلون، ولربما تحاشوا مقابلته، وهذا أمر مشاهد.
وكان بعضهم لربما إذا رأى بعض هؤلاء ممن يطلب منهم دائمًا بأعيانهم، وبأشخاصهم أن يتبرعوا، وأن يتصدقوا ونحو ذلك، إذا رأوه قام في المسجد يعظ، أو نحو ذلك، بعد الصلاة انسلوا من المسجد لئلا يراهم، أو ليتحاشوا مقابلته، هذا أمر واقع.
ولربما تجد الرجل الحليم إذا جاءه هذا - ولكثرة من يأتيه - لربما بدر منه بعض ما لا يليق، مما يدل على ضيق وضجر، مما لا يحسن في الرد على من ذكّره بالصدقة، ودعاه إليها، لكن هذا كما قال الله : وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ فالنفوس تتحرك في هذا النوع من المزاولات، ويحصل بسبب ذلك من الكدر فيها والضيق بمن يسأل هذه الأموال.
ولذلك ينبغي لمن ينتسب إلى العلم، أو الدعوة إلى الله أن يخفف على الناس، وأن لا يطلب منهم شيئًا، إلا على سبيل العموم، يدعو الناس إلى الصدقة، وإذا جاءه من يريد من أصحاب المشروعات، والأعمال الخيرية، والمعاهد والمدارس والجامعات، ونحو ذلك، ممن يحتاجون إلى التبرعات، ونحو هذا يمكن أن يرسل ذلك بعنوانه، وما يتصل به إليهم، ويترك ذلك إليهم، فعندهم أرقام حسابات هؤلاء، دون أن يُلحف في المسألة، وأن يتابع، وأن يقول لهم: يا فلان، تبرعْ، وما إلى ذلك، إنما يدع الإحراج، ويترك ذلك بينهم وبين الله ، وهم أعلم بأحوالهم، وأدرى بشئونهم، فقد يكون هؤلاء عندهم من الالتزامات بأعمال ينفقون عليها من أعمال البر والخير ما لا يتحملون معه الزيادة، فلا داعي للإحراج، وإن كان ولابدّ فيمكن أن يقوم بهذا آخرون، يعني ممن لا يقدمون نفعًا للناس من العلم والدعوة، من أجل أن لا يُستثقل هؤلاء، أن يَقبل الناس منهم، إذا رأوهم فرحوا بهم، وإذا دخلوا دارهم سروا واستبشروا، لكن إذا عرفوا أنه كلما جاء فمعناه أنه يطلب منهم أن يتبرعوا فإنهم لا يستبشرون بمجيئه، ولا يفرحون به، بل يستثقلون ويتبرمون، ويتنصلون من ذلك، فلا داعي لمثل هذا الإثقال، يكون الإنسان خفيف الظل على عباد الله ، ويدعو دعاءً عامًّا: من شاء أن يتصدق، فهذه أبواب من البر وأبواب من الخير يوفق الله لها من شاء من عباده.
هذا ما يتصل بهذه الجزئية، والله أعلم.
- جزء من حديث رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، رقم (79،80).