الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله - تعالى - ولرسوله ﷺ.

وقد ثبت في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش[1] أي: فلا شفاه الله .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ "الذين كفروا" مبتدأ، والخبر بعض أهل العلم يقول: مقدر محذوف، يدل عليه ما بعده أي الذين كفروا فتعسوا تعسًا، ويكون الخبر بهذا الاعتبار جملة فعلية، وهنا: "تعسًا" جاء منتصبًا على المصدر للفعل المقدر: "تعسوا تعسًا".

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ تعسوا تعسًا، مثل سقيًا لهم، يعني أصل التَّعْس: فلان تعيس، فلان في تعاسة، ونحو ذلك، هذا بمعنى الشقاء، الانحطاط، التعثر.

وبعضهم كابن السكيت يقول: التعْس هو الجر على الوجه، والنكس أن يجر على رأسه، مع أنه يقرر أن التعْس بمعنى الهلاك: "تعسًا لهم" هلاكًا لهم، فكأنهم نظروا إلى أصل المعنى، كما يقول بعض أهل اللغة في تفسيره، مثل الجوهري صاحب الصحاح: إن أصله الكب، وهنا قالوا: الجر على الوجه، هذا في أصله، لكنه صار يستعمل في الشقاء، ولهذا قالوا: هو ضد الانتعاش، وعبارات أصحاب المعاني والمفسرين في هذا: بعضهم كابن جريج يقول: بعدًا لهم.

والمبرد يقول: فمكروهًا لهم.

هذان متقاربان.

وكذلك قول السدي: خزيًا لهم.

وقول ابن زيد: شقاء لهم.

وقول الحسن: شتمًا لهم.

وقول ثعلب: هلاكًا لهم.

وقول الضحاك: خيبة.

وقول من قال: قبحًا لهم، أو شرًّا لهم، أو شقوة.

كل هذا تفسير للتعْس والتعاسة ببعض معناه، فهي بمعنى الشقاء الذي يحمل في طياته هذه المعاني، التعاسة لهم، الشقاء، هذا الشقاء في الدنيا والآخرة، من شقائهم: أنهم يسحبون في النار على وجوههم، من شقائهم: التعثر في الدنيا، من شقائهم: قلة التوفيق، وانعدام التوفيق، إلى غير ذلك، ولهذا يقول ابن جرير - رحمه   الله -: فخزيًا لهم وشقاء وبلاء.

فكل هذا داخل في التعاسة: "تعسًا لهم" التعاسة هي النصيب الأوفى والأوفر للكفار، هؤلاء لا فلاح لهم، وإن حصل لهم شيء من التمتع في هذه الحياة الدنيا، لكن هؤلاء يعيشون في ضيق ونكد لا يقادر قدره، ولذلك قارن بين المصحات النفسية في بلاد الغرب، هؤلاء الذين مُتعوا بالملاذ، ولا يوجد عندهم محرمات وممنوعات، وهم في حال من التمكن، ذللت لهم سبل العيش تذليلاً، ومع ذلك هم أتعس الناس، وأشقى الناس، وهؤلاء يكفي أنهم لا يعرفون الله - تبارك وتعالى -، ولا يذكرونه، فأسباب الفلاح والسعادة منعدمة في حقهم تمامًا، ولذلك تجد المقاتلين منهم مع أنهم في الظاهر في حال تمكن وانتصار، ويقتلون المسلمين قتلاً ذريعًا، ويخربون البلاد على رءوس أهلها، ومع ذلك تقرءون في التقارير أنهم يتراوحون بين حالات جنون، وحالات اكتئاب شديد، وإحصاءات تذكر لهؤلاء العائدين من ميادين القتال، إحصاءات بالاكتئاب، والأمراض العقلية، والأمراض النفسية، مع أنهم في الظاهر في انتصار.

لو كان هؤلاء يُمزَّقون كما تمزق أشلاء المسلمين، ويفعل بهم ما يفعل بالمسلمين كيف يكون حالهم؟!

سيموتون، موت - نسأل الله العافية - الفراش، الذي يتهافت على النار، يموتون يعني من غير قتل.

لو كان هذا البلاء الذي يصب على بلاد المسلمين في بلد من بلدانهم، لهلكوا، لا يحتملون إطلاقًا، ولا يطيقون؛ لأنهم لا يحتسبون، ولا يعرفون الله، ولا يرجون ما عنده، غاية ما عندهم هي هذه الحياة الدنيا، فبأدنى مكدر تتحول حياتهم إلى جحيم، والله المستعان.

وقوله : وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أي: أحبطها وأبطلها، ولهذا قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ أي: لا يريدونه ولا يحبونه، فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ، ذَلِكَ هنا إشارة إلى ما تقدم من التعْس والإضلال: لماذا فعل بهم ذلك؟ أي الأمر ذلك، أو ذلك الأمر لأنهم: كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فعل بهم ذلك لكونهم: كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ.

وهنا هذا الموضع يبين خطورة هذا العمل القلبي، بالكراهية، يعني مجرد الكراهية، كراهية ما أنزل الله، فالذي يكره دين الله - تبارك وتعالى - وشرعه، يرى أن هذا التشريع ثقيل، أن هذا التشريع لا يتناسب مع العصر، أنه لا يمثل ما ينبغي أن يكون عليه الناس في حضارتهم، وما وصلوا إليه من الأسباب في هذه العصور بتعاملاتهم وقوانينهم ونظمهم، وما أشبه ذلك، كل هذا يدخل في هذه الآية.

يبغض الدين، يكره الدين، يكره ما أنزل الله على رسوله ﷺ، يكره الشرع، هو دائمًا محارب لله ولرسوله ولأوليائه ولدينه وشرعه، ليس له شغل إلا هذا، في عموده الذي يكتب فيه دائمًا ليس له شأن إلا الوقيعة في أهل الإيمان، ويفرح وينتشي لكل ما يحصل ويحدث مما يكون فيه الحط، أو الخفض للدين وأهله، يعلن فرحه بذلك، ويضيق ذرعًا حينما يرى الظهور لأولياء الله - تبارك وتعالى -، ولشرعه وكتابه، فمثل هذا المبغض لدين الله داخل في ذلك: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فيعلل هذا لماذا كانت لهم التعاسة والشقاء؟ لكراهيتهم، هذا الذي يكره الشريعة، ويكره التحاكم إليها، ويكره تحكيمها، ويرى أن ذلك من العار والشنار، وأن من الجرم أن ينادى بتحكيم شرع الله في رقاب الخلق، مثل هذا لا شك أنه داخل في هذه الآية: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ ويكون ذلك سببًا لحبوط الأعمال: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ولا يمكن أن يحصل هذا - حبوط الأعمال - إلا لمن خرج من دائرة الإسلام، إلا لمن كان كافرًا، فإن الله - تبارك وتعالى - يقول: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] فلا يوجد شيء يحبط جميع الأعمال إلا الإشراك بالله -.

فيحذر المؤمن من الوقوع في مثل هذا.

ومن أراد الله شقاءه فإن ارتكاسته تكون بهذا وأمثاله، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، رقم (2886).