الأحد 03 / محرّم / 1447 - 29 / يونيو 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَوْفُوا۟ بِٱلْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى -: تفسير سورة المائدة: قد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة، والفتح، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب[1].
وقد روي عن ابن عباس - ا - أنه قال: آخر سورة أنزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ، وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وقد روى الحاكم في مستدركه نحو رواية الترمذي ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وروى الحاكم أيضاً عن جبير بن نفير قال: حججت، فدخلت على عائشة - ا - فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما، وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه[2].
ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح، وزاد: وسألتها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: "القرآن"، وراوه النسائي[3]."

فهذه السورة من أكثر سور القرآن اشتمالاً على الأحكام إلا أنها أقصر من سورة البقرة، ولذا كانت البقرة أكثر منها من جهة الأحكام التي اشتملت عليها.
وهذا الأثر الذي ذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "آخر سورة أنزلت سورة المائدة، والفتح"، في إسناده ضعف، والمقصود بالفتح سورة النصر إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1]، وليست سورة الفتح قطعاً أعني التي مطلعها إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [سورة الفتح:1]؛ لأن هذه نزلت في السنة السادسة بعد صلح الحديبية، ويدل على هذا رواية ابن عباس التي بعدها "آخر سورة أنزلت: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ".
ويمكن أن يُجمع بين هذا، وهذا باعتبار أن سورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، بمعنى أنه لم ينسخ منها شيء، ولذا كانوا يكتفون أحياناً لبيان أن هذا من المحكم بأن يقولوا: هذا من سورة المائدة.
فيجمع بين القولين بأن يقال: سورة النصر آخر سورة نزلت كاملة، وآخر ما نزل في الأحكام سورة المائدة، وآخر ما نزل في المواريث آية الكلالة التي في سورة النساء.
"بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة المائدة:1-2].
روى ابن أبي حاتم أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ، فقال: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فارْعِها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
وعن خيثمة قال: كل شيء في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فهو في التوراة: "يا أيها المساكين".
قوله تعالى: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وغير واحد: يعني بالعقود: العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، قال: والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف، وغيره.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ يعني بالعهود، يعني ما أحل الله، وما حرم، وما فرض، وما حَد في القرآن كله فلا تغدروا، ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [سورة الرعد:25] إلى قوله: سُوءُ الدَّارِ [سورة الرعد:25].
وقال الضحاك: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ قال: ما أحل الله، وما حرم، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي، والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال، والحرام."

العقود جمع عقد، والعقد يطلق، ويراد به الربط، وهذه اللفظة من حيث هي تدل على الشدِّ، والتأكيد، والاستيثاق من الشيء، وذلك يكون في الأمور المحسوسة، وفي الأمور المعنوية، فالأول كالعقدة في الحبل، وعقدت الحبل، وفي الأمور المعنوية كالعقود في هذه الآية.
وهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير عن السلف في معنى العقود يدل على أنهم حملوها على العموم.
والعقود مع الله - تبارك، وتعالى - يكون بفعل فرائضه، واجتناب محارمه، وأعظم ذلك هو التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له من غير نكث لذلك، ومنه النذر، ومنه أيضاً ما يعاهد الإنسان به ربه، كما قال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة التوبة:75].
فالحاصل أن الإنسان يجب عليه أن يفي بالعهود مع الله، وأن يفي بالعهود، والعقود مع الناس فلا يخل بشيء من ذلك، ومن أمثلته الداخلة تحته ما يحصل بين الناس من أحلاف، ومعاقدات في أنواع المعاملات التي يتعاملون بها، فالآية تشمل ذلك جميعاً، أي: ما ألزم الله به من الفرائض، والأحكام، وما يكون بين الناس من العهود، والعقود، والمواثيق، وما يتفقون عليه، سواء كان في باب النكاح كالشروط التي تشترطها المرأة، وليست محرّمة، أو ما يكون بين الناس في الشركات، أو البيوع، أو غيرها من أنواع المعاملات، فهذا كله يجب الوفاء به، لعموم قوله سبحانه: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].
"وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [سورة المائدة:1] هي الإبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، وغير واحد."

في قوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ بعض أهل العلم يقول: إن أصل البهيمة تطلق على ذوات الأربع، وقيل لها ذلك لإبهامها، فهي لا تنطق، ولا تبين عن نفسها، فقيل لها: بهيمة لا تعقل، ولا تنطق.
وبالنسبة للأنعام فالأقرب - والله تعالى أعلم، والذي عليه عامة أهل العلم - أن ذلك يطلق على الأربع التي ذكرها الله في سورة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم بنوعيها - الضأن، والماعز -، فهذه هي بهيمة الأنعام، ولهذا يقال مثلاً: إن الهدي، أو الأضاحي تكون من بهيمة الأنعام يعني من هذه الأصناف الأربعة، مع أن التحليل لا يتوقف عليها، فالذي أحله الله أوسع من هذا، فالخيل مثلاً يجوز أكله، وكذلك أيضاً الصيود بأنواعها الكبار، والصغار إلا ما استثني نحو كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وما عدا ذلك فيجوز أكله، ومن ذلك أيضاً ما يوجد في البحر إلا ما ثبت ضرره، والله قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُم، وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157] فكل ما لم يثبت فيه الضرر فإنه مباح.
وقضية المستخبثات يختلف العلماء في ضابطها، فمنهم من قال: ما استخبثه العرب الأولون فهو خبيث، ويدخل في هذا أنواع الحشرات إلا أن هذا لا ينضبط؛ لأن العرب كانوا يأكلون أشياء كثيرة جداً، ويتفاوتون في هذا، فربما لا يكون لهم عرف مطرد في مثل هذه القضايا، ويدل على ذلك قول الأعرابي الذي سئل ماذا تأكلون في الصحراء؟ قال: نأكل كل شيء إلا أم حبين، وهي دويبة معروفة تشبه الوزغ، ثم قال: لتهنأ أم حبين العافية، فقد سلمت منكم.
فالعرب يأكلون كل شيء، ومعروف في أخبارهم في السيرة أنهم يأكلون الجعلان، ونحو ذلك؛ لشدة فقرهم، وتصحر بلادهم، كما أنهم كانوا يأكلون الحمار، ولم يحرم عليهم إلا في يوم خيبر، وعلى كل حال مثل هذه القضايا يختلف فيها أهل العلم من جهة ما هو المستخبث، أي أنهم يختلفون هل يوقف ذلك عند ما حرمه الشرع، وما عداه فهو جائز إلا ما ثبت ضرره، أم لا؟ - فالله أعلم -.
قوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [سورة المائدة:1] ربما يكون أطلق على الغنم، والبقر، والإبل اسم الأنعام للينها في مشيها فهي ليست مثل الوحوش في عدوها، وتوثبها، وما أشبه ذلك، وإنما هي لينة المشي إذا مشت تمشي الهوينى، وربما يكون أطلق عليها ذلك لسبب آخر من جهة الإفضال - والله أعلم -.
"قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب."

قوله: قال ابن جرير: وكذلك هو عند العرب" يعني أن الأنعام تطلق على هذه الأشياء الأربع - الإبل، والبقر، والغنم بنوعيها -، وكذلك هو عند العرب، مع أن من أهل العلم من قال: إن المراد بقوله تعالى هنا: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [سورة المائدة:1] يعني البهائم الوحشية مثل الضباء، وما شابه ذلك، وربما يكون الذي حدا بهؤلاء إلى القول: إنها بقر الوحش، أو الحمر الوحشية، أو الضباء، والوعول، وما أشبه هذا من الصيود؛ أنه قال هنا في الآية: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1]، فإذا قيل: إن المراد بها البهائم الوحشية يكون الاستثناء هنا لا إشكال فيه، حيث يصير المعنى: أحلت لكم هذه الصيود إلا في حال الإحرام.
ومن أهل العلم من يقول: هي ذوات الأربع من البهائم التي ترعى، وليست المفترسة فيدخل فيها الأصناف الأربعة، ويدخل فيها أيضاً الوحشي من هذه الصيود التي ذكرت، فيكون ذلك شاملاً للجميع، ويكون الاستثناء بعده غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ لا إشكال فيه؛ لأن المعنى يصير: أحل الله لهم هذه البهائم التي تأكل الأعشاب، والحشائش، ويستثنى من ذلك حال الإحرام، فلا يصاد فيه شيء من هذا - يعني من الوحشي -، والوحشية تشمل الوحشي الذي يبقى على وحشيته، وتشمل ما يستأنس به مما كان أصله وحشياً كالأرنب، والحمامة، فهذه أصلها وحشي فإذا بقي عند الناس، و صار إنسياً فإنه لا يجوز صيده في حال الإحرام؛ لأن العبرة بالأصل.
"وقد استدل ابن عمر، وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا، وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت."

كيف استدلوا بهذه الآية على إباحة الجنين؟
استدلوا بهذه الآية على إباحة الجنين من قوله: بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ على أن الأنعام هي الأصناف الأربع، وإن شئت أن تقول الثلاث التي هي الإبل، والبقر، والغنم، وبهيمة الأنعام أولاد الأنعام، أو صغار الأنعام، وبهذا استدلوا على أن الجنين إذا مات في بطن أمه عند ذبحها جاز أكله - والعلم عند الله -.
"وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة، أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه[4]، وقال الترمذي: حديث حسن.
روى أبو داود عن جابر بن عبد الله - ا - عن رسول الله ﷺ قال: ذكاة الجنين ذكاة أمه تفرد به أبو داود[5]."

الحديث معروف، وثابت عن النبي ﷺ، وبه يُستدل على جواز أكل الجنين الذي أخرجناه من بطن أمه ميتاً بعد أن ذكيت، فليس الاستدلال على ذلك بالآية، وإنما بهذا الحديث - والله أعلم -.
"وقوله: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - ا -: يعني بذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وقال قتادة: يعني بذلك الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه.
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [سورة المائدة:3] فإن هذه، وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] يعني منها؛ فإنه حرام لا يمكن استدراكه، وتلاحقُه؛ ولهذا قال تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال."

فقوله: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هذا مما أبهم، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ومن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فقوله تعالى: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يفسر بما يتلى علينا في المحرمات التي ذكرها الله - تبارك، وتعالى - في مثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3]، وكقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].
وقوله - تبارك، وتعالى -: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يحتمل معنيين، الأول: أن يكون الاستثناء راجعاً إلى المذكورات قبله، هكذا: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1] ثم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] ثم قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ إلى آخره، ثم قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] أي من الأنعام المذكورة في الآية قبل، والاحتمال الثاني أن يكون الاستثناء منقطعاً - وسيأتي الكلام على هذا بعد -.
"وقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1] قال بعضهم: المراد بالأنعام ما يعم الإنسي من الإبل، والبقر، والغنم، وما يعم الوحشي كالظباء، والبقر، والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام."

التركيب في قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ لا يخلو من إشكال إلا إذا فسر بأحد التفسيرين اللذين ذكرناهما، وهو إما أن يقال: إن الأنعام هي الإنسية، والوحشية، فيكون غير محلي الصيد يعني إلا أن تصيدوا ما يصاد منها في حال الإحرام، وهذا لا إشكال فيه.
والمعنى الثاني أن يكون المراد بالأنعام هو الوحشي، فيكون ذلك مباحاً إلا في حال الإحرام فلا تصيدوا شيئاً منه، وعلى هذا أيضاً لا إشكال، لكن إذا خصت الأنعام ببهيمة الأنعام في أصنافها الأربعة المعروفة، فماذا يفسر به قوله هنا: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ، وهذه الأنعام أصلاً ليست من الصيد؟
بعض أهل العلم - وهو مذهب البصريين - يرجعون الاستثناء إلى الأنعام، ويكون السياق عندهم هكذا: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم - أي الميتة، والدم... الخ - إلا الصيد، وأنتم محرمون، ويكون هذا التفسير ليس تفسيراً حرفياً، وإنما هو تفسير بالمعنى، وعلى هذا لا يكون الصيد من بهيمة الأنعام، وإنما ذكره من باب بيان ما يحل، وما لا يحل، فقال: الأنعام حلال إلا الميتة، والمنخنقة، والموقوذة إلى آخره.
ومن نفس الباب ذكر تحريم الخنزير، وإلا فالخنزير ليس من الأنعام، لذلك إذا أردت أن تفسر تفسيراًِ بالحرف فإنك ستقع في إشكالات، ولذلك لما حصل التكلف عند المتأخرين، وقعوا في أسئلة، وإشكالات يصعب الجواب عنها، أما السلف فقد كانوا يفسرون بطريقة أخرى، فالمقصود أن الخنزير ذكره الله في جملة المحرمات، وإن لم يكن من بهيمة الأنعام؛ فذاك مقام فصَّل الله فيه ما يحرم فذكر الصيود في حال الإحرام فهي، وإن لم تكن من بهيمة الأنعام إلا أن الله ذكر ذلك في مقام ما يحرم، وما يحل من هذه الحيوانات.
وبعضهم يقول: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] بدل من الأنعام، وهذا يقوله بعض أئمة اللغة أمثال الفراء، والأخفش.
وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، يعني يكون هكذا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود في حال كونكم غير مستحلين للصيد في حال الإحرام.
وبعضهم يقول: هو حال من الكاف، والميم في "لكم"، والتقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد، يعني في حال كونكم غير مستحلين للصيد، وأنتم حرم.
وبعض أهل العلم ينزع في هذا إلى أن هذا الإحلال لكم في بهيمة الأنعام مشروط بكونكم غير متعدين حدود الله، وهذا فيه إشكال؛ لأنه حتى الذي تعدى على الصيد في حال الإحرام لا يقال: إنه يحرم عليه بهيمة الأنعام.
وعبارة ابن جرير - رحمه الله - في هذا: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم، وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففي ما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها متَّسع لكم، ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم"، وهذا يشبه قول الأخفش، والفراء، أي أن قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [سورة المائدة:1] حال من قوله: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1].
على كل حال إذا أردنا أن نفسر الآية على المعنى نقول: إن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، وعرفنا أن هذه العقود يدخل فيها حدود الله، وأحكامه، وما يتعاقده الناس فيما بينهم، ومن حدود الله الحلال، والحرام في المطعومات من هذه الصيود، وغيرها.
ثم يبين الله - تبارك، وتعالى - لهم ممتناً عليهم ما جعل لهم من التوسعة في بهيمة الأنعام التي سخرها، وأباحها لهم لينتفعوا بها في وجوه الانتفاع المختلفة المتنوعة فيقول: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1]، وهذا يدخل فيه المذكورات في الآيات الأخرى مما يحرم.
إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة:1] أي أن الله، وسع عليكم، وأفاض عليكم من ألوان النعم ما تستغنون به عن الصيد، فلم يضيق عليكم بهذا الحكم في حال الإحرام - والله تعالى أعلم -.
والقرآن من أراد أن يفهمه فينبغي أن يكثر، ويدمن من النظر، والتأمل في النصوص الواردة عن السلف عند تفسيرهم للقرآن، فما كانوا يفسرونه بطريقة المتأخرين الذين يريدون أن يقفوا عند كل حرف، وكل لفظة فيركبوا المعنى على هذه الحروف، والألفاظ - والله تعالى أعلم -.
"وقيل: المراد أحللنا لكم الأنعام في جميع الأحوال إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد، وهو حرام؛ لقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:115]."

هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن إباحة الأنعام ليست مشروطة بالتزام حرمة الصيد.
"أي: أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغٍ، ولا متعدٍّ، وهكذا هنا أي: كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال، فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به، وينهى عنه؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [سورة المائدة:1]."
  1. أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو وابن عباس في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ -  تفسير سورة المائدة (3063) (ج 5 / ص 261) وقال الألباني: ضعيف الإسناد.
  2. أخرجه الحاكم (3210) (ج 2 / ص 340) وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم, وصحح إسناده الألباني في الإرواء (ج 1 / ص 139).
  3. أخرجه أحمد (25588) (ج 6 / ص 188) والنسائي في السنن الكبرى (11138) (ج 6 / ص 333).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا- باب ما جاء في ذكاة الجنين (2829) (ج 3 / ص 62) وابن ماجه في كتاب الذبائح -  باب ذكاة الجنين ذكاة أمه (3199) (ج 2 / ص 1067) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2827).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا- باب ما جاء في ذكاة الجنين (2830) (ج 3 / ص 63) والترمذي عن أبي سعيد في كتاب الأطعمة – باب ما جاء في ذكاة الجنين (1476) (ج 4 / ص 72) وصححه الألباني في المشكاة برقم (4091).

مرات الإستماع: 0

"أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] قيل: إن العقود هنا: عقدة الإنسان مع غيره [وفي النسخة الخطية: ما عَقَدَ الإنسان مع غيره] من بيعٍ، ونكاحٍ، وعتقٍ، وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج، والصيام، وشبه ذلك، وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل، والتحريم في دينه، ذُكِرَ مجملاً، ثم فُصِّلَ بعد ذلك في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ وما بعده بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ".

سورة المائدة هي من السور النازلة في المدينة إجماعًا، وهي معروفة بهذا الاسم، كما جاء عن جبير بن نفير، قال: "حججت فدخلت على عائشة - ا - فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلتُ: نعم، قالت: أما إنها آخر سورةٍ نزلت"[1] فسمتها المائدة، والأصل أن أسماء السور توقيفية.

وهذه السورة هي أجمع سور القرآن في الأحكام، كما هو معلوم، وقد ذكر أبو حيان: أنها تضمنت ثماني عشرة فريضة، لم تُبين في غيرها[2] ومن ذلك: أحكام العقود، والصيد، والذبائح، والإحرام، ونكاح الكتابيات، والردة، وأحكام الطهارة، وحد السرقة، وحد البغي (الحرابة) وتحريم الخمر، والميسر، وكفارة اليمين، والنهي عن قتل الصيد في الإحرام، والوصية عند الموت، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته من قضايا الاعتقاد، وكذلك أيضًا الموالاة، والمعاداة، كما تضمن بعضت أخبار بني إسرائيل، إلى غير ذلك مما جاء في ثنايا هذه السورة، فهي كما جاء عن عائشة - ا - آخر سورة نزلت، والمراد: ما يتعلق بالأحكام؛ ولذلك كانوا إذا أرادوا أن يبينوا أن الحكم لم يُنسخ، قالوا: هذا مما نزل في المائدة؛ وذلك أنها هي من أواخر ما نزل، وكانت سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، مع أنه قد يوجد نسخٌ يسير في المائدة، كما سيأتي - إن شاء الله - لكن في الجملة هي آخر ما نزل في الأحكام، وأما آخر سورة كاملة نزلت فهي: سورة النصر، وسورة المائدة كانت تنزل شيئًا فشيئًا، فالآخرية نسبية، وليست مطلقة - والله تعالى أعلم -.

وقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] الوفاء معروف، وهو الأداء مع التتميم، والتكميل، وقد مضى في الكلام على الغريب، يعني إتمام العهد على الوجه الأكمل، وكذلك فيما يتعلق بمقتضياته، وشروطه، ونحو ذلك.

وأما العقود فقد نقل أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - الإجماع على أنها العهود[3] وكلام المفسرين من السلف، فمن بعدهم في تفسير العقود مختلف، ولكن الراجح أنها تشمل العقود مع الله، والعقود مع الخلق، والعقد مضى في الكلام على مقدمة الغريب بأنه يدل على شدةِ وثوق، وأصل العقد - كما هو معلوم - الربط، والعقود يمكن أن يقال عنها بهذا الاعتبار من جهة اللغة: الربوط، ويكون ذلك في الأمور الحسية كما تقول: عقدت الحبل، ويكون في الأمور المعنوية، فتقول: عقدت عهدًا مع الله، ونحو ذلك، فهو يدل على شدة الإحكام، تقول: عقدتُ فلانًا، فهذا أبلغ من قولك: اتفقتُ مع فلانٍ، أو نحو ذلك من العبارات؛ لأنه عقد يدل على شد، وربط.

والعبارات التي ذكرناها مما يتعلق بعقد الإنسان مع غيره "من بيعٍ، ونكاحٍ، وعتقٍ، وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج" ويشمل هذا جميعًا: الأيمان، والنذور، فهي عهود مع الله - تبارك، وتعالى - فالإيمان عقد، والتوبة عقد، والنذر عقد إلى غير ذلك، وهكذا.

يقول: "وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل، والتحريم في دينه" فكل هذه المواثيق، والعهود داخلةٌ في ذلك - والله أعلم -.

وقد جاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة: يعني ما أحل الله، وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله فلا تغدروا، ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [الرعد: 25]"[4] فهذه العبارة عن ابن عباس - ا - هي من العبارات الجامعة في تفسير هذا.

"بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هي الإبل، والبقر، والغنم، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه".

بهيمة هذا عام، وإذا أضيفت إلى الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، فهذا إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه، وإلا فالبهيمة يدخل فيها جميع أنواع البهائم، من الأنعام، وغيرها، فأضاف ذلك إلى الأنعام، وإلا فالبهيمة هي: كل ما استبهم عن الجواب، وما لا نطق له من الطير، وأنواع الدواب، وأما الأنعام فيقولون بأن أصلها: الإبل، ثم توسعوا بالاستعمال فأدخلوا فيها البقر، والغنم، والقرآن نزل بلغة العرب، ومعهودهم، فإذا ذُكِرَت بهيمة الأنعام دخل فيها الأصناف الثلاثة، فهي تُطلق بهذا الاعتبار، وأما تخصيص الإبل في الأصل، كما قال بعضهم، فهذا باعتبار أن الإبل هي أنفس هذه الأصناف، وهي أموال العرب، وبها جاء تقدير الديات، والنصوص التي ورد فيها (حمر النعم) لا تخفى، والمقصود بها: الإبل.

وأما البهيمة فقد خصّها بعضهم بذوات الأربع، وإلا فالواقع أنها تشمل ذوات الأربع، وكل ما لا نطق له، وما استبهم عن الجواب.

"لأن البهيمة تقع على الأنعام، وغيرها".

وبعضهم يقول: إنها سميت الأنعام لما في مشيتها من اللين، والنعومة، لكن هذا قاله بعضهم، وإلا فظهور النعمة فيها لا يخفى.

"قال الزمخشري: هي الإضافة التي بمعنى: مِنْ، كخاتمٍ من حديد[5] أي: البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش، والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل، والبقر، والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوانٍ ما عدا الإنسان.

إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يريد الميتة، وأخواتها".

إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ... [المائدة: 3] الآية، فهذا الذي يُتلى علينا، وهو تحريم الميتة، وما إلى ذلك.

"غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في (لكم)".

 

غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يعني الاصطياد، والصيد: تناول ما يظفر به، أو ما كان ممتنعًا، فلا يقال لبهيمة الأنعام على هذا صيد، وإنما ما كان ممتنعًا، ولم يكن له مالك، وكان حلالاً، فهذه الأوصاف: الامتناع، والحلِّية، وليس له مالك، فهذا هو الصيد، كالظباء، ونحوها، ولا يقال لغيره صيد.

قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ هذا من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، فاسم الفاعل: مُحِلِّي والصَّيْدِ هو المفعول، والصَّيْدِ مصدر بمعنى: المصيد، فالمصدر يأتي - كما هو معلوم - بالمعنى المصدري، ويأتي أيضًا بمعنى: المفعول، وقد ذكرنا هذا في مناسبات سابقة، مثل ما تقول: الكتابة تأتي بالمعنى المصدري، الذي هو الفعل، وتأتي بمعنى المفعول، يعني المكتوب، تقول: هذه كتابة زيد، كذلك الأكل يأتي بالمعنى المصدري، وهو نفس الفعل، ويأتي بمعنى المفعول، فتشير إلى الطعام الذي يؤكل، وتقول: هذا أكل، وكذلك الصيد، فإن ملاحقة الصيود يقال لهذه العملية: صيد، فلان ذهب للصيد، ويقال للمصيد: هذا صيد، بمعنى المفعول.

يقول: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ منصوب على الحال من الضمير في لَكُمْ وهذا على قول الجمهور أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني أُحِلَّتْ لَكُمْ حال كونكم كذا، وكذا، يعني أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام، فإنه لا يحل لكم ذلك، أعني في حال إحرامكم.

"وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من مُحِلِّي الصَّيْدِ وحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بـ(إلّا) من البهائم المحللة، والاستثناء بــغَيْرَ من القوم المخاطبين".

وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من مُحِلِّي الصَّيْدِ يعني من الضمير في قوله: مُحِلِّي كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد، وأنتم محرمون؛ يعني لئلا نضيق عليكم، فالله شرّع ذلك توسعةً على الناس.

يقول: "والحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بـ(إلّا) من البهائم المحللة، والاستثناء بــغَيْرَ من القوم المخاطبين" وهذه آية واحدة، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أن الفيلسوف الكندي المشهور قال له بعض تلامذته: نريد أن تصنع لنا قرآنًا، أو كلامًا نظير القرآن، واحتبس في بيته أيامًا، ثم خرج إليهم، فقال: فتحت المصحف فظهرت سورة المائدة، فرأيته قال في سطرين: خاطب فأحل، ثم استثنى، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر، وحكم، يقول: وهذا لا يقدر عليه أحد، فعجز، والفلاسفة عند أنفسهم، وعند مريديهم أنهم في منزلة ليس فوقها أحد، فهذا كلام الله - تبارك، وتعالى -[6].

وقد ذكر القرطبي - رحمه الله - أن هذه الآية، التي هي أول آية في هذه السورة، تضمنت خمسة أحكام:

الأمر بالوفاء بالعقود.

وتحليل بهيمة الأنعام.

واستثناء ما يلي بعد ذلك.

واستثناء حال الإحرام بما يُصاد.

وإباحة الصيد لغير المحرم[7].

  1.  السنن الكبرى للبيهقي (7/278 - 13978)، وشرح مشكل الآثار (6/304)، ومسند الشاميين للطبراني (3/144 - 1963).
  2.  البحر المحيط في التفسير (4/157).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/447).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/452 - 10907).
  5. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/601).
  6.  البحر المحيط في التفسير (4/157)، وفتح القدير للشوكاني (2/6).
  7.  تفسير القرطبي (6/31).