قول مجاهد: "الصفا، والمروة، والهدي، والبدن من شعائر الله" معناه لا تحلوا هذه الشعائر فيقع منكم شيء من الإخلال بها، والتعدي عليها بلون من ألوان التعدي كأن تحولوا بين من أراد إيصالها إلى البيت، أو تقوموا بأخذها، أو بغير ذلك مما يحصل به إجرام، وانتهاك لحرمتها، وعلى هذا تكون هذه الشعائر مما يتعلق بالحج، والمناسك، والبيت، والمشاعر، وما يقدم من القرابين، والهدايا، ونحو ذلك، وهذا هو الغالب عند الإطلاق، والشعائر تطلق أيضاً، ويراد بها معالم الدين، ومن أهل العلم من يقسّم الدين إلى شعائر، وأمانات، فالشعائر مثل الأذان، والتكبير في الأعياد، ومثل التلبية، وسائر العبادات الظاهرة، والأمانات هي التي لا يطلع عليها إلا الله كالوضوء، والطهارة، والصيام، والنيات، ونحو ذلك، فهذه بين الإنسان، وبين ربه لا يطلع عليها الناس، لكن قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] هل تختص بهذه الأمور المتعلقة بالبيت من الصفا، والمروة، والهدي، ونحو هذا بمعنى لا تنتهكوا حرمتها بل عظموها حق التعظيم، أم أن ذلك يشمل جميع الشعائر، ومعالم الدين التي شرعها الله لعباده حيث إن تعظيمها مطلوب، والله يقول: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32] فيدخل في ذلك شعائره في الحج، ويدخل فيه سائر الشعائر كالأذان، واللحية، وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة فتعظم، ومن هذا: القلائد التي توضع على الهدي، وذلك يقتضي تعظيم الهدي، وهكذا.
وقيل: شعائر الله محارمه أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها الله تعالى، وهذا بالاقتضاء يعني لا تضيعوا أوامره بترك الحج، وبترك العمرة، وبترك الهدي، وبتضييع حقوق الله - تبارك، وتعالى -، فكل هذا مما يدخل في هذا اللفظ - والله تعالى أعلم - .
بالنسبة لشعائر الله، ابن جرير - رحمه الله - يحملها على الجميع - على العموم - أي أنها لا تختص بالصفا، والمروة، والهدي، وما يتعلق بالحج، والمناسك.
وقوله تعالى: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] أي بالقتال فيه على سبيل التعدي مع الإقرار بحرمته، أو بالتلاعب بالأشهر الحرم كما قال الله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37] فهذا من التعدي على حدود الله ، وانتهاك الأشهر الحرم، حيث كانوا ينقلون مثلاً حرمة المحرم إلى صفر؛ من أجل أن يقاتلوا، ويغيروا في المحرم، أو يجعلون حرمة رجب إلى شعبان، ويغيرون اسمه، وهكذا يتلاعبون بالأشهر، فمثل هذا كله يعتبر من التعدي على الشهر الحرام، وانتهاك محارم الله .
بالنسبة للأشهر الحرم العلماء مختلفون كثيراً هل حرمتها باقية بمعنى تحريم القتال في الأشهر الحرم، وهي الأشهر الأربعة، ثلاثة متوالية، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب، فهل هذه الأشهر لا يجوز القتال فيها، وذلك من قبيل المحكم الذي لم ينسخ؟
ابن جرير - رحمه الله - ينقل الإجماع - ويقصد بالإجماع كما هو معروف، وذكرناه مراراً قول الأكثر - على أن في الآية نسخاً، والعلماء يختلفون في تحديد المنسوخ في هذه الآية، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن المنسوخ فيها من قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] كل هذا يرى ابن جرير أنه من المنسوخ، وأن الذي نسخه قوله تعالى في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [سورة التوبة:5].
والعلماء مختلفون في الأشهر الحرم في هذه الآية، فبعضهم يقول: هي أشهر الإمهال الأربعة، التي قال الله فيها: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2]، فإذا انسلخت هذه الأشهر الأربعة، وقد نبذتم إلى المشركين عهودهم؛ فاقتلوا المشركين حيث، وجدتموهم.
ومنهم من يقول: هذه الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة التي حرمها الله يوم خلق السماوات، والأرض التي ذكرناها آنفاً، وأن حرمتها باقية لم تنسخ.
وبعض أهل العلم أيضاً يستدل على النسخ بقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ويقول: إن ذلك يقتضي قتال الجميع، ويقتضي أيضاً قتالاً في كل وقت، وهذا فيه نظر، فالآية تقول: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ولا تعلق لهذا بالزمان، والزمان قد بينه الله في آيات أخرى، ويستدلون أيضاً بأن النبي ﷺ في غزوة حنين سار إلى المشركين، وكان قد وقع قتال في الطائف في شهر ذي القعدة، وهذا لا يصلح أن يكون دليلاً - والله تعالى أعلم - على النسخ؛ فالنبي ﷺ حينما فتح مكة اجتمعت هوازن، ومن جاء معهم، وجاءوا إلى وادي حنين - بين مكة، والطائف - فالنبي ﷺ سار إليهم باعتبار أنهم اجتمعوا له، وتوجهوا صوب مكة إلى وادي حنين، فيكون هذا القتال من غير ابتداءٍ من النبي ﷺ، ولذلك فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن حرمة هذه الأشهر في القتال باقية، ولا يجوز لأحد أن يقاتل فيها ابتداءً، لكن على سبيل رد الاعتداء فإن ذلك مشروع كما قال الله : وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] فكذلك الأمر أيضاً في الأشهر الحرم، وسيرة النبي ﷺ، وهديه يدل على ذلك، وهذا أقرب القولين في المسألة، والخلاف فيها قوي جداً، والقولان متقاربان، والكلام في هذا يطول، وإنما المقصود الإشارة فقط.
وعلى كل حال تبقى مسألة في هذه الآية: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2] مع قوله تعالى في سورة براءة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28] فقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني القاصدين، وبالتالي فإما أن يقال: إن المراد بقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني من المسلمين، وهذا قد يكون فيه شيء من البعد، والتكلف.
وعلى أنها في المشركين فهذا الذي حمل بعض العلماء - رحمهم الله - على القول بأن في الآية نسخاً، وقالوا هذا معناه أن المشركين يمنعون من المجيء إلى البيت، وعلى كلام ابن جرير يكون المحكم في الآية فقط قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2]، وما بعده منسوخ، لكن يمكن أن يقال - والعلم عند الله -: إن هذه الآية ليست آخر ما نزل مما يتصل بهذا الموضوع.
وبعض أهل العلم يقول: هذا نزل في عام الفتح، وفي عام الفتح لم يكن يحرم على المشركين أن يأتوا إلى البيت الحرام، أي أنهم لم يمنعوا، وجاء في أسباب النزول - وبعض ذلك قد صح - أنها نزلت بسبب أنهم استأذنوا النبي ﷺ بأن يغيروا على بعض المشركين، وفي بعض الروايات على سبيل الاقتصاص مما وقع من بعضهم من الاعتداء على المسلمين، وفي بعضها أنهم طلبوا ذلك ابتداءً، وبعض الروايات ضعيفة، وبعض الروايات صحيحة، وسيأتي بعضها إن شاء الله، فتكون هذه الآية بهذه المثابة، وإلا فمتى كان أولئك المشركون يسوقون الهدايا، ويأتون إلى البيت الحرام؟ كان ذلك قبل أن تنزل آية براءة، يعني هم إلى السنة التاسعة حجوا مع المسلمين في حجة أبي بكر ، ثم بعد ذلك بعث بها النبي ﷺ مع علي، لما نزلت صدر سورة براءة، ومنعوا بعد ذلك، فحج المسلمون على سبيل الانفراد بالبيت، ولم يشاركهم أحد من المشركين، فعلى هذا يمكن أن يكون هذا القدر من الآية أعني قوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] يمكن أن يكون منسوخاً بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28]، يمكن أن يكون بهذا الاعتبار.
ويمكن أن يقول قائل: إن هذا ليس نسخاً للحكم من أصله بل يمكن أن يقال: هو مبين، أو مخصص في هذا، حيث مُنع المشركون من المجيء إلى البيت، ولكن بقيت هذه الآية محكمة، ولا يجوز التعدي على أحد ممن يقصد البيت الحرام، أو صدهم عنه - والله تعالى أعلم - .
وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى، وشعبان[2].
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل، والنهار.
هذا على أحد الأقوال في تفسير استدارة الزمان، وهو أن المراد به أن ذا الحجة وقع في وقت الاعتدال.
ثلاث متواليات، وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفراً، ويجعلون صفراً المحرم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال: متواليات.
وكانوا في الجاهلية على أنحاء، منهم من يسمي المحرم صفراً فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر، ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا، وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفراً إلى ربيع الأول، وربيعاً إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل.
قوله: ورجب مضر أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب، وشعبان ما ذكر في المحرم، وصفر فيحلون رجباً، ويحرمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى، وشعبان تأكيداً.
وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي: أخروها، فيحلون شهراً حراماً، ويحرمون مكانه آخر بدله، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وبطل النسيء.
وقال الخطابي: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل، والتحريم، والتقديم، والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة، وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي ﷺ عند ذلك.
وقوله تعالى: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام؛ فإن فيه تعظيماً لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليُعلم أنها هدي إلى الكعبة، فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدْىٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ ولهذا لما حَج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة - وهو وادي العَقيق - فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعاً، ثم اغتسل، وتطيب، وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هديه، وقلده، وأهلَّ بالحج، والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين من أحسن الأشكال، والألوان، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32]."
فالحافظ ابن كثير هنا فسر قوله: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] بمعنى لا تتركوا ذلك، يعني سوق الهدي، وتقليده القلائد التي يعرف بها أنه مقدم إلى الكعبة، وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تحتمله الآية إلا أنه خلاف المتبادر، فهذه الجملة متصلة بما قبلها، فالله يقول: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] فقوله: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ليس المقصود به لا تتركوا الشهر الحرام، وإنما المقصود - والله تعالى أعلم - لا تحلوا هذه الأمور، بمعنى لا يقع منكم إخلال بشيء من شعائر الله ، ولا الشهر الحرام بالقتال فيه ابتداءً، ولا الهدي بأن تمنعوها من الوصول إلى بيت الله الحرام ممن ساقها، أو تتعدوا عليها بأي لون من ألوان الاعتداء مما يتنافى مع حرمتها.
وقوله: وَلاَ الْهَدْيَ الهدي أعم من القلائد؛ لأن الهدي قد يكون بالذي يساق إلى الكعبة من البهائم أعني الأصناف الثلاثة، أو الأربعة عند التفصيل، وقد يكون بغيرها مما يساق إلى الكعبة، ولست أعني ما يفعله المتمتع، أو القارن، فإن هذا يجب عليه أن ينحر من الإبل، أو يذبح من البقر، أو الغنم، وإنما أقصد الهدي عند الإطلاق مما يمكن أن يهديه الإنسان إلى الكعبة كهذه الأنعام، أو كسوة للكعبة، أو طعاماً للحجاج إلا أن ذلك لا يجزئ القارن، والمفرد، فلا أحد يفهم بحال من الأحوال أن القارن، والمفرد يمكن أن يقدم كعكة أو يقدم كسوة للكعبة أو نحو ذلك فيجزئه في قرانه أو تمتعه، فهذا لا يقول به أحد، لكن عموم الهدي يتمثل في من أراد أن يقدم للكعبة طيباً، أو يقدم لها شيئاً كالكسوة، أو نحو ذلك فهذا من جملة الهدي، فالمقصود أن الهدي عند الإطلاق أوسع مما ذكر بعده أعني القلائد.
وقوله: وَلاَ الْقَلآئِدَ القلائد هي ما تقلده هذه الهدايا من بهيمة الأنعام مما يعلق في رقابها إما من لحاء شجر الحرم إن كان ذلك في الحرم، وبما يقلدونه في رقابها من النعل، أو قطع الجلود، أو نحو ذلك مما يعرف به أنها مقدمة للبيت الحرام.
وقد تطلق القلائد على البهائم، والدواب المقلدة عموماً، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه، وقد كانوا يضعون ذلك من أجل أن تعرف، وربما أشعروها أيضاً كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهذا يكون في الإبل خاصة، وذلك بشق سنامها طولاً بمعنى أنه يجرح لكن لا يكون ذلك بليغاً يضر البهيمة، وإنما يكون على الجلد فقط فإذا سال الدم مسحوا به على الوبر، ومن أجل أن تعرف أنها من قبيل الهدي.
ثم روى عن ابن عباس - ا - قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد، وقوله: فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة المائدة:42]."
النسخ بالنسبة للقلائد هو باعتبار أن هؤلاء المشركين لا يجوز لهم أن يأتوا إلى البيت الحرام أصلاً، فإذا فسر بهذا الاعتبار فيقال: إن هذا قد نسخ، لكن ذلك يمكن أن يكون مخصوصاً، لكن يبقى أن هذه الأمور لها حرمتها، ولا يجوز لأحد أن يتعدى عليها بحال من الأحوال، أعني الهدي، والقلائد، ونحو ذلك.
قال مجاهد، وعطاء، وأبو العالية، ومطرِّف بن عبد الله، وعبد الله بن عُبَيد بن عُمير، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وغير واحد في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198].
قوله: وَرِضْوَانًا قال ابن عباس - ا -: يترضَّون الله بحجهم.
وقد ذكر عكرمة، والسدي، وابن جريج أن هذه الآية نزلت في الحُطم بن هند البكري، كان قد أغار على سَرْح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت، فأنزل الله : وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2]."
على كل حال هذه الرواية لا تصح، لكن يوجد من الروايات ما يشبه هذا مما قد يصح، ويكون سبباً لنزول هذه الآية، وأنها نزلت بسبب ما همّ به بعض المسلمين من الإغارة على بعض المشركين، أو بعض ما يقدمونه للبيت الحرام، فالله نهاهم عن هذا، وذلك بأن يمكنوا من المجيء إلى البيت، وعرفنا أنهم إنما منعوا من ذلك لما نزل صدر سورة براءة، وبعث بها النبي ﷺ مع علي فما حج في السنة العاشرة مع النبي ﷺ أحد من المشركين.
قوله: "والصحيح الذي يثبت على السبر" يعني يثبت عند الاختبار، وهذا هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، أي أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، لا يقال: إنه للوجوب، ولا يقال: للاستحباب، وإنما يرجع الحكم فيه إلى حاله الأول.
نعم بآيات كثيرة، فقوله تعالى: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9] هذا أمر، وقال لهم: وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] فهذا الانتشار، والابتغاء من فضل الله ما حكمه؟
ابن حزم يقول: واجب لكن هذا غير صحيح، وإنما الصحيح أن هذا يرجع إلى حكمه قبل الحظر، فما هو حكم البيع، والشراء قبل النهي عنه بعد نداء الجمعة الثاني؟ حكمه قبل النهي كان مباحاً، فلما قال: فَانتَشِرُوا فهذا للإباحة، مع أن من السلف كابن عباس ، ومعهم طائفة قالوا: إن قوله: وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] يعني بعيادة المريض، وطلب العلم، وصلة الرحم، ونحو ذلك مما يطلب به ما عند الله ، ولكن الأقرب، والأرجح - والله أعلم - حمل الآية على العموم، أي ابتغوا من فضل الله بالتجارة، والبيع، والشراء، وما إلى ذلك.
وفي قوله تعالى - أيضاً - في تحريم مباشرة النساء في ليالي الصوم قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] هذا أمر، فهل مباشرة المرأة ليلة الصوم واجبة؟ ليست واجبة، وإنما يعود الحكم فيه إلى حاله الأول، فالمباشرة مباحة، فكانوا قد نهوا عن هذا في أول الأمر، ثم قال الله : عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [سورة البقرة:187] فهذا الأمر يرجع إلى حكمه الأول قبل الحظر، وهو الإباحة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [سورة البقرة:222] فهل يجب، وطء الزوجة بعد الطهر من الحيض؟ الجواب: لا، لكن لما حرمه عليهم في حال الحيض، ثم أمرهم به بعد ذلك يرجع الحكم إلى حاله الأول، وهو أن الوطء مباح.
هذا معنى كلام ابن كثير: أن من قال بأنه للوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، وعلى مقتضى قول ابن حزم: أنه يجب وطء الزوجة بعد الانتهاء من الحيض، ويجب وطؤها ليلة الصوم، وهذا القول فيه إشكال كبير - والله تعالى أعلم - .
أي أن من قال: إنه للإباحة بإطلاق يرد عليه بآيات أخرى، وذلك أن الآيات التي مرت قبل قليل تدل على الإباحة، لكن ليست قاعدة أنه يرجع إلى الإباحة، لذلك يقال: يرجع الحكم إلى حالته الأولى، ففي مثل قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هذا الأمر بعد الحظر هل يقال: إنه للإباحة في هذه الآية بناءً على أن قتالهم أصلاً كان واجباً؟ الجواب هو أن أنه إذا انسلخت الأشهر الحرم فيرجع الحكم إلى حاله الأول، وهو الوجوب، فلا يقال إن الأمر في قوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هنا للإباحة - والله أعلم -.
هذا على قراءة الجمهور وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ولكن على قراءة أبي عمرو، وابن كثير: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) - بكسر همزة إن -، وهذه الآية استشكلها بعض أهل العلم - على هذه القراءة - فقال: إن هذا قد مضى أصلاً - أي الصد عام الحديبية -، وهذه الآية نازلة بعد الحديبية.
والواقع أنه لا إشكال في هذا، وإنما يحمل على أن الله يعلمهم الأدب الواجب مع قوم، وإن حصلت منهم إساءة، أو يُتوقع منهم الإساءة في المستقبل، أي إن صدوكم عن المسجد الحرام فلا يحملنكم ذلك على ترك العدل فيهم، والاعتداء عليهم، فالآية توجه بهذه الطريقة، ولا إشكال - والله أعلم -.
هذا أيضاً فيه ضعف، ولا يصح من جهة الإسناد، والله أعلم، وعلى كل حال كما هو، واضح: روى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، فهذا من قبيل المرسل.
وقوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ، وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ، وَالْعُدْوَانِ [سورة المائدة:2] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات، وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم، والمحارم."
يقول - رحمه الله -: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات، وهو التقوى" البر، والتقوى، والإثم، والعدوان يمكن أن يقال: إنها من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت مثل الإيمان، والإسلام، ومعنى إذا اجتمعت افترقت بمعنى إذا ذكر البر، والتقوى معاً، فالبر له معنى، والتقوى لها معنى، وإذا ذكر أحدهما بمفرده دخل في معناه الآخر.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر هنا أن البر هو فعل الطاعة، والتقوى ترك المنكرات أو أن البر هو فعل الطاعات، وترك المنكرات، والتقوى هي ترك المنكرات بأن تجعل بينك، وبينها، وقاية بترك ما حرم عليك.
وبعضهم يقول: البر هو فعل الواجبات، والمندوبات، والتقوى هي فعل الواجبات، وهذا لا يظهر كل الظهور - والله تعالى أعلم -، والذي ذكره الحافظ ابن كثير أقرب من هذا، وأحسن، وبعضهم يقول: البر هو رضا الناس، والتقوى هي رضا الله - تبارك، وتعالى -، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال.
ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يرى أن البر هو بلوغ الكمال المطلوب، أي تكميل النفس بتكميل العبودية لله - تبارك، وتعالى -، فيكون ذلك بفعل ما يكمل النفوس من طاعة الله ، وترك ما حرم، فيدخل في ذلك أجزاء الإيمان الظاهرة، والباطنة.
وأما التقوى فهي العمل بطاعة الله أمراً، ونهياً، إيماناً، واحتساباً، فالتقوى داخلة في معنى البر بالاعتبار السابق، والبر داخل في التقوى بهذا الاعتبار أيضاً، لكن عند الاجتماع يخص هذا بهذا، وهذا بهذا عند ابن القيم - رحمه الله - بمعنى أن البر يكون مقصوداً لذاته، أي تكميل النفس بطاعة مولاها، والتقوى تكون، وسيلة إلى ذلك، وذلك بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وإذا ذكر أحدهما دخل في معناه الآخر.
وبالنسبة للإثم، والعدوان فمن أحسن الفروقات التي تذكر فيهما هو ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - أن الإثم ما كان محرم الجنس مثل الخمر، ولحم الخنزير، والميسر، وما أشبه هذا، والعدوان ما كان محرماً من جهة القدر، والزيادة، وإلا فهما - كما سبق - من قبيل ما ذكرنا من أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
وعلى كل حال فالإثم يطلق على الذنب، ويطلق على أثر الذنب، وهو المؤاخذة، يقال: من فعل كذا يأثم، ويأثم من شرب الخمر، وتقول: الخمر إثم، والكذب إثم، ويمكن أن تقول: يستوجب الإثم، فيطلق على الذنب، ويطلق على جزائه، وتبعته.
على كل حال الذنب من حيث هو إثم، وإذا كان ذلك مما يتعدى فيمكن أن يقال: هو من قبيل العدوان، وإن كان هذا لا يخلو من إشكال أيضاً، لكن الضابط الذي ذكره ابن القيم أحسن - والله تعالى أعلم - فالعدوان لا يختص بما يتعلق بالعدوان على الناس، وإنما هو أيضاً تعدي القدر، والحد الذي حده الله - تبارك، وتعالى -، وهذا لا شك أنه إثم أيضاً فإنما صار التحريم فيه من جهة التعدي، ولهذا لما أبيحت الميتة مع أن تعاطيها من الإثم إذا كان الإنسان غير مضطر، فأبيحت للمضطر فإذا تجاوز الحد الذي أبيح له منها فإنه يكون بذلك متعدياً.
وروى أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، ورضي عنه - قال: المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم[4].
وفي الصحيح: من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً[5].
- أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
- أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
- أخرجه البخاري في كتاب الإكراه - باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6552) (ج 6 / ص 2550).
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 55 (2507) (ج 4 / ص 662) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الصبر على البلاء (4032) (ج 2 / ص 1338) وأحمد (5022) (ج 2 / ص 43) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6651 ).
- أخرجه مسلم في كتاب العلم - باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (2674) (ج 4 / ص 2060).