فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4-9].
يقول تعالى مرشدًا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ أي: إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدًا بالسيوف.
حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ أي أهلكتموهم قتلا: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم، فأطلقتم أساراهم مجانًا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم، وتشارطونهم عليه.
والظاهر: أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ، ليأخذوا منهم الفداء، والتقليل من القتل يومئذ، فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67-68].
قوله - تبارك وتعالى -: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ يعني لما بين الله أعمال الكافرين، وما فعل بها من إذهابها وإبطالها، وما فعل بأهل الإيمان من إصلاح البال أمر بجهاد هؤلاء الكفار الذين ذكر صفتهم: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ يعني هنا "الفاء" تربط ما بعدها بما قبلها، إذا كان هذا ما فعله الله - تبارك وتعالى - بهؤلاء الكفار، وهذه صفتهم، وهذا حالهم اتبعوا الباطل، فإذا لقيتموهم فأزهقوا أنفسهم، كما أبطل الله أعمالهم وثوابهم، فهؤلاء لا صلاح لهم بحال من الأحوال، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بخلاف أهل الإيمان، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ "ضرب الرقاب" هذا مصدر لفعل محذوف، يعني فاضربوا الرقاب ضربًا، كما يقول بعض المفسرين.
وبعضهم يقول: اقصدوا ضرب الرقاب، يعني أن العامل فيه فعل محذوف، اقصدوا ضرب الرقاب.
والشنقيطي - رحمه الله - يقول: هو مصدر نائب عن فعله، وهو بمعنى فعل الأمر.
ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع:
الأولى هي الأشهر: فعل الأمر، تقول: اضرب، كقوله - تبارك وتعالى -: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال: 12].
والصيغة الثانية: هي الفعل المضارع الذي دخلت عليه "لام الأمر" نحو لتضرب؛ كما في قوله - تبارك وتعالى -: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:104].
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ فهذا أمر تقول: لتفعل كذا، يعني افعل.
والصيغة الثالثة هي: اسم فعل الأمر، تقول: صه، بمعنى: اسكت.
والصيغة الرابعة هي هذه أي المصدر النائب عن فعله: ضرب الرقاب.
فَضَرْبَ الرِّقَابِ يعني اضربوا الرقاب ضربًا، علمهم كيف يتعاملون مع الكفار إذا لقوهم، أنهم يضربون رقابهم، وخص الرقاب مع أن القتل قد يكون بالطعن، ونحو ذلك، لكنه خص الرقاب؛ لأن ذلك أبلغ في القتل، وأجلى صور القتل التي لا يمكن أن يكون للحياة معها بقاء، إذا ضرب عنقه معنى ذلك أنه لا طب فيه، لكنه قد يداوى من الطعن، أو نحو هذا، فذكر لهم أبلغ الصور، كما في آية الأنفال: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وقد مضى الكلام على هذا، وأن بعضهم فسره: بحز الغلاصم، وقالوا: إن ذلك الموضع هو الذي يُبان منه العنق بأسهل طريق، وأيسر عمل، وقيل غير هذا كما سبق، لكنه علمهم كيف يباد هؤلاء الكفار، وتشل حركتهم أيضًا: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ قطعوا أطرافهم، بحيث لا يستطيعون حمل السلاح، والعدوان على عباد الله - تبارك وتعالى.
وهنا يقول: إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدًا بالسيوف حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ الإثخان مأخوذ من الشيء الثخين وهو الغليظ.
أَثْخَنتُمُوهُمْ والمقصود الإكثار والمبالغة في القتل، مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67].
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ يعني يكثر القتل في أعداء الله - تبارك وتعالى -، فإن هؤلاء يستحقون ذلك، وهذا أمر الله ، وهو أعدل وأحكم وأعلم، ومن ثم فلا حاجة لاجتهادات وفلسفات مع هذا النص الواضح البين، وأمثال هذا النص مما يتعامل به مع أعداء الله المحاربين للإسلام وأهله.
أما تصوير الإسلام بأنه دين لا سلام فيه فإن هذا باطل، وتصوير الإسلام على أنه دين ضعيف فإن ذلك بخلاف حقيقته، وبخلاف ما قرره القرآن، ولذلك فإن هؤلاء المنهزمين لا شك أن مشكلتهم الأولى والكبرى مع القرآن، هذه نصوص القرآن - كما نرى - وهم يحاولون أن يصوروا الإسلام بصورة أخرى تمامًا، فيحسنون إلى الكفار، ويعاملونهم معاملة لا يعاملون عشر معشارها للمسلمين، فهذا قلب للحقائق
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ يعني أكثرتم من القتل فيهم، بحيث لا تقوم لهم قائمة، إذا أنهكهم القتل: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ الوَثاق، ويقال أيضًا: بالكسر.
الوثاق هو ما يوثق به، ما يربط به من جلد بعير، أو نحو ذلك، أو الحبل، فهذا يقال له: الوثاق، وهو اسم للشيء الذي يوثق به، يربط به، أي شُدوه لئلا يحصل لهم انفلات.
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يعني بعد ذلك أنتم مخيرون: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء أي: إما أن تمنوا عليهم بعد الأسر مَنًّا يعني أن تمنوا مَنًّا وَإِمَّا فِدَاء أن تفدوا: فِدَاء.
هنا جاء بالمصدر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء يعني أنتم مخيرون بين الإطلاق مجانًا، أو أخذ العوض من المال، فيفتدي الأسير نفسه بما يدفعه من مال يطلب منه.
وهنا قدم المن على الفداء، بعض أهل العلم يقول: لأن ذلك - والله أعلم - مما كانت تتمدح به العرب، وهذا موجود في كلامهم وأشعارهم، يتمدحون بالمن على الأسارى، يعني من غير مقابل، وأن ذلك أكمل في مكارم الأخلاق، فقدمه: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء، يقول هنا: وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم، وتشارطونهم عليه.
لماذا قال: نزلت بعد وقعة بدر؟
باعتبار أنها لو نزلت قبل وقعة بدر لما حصل ما عاتبهم الله عليه: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى [الأنفال:67] لو كانت هذه الآية عندهم نازلة قبل الوقعة لفعلوا بهم ما أمر الله به، والنبي ﷺ هو أعظم الأمة امتثالاً، فلو كانت نازلة لم يحتج إلى مشاورة أحد، لكن لم تكن هذه الآية نازلة حينئذ، هذا وجه كلام ابن كثير - رحمه الله.
وقوله : حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم .
وكأنه أخذه من قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، حتى يقاتل آخرهم الدجال[1].
وروى الإمام أحمد عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم: أنه أتى رسول الله ﷺ فقال: إني سيّبتُ الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت: لا قتال، فقال له النبي ﷺ: الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يزيغ الله - تعالى - قلوب أقوام، فيقاتلونهم، ويرزقهم الله منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ألا إن عُقر دار المؤمنين بالشام، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة[2] وهكذا رواه النسائي.
هنا جعل الله لذلك غاية: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا هل المقصود بذلك في الوقعة المعينة، افعلوا بهم هذا حتى تضع الحرب المعينة القائمة أوزارها؟ أو أن المقصود بذلك عموم المعاملة مع الكفار، أن يكون هذا هو المَهْيع والمنهج والطريق، هو الإكثار من القتل: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا؟.
ومتى تضع الحرب أوزارها؟
لن تضع الحرب أوزارها إلا في آخر الدنيا؛ لأن النبي ﷺ أخبر عن الملاحم التي تكون مع الكفار، وأخبر أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وأخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين قال: حتى يقاتل آخرهم الدجال[3].
وأخبر عن الدجال ومن يخرج له.
وكذلك أيضًا الملاحم التي تكون ببلاد الشام في آخر الزمان، وغير ذلك مما ذكره النبي ﷺ، الفتوح فتح القسطنطينية، وفتح روما، وهذه الفتوح لم تأتِ بعد، فكل ذلك كائن وواقع، فتضع الحرب أوزارها في آخر الدنيا في آخر مدتها.
وأبو هريرة كان يقول: "أحب تميمًا لثلاث" وذكر منها: أنه سمع النبي ﷺ يقول: أشد أمتي على الدجال[4].
فالمقصود: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، فبعض أهل العلم فسره بهذا، يعني: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يعني إلى نهاية المطاف إلى أن تنتهي المواجهة بين المسلمين والكفار، وذلك في آخر عهد الدنيا، وهذا قال به كثيرون، ولهذا قال مجاهد هنا: حتى ينزل عيسى ابن مريم .
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ما معنى الأوزار هنا؟
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يعني حتى تضع الحرب أثقالها.
ما هذه الأثقال التي تضعها الحرب؟
هي التي لا تقوم الحرب إلا بها من السلاح والمراكب، ونحو ذلك.
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فأسند الوضع إليها، إلى الحرب.
والمقصود: أهل الحرب، يعني حتى يضعوا أثقال الحرب من السلاح، والعتاد، والمراكب التي يركبونها للقتال.
وابن جرير - رحمه الله - فسره بآثامها، حتى تضع الحرب آثامها، وأثقال أهلها المشركين بالله، بأن يتوبوا إلى الله من شركهم، فيؤمنوا به وبرسوله ﷺ، فذلك وضع الحرب أوزارها.
وكأن الذي قبله أوضح وأقرب - والله أعلم -، فإن هذا الأسلوب مستعمل في كلام العرب: وضعت الحرب أوزارها، يعني حطت أثقالها من آلة الحرب من العتاد والعدة، ونحو ذلك مما يستعمل للحرب.
قول مجاهد هنا: حتى ينزل عيسى .
وجاء عنه أيضًا: حتى لا يكون دين غير دين الإسلام.
وهذا بمعنى ما ذكر قبله.
عيسى ﷺ لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فيُسقط الجزية.
بهذا المعنى قال الحسن والكلبي.
يعني بمعنى أنه في عهد عيسى ﷺ يدخل الناس في دين الله -تبارك وتعالى.
والله يقول: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] وذكرنا هناك أن الراجح في تفسير الآية: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بعيسى ﷺ قبل موته، لأن الضمير يرجع إلى عيسى ، وأنه لا يرجع إلى الكافر قبل موت عيسى، يعني إذا نزل في آخر الزمان.
وقريب من هذا قول جماعة من المفسرين أصحاب كتب المعاني، مثل الكسائي والفراء، يقول: حتى يُسلم الخلق، يعني: فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ فليكن هذا هو العمل تجاههم، حتى يدخل الناس في دين الله - تبارك وتعالى.
وبعضهم يقول: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يعني حتى يضع الأعداء الكفار أوزارهم، وهو سلاحهم، بالهزيمة والموادعة، يعني يعلنون الاستسلام، اضربوا الرقاب، فلتكن هكذا سيرتكم معهم، حتى تنكسر شوكتهم، ويذعنوا لكم، وينقادوا.
وبعضهم يقول: الآية فيها تقديم وتأخير.
وهذا مقتضى قول بعض السلف، كالحسن البصري وعطاء، المعنى: إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإما منا بعد وإما فداء، يعني لا يكن ثمة أسر حتى تثخنوا قتلاً، عند ذلك إذا أسرتم فشدوا الوثاق، ثم بعد ذلك أنتم بالخيار.
والقاعدة والأصل هو: أن الكلام على وجهه من الترتيب دون دعوى تقديم أو تأخير، إذا أمكن حمل ذلك على وجه صحيح.
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يعني ليكن هكذا التعامل معهم، لا يكون ثمة أسر إلا بعد الإثخان في القتل في هؤلاء الكفار، حتى تُكسر شوكتهم، وتخضد قوتهم، وعند ذلك يمكن أسرهم، يعني لا تستبقوا هؤلاء الكفار للأسر، بل أبيدوا خضراءهم، ثم بعد ذلك إذا كسرت شوكتهم فتأسرون من بقي، والله تعالى أعلم.
وهذه الآية لم يتكلم في هذا المختصر على كلام أهل العلم فيها: هل هي منسوخة، وإنما تكلم عليها في الأصل؛ لأن هذه الآية: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هل يترك الكفار من غير أهل الكتاب ويقبل منهم الفدية إذا أسروا، أو يتركون مجانًا هكذا يذهبون؟
فبعض أهل العلم يقول: ليس لهم إلا الإسلام، أو السيف، هذا بالنسبة للعرب؛ لأنه لا مجال للخيار الثالث: أنه يدفع الجزية، ومن ثم فإن بعضهم يقول: إن هذه الآية منسوخة، وإن الآيات الواردة في سورة براءة وهي آخر ما نزل في القتال، كآية السيف، تأمر بالقتل دونما سواه: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ولم يجعل لهم مخرجًا من ذلك، إلا: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:5] هذا هو المخرج الوحيد لهم، هكذا يقول بعض أهل العلم، فاستشكلوا هذا الموضع، وقالوا: إنها منسوخة، بهذا الاعتبار.
وبعضهم يقول: هذه ناسخة لتلك الآيات، فإنه يكون مخيرًا بين هذه الأمور، قالوا: وهكذا كانت سيرته ﷺ، وسيرة أصحابه، ولم يزل الناس على هذا بعد رسول الله ﷺ، في تعاملهم مع الكفار، وقتالهم لهم، هذا مجمل الكلام في هذه المسألة، ومنشأ الخلاف فيها، ومعلوم: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، الأصل عدم النسخ، ولا تصح دعوى النسخ لمجرد الاحتمال، وأن الجمع مطلوب ما أمكن، وهذه الآيات ليس بينها منافاة، والله - تبارك وتعالى - يعلم أهل الإيمان، ويبين لهم كيف يتعاملون مع هؤلاء الكفار، من أجل كسر شوكتهم، وكون العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لا ينافي هذا، أعني قوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ومثل هذا عام في الكفار، يعني ليس ذلك في العرب خاصة، والسياق في بيان وجه التعامل مع هؤلاء بالقتل الذريع.
والذين يقولون: إن هذه الآية منسوخة في أهل الأوثان خاصة، أما أهل الكتاب فيتعامل معهم بهذا، يعني المن أو الفداء، أو القتل، على خلاف في ذلك؛ لأنه هنا ما ذُكر، قال: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء هل يؤخر بين القتل والفداء؟ وبين الفداء والمن والقتل؟ أو الاسترقاق؟
فبعض أهل العلم نظر إلى كون القتل هنا لم يذكر، فقالوا: لا يجوز قتل الأسير، وهذا فيه نظر، فالنبي ﷺ قتل عقبة بن أبي معيط، بعد بدر وهو أسير، ومنَّ النبي ﷺ على بعض المشركين، كما هو معلوم، مثل ثمامة بن أثال، وكذلك أيضًا قبل الفداء من أسارى بدر، سوى من قتله منهم، وهو عقبة بن أبي معيط.
فالحاصل: أن بعض أهل العلم يقول: هذه نسخ منها أهل الأوثان: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [التوبة:5].
فهنا يقولون: لا يجوز أن يُؤخذ منهم لا فدية، ولا يمن عليهم، والناسخ آية السيف، وقد مضى: أن بعض أهل العلم يقولون: إنها نسخت مائة وأربعًا وعشرين آية، كل آية فيها تسامح وعفو، وتجاوز وإعراض فهي منسوخة بآية السيف، حتى قال بعضهم: إن قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] منسوخ بآية السيف.
وذكرنا أن هذا الكلام غير صحيح.
والراجح: أنها لم تنسخ هذا القدر.
وهكذا قالوا: إن مما نسخ هذه الآيةَ آياتٌ كقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال:57] كيف يشرد بهم من خلفهم؟، إذا وقع لهم القتل الذريع، وليس بالمن أو الفداء، ونحو ذلك، هذا مما قالوا: إنه ناسخ لهذه الآية، وهذا قال به جماعة من السلف، كقتادة والضحاك وابن جريج والسدي، وآخرين، باعتبار أن سورة براءة هي آخر ما نزل في القتال في الواقع، قالوا: فكل مشرك يجب قتله، إلا من قام الدليل على تركه، كالنساء والأطفال، والشيوخ الكبار الذين لا مشاركة لهم في الحرب، أما إذا كان له رأي، ويستشار، ونحو ذلك فيقتل، كما قتل دريد بن الصمة، في هوازن، كان شيخًا كبيرًا، طاعنًا في السن، لكن كان مجربًا في الحرب، يرجع إلى رأيه، ويستشار.
ويستثنى من ذلك أيضًا: من تؤخذ منه الجزية.
هذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة.
والجمهور على خلافه.
بعضهم يقول: إنها هي هذه الآية هي التي نسخت آية براءة: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [التوبة:5] وجاء هذا عن بعض السلف، كعطاء - رحمه الله.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية ليست منسوخة، وأيضًا ليست ناسخة، قالوا: الإمام مخير بين القتل والأسر والفداء، وكون القتل ما ذُكر في: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء فباعتبار أنه ذكر في آيات أخرى، كما يقول ابن جرير - رحمه الله.
وكل ذلك فعله رسول الله ﷺ كما سبق.
وهذا قول مالك والشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأئمة كثير، هذا قول الجمهور من أهل العلم.
وسيرة النبي ﷺ وأصحابه تدل على ذلك.
وأما ما جاء في قوله: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فإن هذا لا يقتضي الحمل على قتل الأفراد الذين يؤسرون بالضرورة، فإنه يكون مخيرًا فيهم، وسعيد بن جبير يقول: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان، والقتل بالسيف؛ لقوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] وهذا لا ينافي ما سبق، والله أعلم.
الأقرب أن هذه الآية ليست منسوخة، وأن الإمام مخير في هؤلاء الكفار، بحسب ما يراه من المصلحة، لكن المطلوب ابتداءً هو الإثخان في القتل، والإكثار من القتل.
هنا في الحديث الذي ذكره، جاء القتال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ الله - تعالى - قلوب أقوام، فيقاتلونهم [5] يعني لا يزال الكفر يتجدد في الناس جيلاً بعد جيل، فسبب الجهاد قائم.
وقوله : ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ أي: هذا: ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده.
وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ أي ولكن شرع لكم الجهاد، وقتال الأعداء، ليختبركم، ويبلو أخباركم، كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
وقال - تبارك وتعالى - في سورة براءة: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:14-15].
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثير من المؤمنين، قال: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ أي: لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضاعفها.
ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال: قال رسول الله ﷺ: يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان تفرد به أحمد -رحمه الله[6].
وقال أبو الدرداء : قال رسول الله ﷺ: يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته [ورواه أبو داود][7].
والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدًّا.
قوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ هذه قراءة أبي عمرو وحفص.
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ بمعنى: أن الله - تبارك وتعالى - ينميها، ويجزيهم عليها، فلن يذهب سعيهم وعملهم وجهادهم، فإن ذلك يجدونه عند الله - تبارك وتعالى -، لا يضيع أعمال هؤلاء الذين قتلوا، لكن قوله - تبارك وتعالى -: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ هنا يرد سؤال عن المراد بالهداية بعد القتل، هؤلاء قتلوا، فارقوا الدنيا، فيهديهم إلى ماذا؟.
مضى في سورة الفاتحة الكلام على الهدايات اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6] أن ابن القيم - رحمه الله - ذكر أنواعًا كثيرة للهداية، فبعض هذه الهدايات في الدنيا، وبعض هذه الهدايات في البرزخ، وبعض هذه الهدايات في القيامة، فالهدايات التي في الدنيا: أولها: الهداية إلى الإسلام، والهداية إلى العلم، والهداية إلى الصواب فيه، والهداية إلى العمل، والهداية إلى أفضل الأعمال؛ لأن الأعمال متفاوتة، والهداية إلى الثبات، هداية التوفيق، أن يثبت الإنسان على هذا، ما يتعلم مدة ثم ينقطع، أو يعمل مدة ثم ينقطع، بل يسدد ويستمر إلى أن يلقى الله - تبارك وتعالى -، وكذلك أيضًا من الهدايات: أن يهدى الإنسان عند الموت، فيختم له بالسعادة، الإنسان قد يفتن عند موته.
ومن الهدايات التي تكون بعد الموت: الهداية عند سؤال الملكين، فيسدد ويثبت.
ومن الهدايات التي تكون له بعد ذلك في القيامة: أنه يهدى عند الحساب، وكذلك أيضًا: يهدى إلى الصراط، ويهدى على الصراط، ثم يهدى إلى باب الجنة، ثم يهدى إلى منزله في الجنة، وهذا الأخير هو الذي يذكره أكثر المفسرين، يقولون: سَيَهْدِيهِمْ يعني إلى منازلهم في الجنة، يهتدون إليها، يعرفونها أعظم مما يعرفون منازلهم في الدنيا، هكذا قال أكثر المفسرين، مع أن الحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر هذا المعنى، وذكر فيه معنى آخر على سبيل الاحتمال: هؤلاء الذين قتلوا ما هذه الهداية التي تحصل لهم؟
المعنى الثاني الذي ذكره: أن من علم أن هذا هو مصيرهم، أنهم سيصيرون إلى القتل في سبيله، فإن الله يسددهم قبل ذلك، قبل القتل، ويهديهم إلى أحسن الأعمال، وإلى ما يكون به سعادتهم، وحسن خاتمتهم، هكذا ذكره احتمالاً، وما عزاه لأحد، يعني يقول: لا يستبعد أن يكون هذا هو المراد.
لكن على قراءة الجمهور: والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم هذا واضح، لا يرد عليه السؤال السابق؛ لأن المجاهدين المقاتلين في سبيل الله لن يضيع الله أعمالهم، قال: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ يهديهم إلى الحق، يهديهم إلى الصواب، يهديهم إلى أحسن الأعمال.
وتأمل هنا: "والذين قاتلوا في سبيل الله" فما كل من قاتل يكون قتاله في سبيل الله، ومن ثم لا تحصل له هذه الهداية، فقد يقاتل الإنسان رياءً، وقد يقاتل حمية لقومه، وقد يقاتل شجاعة، وقد يقاتل عصبية، وقد يقاتل لزيد أو عمرو من الناس، من أجل أن يحصل له سلطان وظهور، ونحو ذلك، وقد يقاتل من أجل حزب، أو نحو ذلك، أو قومية، أو وطنية، أو ما أشبه هذا.
القتال في سبيل الله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
إذًا، من قاتل متجردًا لله وفي الله فهو في سبيل الله، يريد أن يظهر الحق، تعلو كلمة الله، المقاتل قد لا يستحضر هذا المعنى، قد يكون قتال بعض الناس ظاهره أنه في سبيل الله، والواقع أنه يقاتل رياءً، أو يقاتل حمية، وعصبية لطائفة من الناس، وهذا أشد ما يكون على أعمال المجاهدين ونياتهم، أن يدخل الدخيل، فينسى نفسه، فيكون الصراع ليس لإعلاء كلمة الله، وإنما لهذه الشعارات، كل مجموعة لها شعار تدور حوله، وتريد أن تنتصر له، وتنتصر لهذه الطائفة، وأن تكون هي الأقوى، والأكثر والأوفى والأوفر، وكل النقاشات وكل الجدال، وكل الحديث مع الآخرين، وكيف أستطيع أن أقنعهم بأن هذه الطائفة التي أقاتل معها أنها أولى وأكمل وأحسن وأصلح، وأن البقية يجب أن ينقادوا لهم، ويذعنوا، وأن يدخلوا تحت رايتهم، فأصبحت أحزابًا متصارعة، ليُنسى معها الهدف الأسمى والأكبر، وهو: أن تكون كلمة الله هي العليا، هذا يحصل في ساحة القتال وميدانه، ويحصل أيضًا في ساحة الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى -، وهذا من أشد الأمور إيلامًا، فهو أمر في غاية الإزراء، إذا تذكره المرء أورثه مرارة، كيف يتحول الناس الذين ينتسبون إلى الدعوة إلى الله في أصقاع المعمورة إلى مثل مشجعي الرياضة والكرة، وما أشبه ذلك، كل واحد يقول: طائفتي، ويدور حولها، وقد يكون هذا باسم جمعية، أو باسم غير ذلك، تجد جمعيات وأسماء الدعاة يدورون حولها، في بلاد مختلفة، فكيف تكون هذه الجمعية هي الجمعية الأولى في ذلك الإقليم أو البقعة أو البلد، فينسى الهدف الكبير: أن تكون كلمة الله هي العليا، يكفي أن الإنسان يقصد هذا الهدف، ولا يلتفت إلى شيء بعد ذلك، يقرب الناس ويحبهم ويؤثرهم، وما إلى ذلك بقدر ما فيهم من تحقيق الاتباع للكتاب والسنة، دون أي اعتبار آخر، وما عداه فهو لعب صبيان، لا يجوز الالتفات إليه بحال من الأحوال.
ومثل هذا أيضًا - وهو أشد - مواجهة الكفار، أن تتحول كتائب الإيمان إلى عصابات متناحرة، كل عصابة ترفع شعارًا، وهم لا يختلفون على المبدأ، وإنما لو حصل التجرد من حظوظ النفس والطائفة لكانوا مجتمعين، كانوا يدًا واحدة على هؤلاء الأعداء، ولكنه الشيطان لا يترك أحدًا، حتى هؤلاء الذين يبذلون أرواحهم في سبيل الله، فقدموا أغلى الأشياء، قدموا النفس والمال، ولكن الشيطان لا يتركهم، فيورثهم هذا الصراع والاختلاف فيما بينهم، ثم بعد ذلك تتحول النيات وتتغير، وهذا بلاء كبير على مستوى الأفراد، حينما تتحول نيته ويقتل، فقد لا يكون ذلك في سبيل الله، الإنسان ليس له إلا نفس واحدة، وهكذا أيضًا حينما يؤثّر ذلك على أهل الإيمان، وعلى أمة الإسلام عمومًا، التي لا يمكن لطائفة أن تستقل بمصالح الأمة، وأن تدعي أنها تملك جهاد الأعداء، أو أنها تأخذ وتملك زمام الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى -، فهذا كله ينبغي الترفع عنه، والتجافي عن مثل هذا، وأن يكون أمر الإنسان دائمًا إلى الله لا يلتفت إلى شيء آخر، ولا يجوز أن يتعصب، وأن يتحزب لطائفة، ولكن سبحان الله حينما يعيش الإنسان في بيئة منتنة فإنه قد لا يدرك مثل هذا البلاء ولا يشعر أنه منغمس فيه، مثل ذاك الذي - أعزكم الله - يعيش في مدبغة، محل لدباغة الجلود، فالروائح تقتل، لكنه لا يشعر، أضرب لكم أمثلة، يعني الناس حينما يكونون في مكان محصور، في غرفة مغلقة النوافذ والأبواب وهم كثير فإن الهواء يتغير، فمن يرِد عليهم من خارج هذا المكان يدرك ما هم فيه، ولكنهم لا يشعرون، جميعًا لا يشعرون، فحينما يكون الإنسان في بيئة معتمة هو لا يشعر، لكن من فتح الله بصيرته يدرك الخلل والعوار والانحراف، وينبغي أن ينصح الناس بعضهم بعضًا، ويسدد بعضهم بعضًا، ويأخذ بعضهم بيد بعض، والمؤمنون نَصَحة، ولا يُترك الناس هكذا، كلٌّ يفعل ما شاء ثم بعد ذلك تضيع جهودهم ومصالحهم، وتضيع مصالح الأمة، والأعداء يكيدون، ولن يجدوا أعظم مما يفعله المسلمون بأنفسهم في تفرقهم واختلافهم هذا، والله المستعان.
وقوله - تبارك وتعالى -: سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى الجنة، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9].
وقوله : وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ أي: أمرهم وحالهم.
سَيَهْدِيهِمْ هنا إلى الجنة، هؤلاء الذين قُتلوا، على قراءة أبي عمرو وحفص، ولكن على قراءة الجمهور سَيَهْدِيهِمْ إلى الرشد في الدنيا والثواب في الآخرة، والجنة في آخرتهم.
- أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، رقم (168) وأصله في البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، رقم (7311)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم رقم (1920).
- رواه أحمد (16965) وقال محققو المسند: "إسناده حسن".
- أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، رقم (168) وأصله في البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، رقم (7311)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، رقم (1920).
- رواه البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، رقم (2543)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل غفار، وأسلم، وجهينة، وأشجع، ومزينة، وتميم، ودوس، وطيّئ، رقم (2525).
- رواه أحمد (16965)، وقال محققو المسند: "إسناده حسن".
- رواه أحمد، رقم (17783)، وقال محققو المسند: "حديث حسن".
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الشهيد يشفع، رقم (2522)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (2277)، وفي صحيح الجامع الصغير وزياداته، رقم (8093).