وقد روي عن ابن عباس - ا - أنه قال: آخر سورة أنزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ، وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وقد روى الحاكم في مستدركه نحو رواية الترمذي ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وروى الحاكم أيضاً عن جبير بن نفير قال: حججت، فدخلت على عائشة - ا - فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما، وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه[2].
ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح، وزاد: وسألتها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: "القرآن"، وراوه النسائي[3]."
فهذه السورة من أكثر سور القرآن اشتمالاً على الأحكام إلا أنها أقصر من سورة البقرة، ولذا كانت البقرة أكثر منها من جهة الأحكام التي اشتملت عليها.
وهذا الأثر الذي ذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "آخر سورة أنزلت سورة المائدة، والفتح"، في إسناده ضعف، والمقصود بالفتح سورة النصر إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وليست سورة الفتح قطعاً أعني التي مطلعها إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [سورة الفتح:1]؛ لأن هذه نزلت في السنة السادسة بعد صلح الحديبية، ويدل على هذا رواية ابن عباس التي بعدها "آخر سورة أنزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ".
ويمكن أن يُجمع بين هذا، وهذا باعتبار أن سورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، بمعنى أنه لم ينسخ منها شيء، ولذا كانوا يكتفون أحياناً لبيان أن هذا من المحكم بأن يقولوا: هذا من سورة المائدة.
فيجمع بين القولين بأن يقال: سورة النصر آخر سورة نزلت كاملة، وآخر ما نزل في الأحكام سورة المائدة، وآخر ما نزل في المواريث آية الكلالة التي في سورة النساء.
روى ابن أبي حاتم أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ، فقال: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فارْعِها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وعن خيثمة قال: كل شيء في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فهو في التوراة: "يا أيها المساكين".
قوله تعالى: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وغير واحد: يعني بالعقود: العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف، وغيره.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ يعني بالعهود، يعني ما أحل الله، وما حرم، وما فرض، وما حَد في القرآن كله فلا تغدروا، ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [سورة الرعد:25] إلى قوله: سُوءُ الدَّارِ [سورة الرعد:25].
وقال الضحاك: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ قال: ما أحل الله، وما حرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي، والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال، والحرام."
العقود جمع عقد، والعقد يطلق، ويراد به الربط، وهذه اللفظة من حيث هي تدل على الشدِّ، والتأكيد، والاستيثاق من الشيء، وذلك يكون في الأمور المحسوسة، وفي الأمور المعنوية، فالأول كالعقدة في الحبل، وعقدت الحبل، وفي الأمور المعنوية كالعقود في هذه الآية.
وهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير عن السلف في معنى العقود يدل على أنهم حملوها على العموم.
والعقود مع الله - تبارك، وتعالى - يكون بفعل فرائضه، واجتناب محارمه، وأعظم ذلك هو التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له من غير نكث لذلك، ومنه النذر، ومنه أيضاً ما يعاهد الإنسان به ربه، كما قال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة التوبة:75].
فالحاصل أن الإنسان يجب عليه أن يفي بالعهود مع الله، وأن يفي بالعهود، والعقود مع الناس فلا يخل بشيء من ذلك، ومن أمثلته الداخلة تحته ما يحصل بين الناس من أحلاف، ومعاقدات في أنواع المعاملات التي يتعاملون بها، فالآية تشمل ذلك جميعاً، أي: ما ألزم الله به من الفرائض، والأحكام، وما يكون بين الناس من العهود، والعقود، والمواثيق، وما يتفقون عليه، سواء كان في باب النكاح كالشروط التي تشترطها المرأة، وليست محرّمة، أو ما يكون بين الناس في الشركات، أو البيوع، أو غيرها من أنواع المعاملات، فهذا كله يجب الوفاء به، لعموم قوله سبحانه: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].
في قوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ بعض أهل العلم يقول: إن أصل البهيمة تطلق على ذوات الأربع، وقيل لها ذلك لإبهامها، فهي لا تنطق، ولا تبين عن نفسها، فقيل لها: بهيمة لا تعقل، ولا تنطق.
وبالنسبة للأنعام فالأقرب - والله تعالى أعلم، والذي عليه عامة أهل العلم - أن ذلك يطلق على الأربع التي ذكرها الله في سورة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم بنوعيها - الضأن، والماعز -، فهذه هي بهيمة الأنعام، ولهذا يقال مثلاً: إن الهدي، أو الأضاحي تكون من بهيمة الأنعام يعني من هذه الأصناف الأربعة، مع أن التحليل لا يتوقف عليها، فالذي أحله الله أوسع من هذا، فالخيل مثلاً يجوز أكله، وكذلك أيضاً الصيود بأنواعها الكبار، والصغار إلا ما استثني نحو كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وما عدا ذلك فيجوز أكله، ومن ذلك أيضاً ما يوجد في البحر إلا ما ثبت ضرره، والله قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُم، وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157] فكل ما لم يثبت فيه الضرر فإنه مباح.
وقضية المستخبثات يختلف العلماء في ضابطها، فمنهم من قال: ما استخبثه العرب الأولون فهو خبيث، ويدخل في هذا أنواع الحشرات إلا أن هذا لا ينضبط؛ لأن العرب كانوا يأكلون أشياء كثيرة جداً، ويتفاوتون في هذا، فربما لا يكون لهم عرف مطرد في مثل هذه القضايا، ويدل على ذلك قول الأعرابي الذي سئل ماذا تأكلون في الصحراء؟ قال: نأكل كل شيء إلا أم حبين، وهي دويبة معروفة تشبه الوزغ، ثم قال: لتهنأ أم حبين العافية، فقد سلمت منكم.
فالعرب يأكلون كل شيء، ومعروف في أخبارهم في السيرة أنهم يأكلون الجعلان، ونحو ذلك؛ لشدة فقرهم، وتصحر بلادهم، كما أنهم كانوا يأكلون الحمار، ولم يحرم عليهم إلا في يوم خيبر، وعلى كل حال مثل هذه القضايا يختلف فيها أهل العلم من جهة ما هو المستخبث، أي أنهم يختلفون هل يوقف ذلك عند ما حرمه الشرع، وما عداه فهو جائز إلا ما ثبت ضرره، أم لا؟ - فالله أعلم -.
قوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [سورة المائدة:1] ربما يكون أطلق على الغنم، والبقر، والإبل اسم الأنعام للينها في مشيها فهي ليست مثل الوحوش في عدوها، وتوثبها، وما أشبه ذلك، وإنما هي لينة المشي إذا مشت تمشي الهوينى، وربما يكون أطلق عليها ذلك لسبب آخر من جهة الإفضال - والله أعلم -.
قوله: قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب" يعني أن الأنعام تطلق على هذه الأشياء الأربع - الإبل، والبقر، والغنم بنوعيها -، وكذلك هو عند العرب، مع أن من أهل العلم من قال: إن المراد بقوله تعالى هنا: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [سورة المائدة:1] يعني البهائم الوحشية مثل الضباء، وما شابه ذلك، وربما يكون الذي حدا بهؤلاء إلى القول: إنها بقر الوحش، أو الحمر الوحشية، أو الضباء، والوعول، وما أشبه هذا من الصيود؛ أنه قال هنا في الآية: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1]، فإذا قيل: إن المراد بها البهائم الوحشية يكون الاستثناء هنا لا إشكال فيه، حيث يصير المعنى: أحلت لكم هذه الصيود إلا في حال الإحرام.
ومن أهل العلم من يقول: هي ذوات الأربع من البهائم التي ترعى، وليست المفترسة فيدخل فيها الأصناف الأربعة، ويدخل فيها أيضاً الوحشي من هذه الصيود التي ذكرت، فيكون ذلك شاملاً للجميع، ويكون الاستثناء بعده غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ لا إشكال فيه؛ لأن المعنى يصير: أحل الله لهم هذه البهائم التي تأكل الأعشاب، والحشائش، ويستثنى من ذلك حال الإحرام، فلا يصاد فيه شيء من هذا - يعني من الوحشي -، والوحشية تشمل الوحشي الذي يبقى على وحشيته، وتشمل ما يستأنس به مما كان أصله وحشياً كالأرنب، والحمامة، فهذه أصلها وحشي فإذا بقي عند الناس، و صار إنسياً فإنه لا يجوز صيده في حال الإحرام؛ لأن العبرة بالأصل.
كيف استدلوا بهذه الآية على إباحة الجنين؟
استدلوا بهذه الآية على إباحة الجنين من قوله: بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ على أن الأنعام هي الأصناف الأربع، وإن شئت أن تقول الثلاث التي هي الإبل، والبقر، والغنم، وبهيمة الأنعام أولاد الأنعام، أو صغار الأنعام، وبهذا استدلوا على أن الجنين إذا مات في بطن أمه عند ذبحها جاز أكله - والعلم عند الله -.
روى أبو داود عن جابر بن عبد الله - ا - عن رسول الله ﷺ قال: ذكاة الجنين ذكاة أمه تفرد به أبو داود[5]."
الحديث معروف، وثابت عن النبي ﷺ، وبه يُستدل على جواز أكل الجنين الذي أخرجناه من بطن أمه ميتاً بعد أن ذكيت، فليس الاستدلال على ذلك بالآية، وإنما بهذا الحديث - والله أعلم -.
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [سورة المائدة:3] فإن هذه، وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] يعني منها؛ فإنه حرام لا يمكن استدراكه، وتلاحقُه؛ ولهذا قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال."
فقوله: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هذا مما أبهم، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ومن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فقوله تعالى: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يفسر بما يتلى علينا في المحرمات التي ذكرها الله - تبارك، وتعالى - في مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3]، وكقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].
وقوله - تبارك، وتعالى -: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يحتمل معنيين، الأول: أن يكون الاستثناء راجعاً إلى المذكورات قبله، هكذا: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1] ثم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] ثم قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ إلى آخره، ثم قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] أي من الأنعام المذكورة في الآية قبل، والاحتمال الثاني أن يكون الاستثناء منقطعاً - وسيأتي الكلام على هذا بعد -.
التركيب في قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ لا يخلو من إشكال إلا إذا فسر بأحد التفسيرين اللذين ذكرناهما، وهو إما أن يقال: إن الأنعام هي الإنسية، والوحشية، فيكون غير محلي الصيد يعني إلا أن تصيدوا ما يصاد منها في حال الإحرام، وهذا لا إشكال فيه.
والمعنى الثاني أن يكون المراد بالأنعام هو الوحشي، فيكون ذلك مباحاً إلا في حال الإحرام فلا تصيدوا شيئاً منه، وعلى هذا أيضاً لا إشكال، لكن إذا خصت الأنعام ببهيمة الأنعام في أصنافها الأربعة المعروفة، فماذا يفسر به قوله هنا: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ، وهذه الأنعام أصلاً ليست من الصيد؟
بعض أهل العلم - وهو مذهب البصريين - يرجعون الاستثناء إلى الأنعام، ويكون السياق عندهم هكذا: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم - أي الميتة، والدم... الخ - إلا الصيد، وأنتم محرمون، ويكون هذا التفسير ليس تفسيراً حرفياً، وإنما هو تفسير بالمعنى، وعلى هذا لا يكون الصيد من بهيمة الأنعام، وإنما ذكره من باب بيان ما يحل، وما لا يحل، فقال: الأنعام حلال إلا الميتة، والمنخنقة، والموقوذة إلى آخره.
ومن نفس الباب ذكر تحريم الخنزير، وإلا فالخنزير ليس من الأنعام، لذلك إذا أردت أن تفسر تفسيراًِ بالحرف فإنك ستقع في إشكالات، ولذلك لما حصل التكلف عند المتأخرين، وقعوا في أسئلة، وإشكالات يصعب الجواب عنها، أما السلف فقد كانوا يفسرون بطريقة أخرى، فالمقصود أن الخنزير ذكره الله في جملة المحرمات، وإن لم يكن من بهيمة الأنعام؛ فذاك مقام فصَّل الله فيه ما يحرم فذكر الصيود في حال الإحرام فهي، وإن لم تكن من بهيمة الأنعام إلا أن الله ذكر ذلك في مقام ما يحرم، وما يحل من هذه الحيوانات.
وبعضهم يقول: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] بدل من الأنعام، وهذا يقوله بعض أئمة اللغة أمثال الفراء، والأخفش.
وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، يعني يكون هكذا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود في حال كونكم غير مستحلين للصيد في حال الإحرام.
وبعضهم يقول: هو حال من الكاف، والميم في "لكم"، والتقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد، يعني في حال كونكم غير مستحلين للصيد، وأنتم حرم.
وبعض أهل العلم ينزع في هذا إلى أن هذا الإحلال لكم في بهيمة الأنعام مشروط بكونكم غير متعدين حدود الله، وهذا فيه إشكال؛ لأنه حتى الذي تعدى على الصيد في حال الإحرام لا يقال: إنه يحرم عليه بهيمة الأنعام.
وعبارة ابن جرير - رحمه الله - في هذا: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم، وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففي ما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها متَّسع لكم، ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم"، وهذا يشبه قول الأخفش، والفراء، أي أن قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].
على كل حال إذا أردنا أن نفسر الآية على المعنى نقول: إن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، وعرفنا أن هذه العقود يدخل فيها حدود الله، وأحكامه، وما يتعاقده الناس فيما بينهم، ومن حدود الله الحلال، والحرام في المطعومات من هذه الصيود، وغيرها.
ثم يبين الله - تبارك، وتعالى - لهم ممتناً عليهم ما جعل لهم من التوسعة في بهيمة الأنعام التي سخرها، وأباحها لهم لينتفعوا بها في وجوه الانتفاع المختلفة المتنوعة فيقول: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1]، وهذا يدخل فيه المذكورات في الآيات الأخرى مما يحرم.
إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1] أي أن الله، وسع عليكم، وأفاض عليكم من ألوان النعم ما تستغنون به عن الصيد، فلم يضيق عليكم بهذا الحكم في حال الإحرام - والله تعالى أعلم -.
والقرآن من أراد أن يفهمه فينبغي أن يكثر، ويدمن من النظر، والتأمل في النصوص الواردة عن السلف عند تفسيرهم للقرآن، فما كانوا يفسرونه بطريقة المتأخرين الذين يريدون أن يقفوا عند كل حرف، وكل لفظة فيركبوا المعنى على هذه الحروف، والألفاظ - والله تعالى أعلم -.
هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن إباحة الأنعام ليست مشروطة بالتزام حرمة الصيد.
- أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو وابن عباس في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ - تفسير سورة المائدة (3063) (ج 5 / ص 261) وقال الألباني: ضعيف الإسناد.
- أخرجه الحاكم (3210) (ج 2 / ص 340) وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم, وصحح إسناده الألباني في الإرواء (ج 1 / ص 139).
- أخرجه أحمد (25588) (ج 6 / ص 188) والنسائي في السنن الكبرى (11138) (ج 6 / ص 333).
- أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا- باب ما جاء في ذكاة الجنين (2829) (ج 3 / ص 62) وابن ماجه في كتاب الذبائح - باب ذكاة الجنين ذكاة أمه (3199) (ج 2 / ص 1067) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2827).
- أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا- باب ما جاء في ذكاة الجنين (2830) (ج 3 / ص 63) والترمذي عن أبي سعيد في كتاب الأطعمة – باب ما جاء في ذكاة الجنين (1476) (ج 4 / ص 72) وصححه الألباني في المشكاة برقم (4091).