السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُوا۟ ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا۟ ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] قال ابن عباس - ا -: يعني بذلك مناسك الحج، وقال مجاهد: الصفا، والمروة، والهدي، والبُدن من شعائر الله، وقيل: شعائر الله محارمه أي: لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى؛ ولهذا قال تعالى: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه."

قول مجاهد: "الصفا، والمروة، والهدي، والبدن من شعائر الله" معناه لا تحلوا هذه الشعائر فيقع منكم شيء من الإخلال بها، والتعدي عليها بلون من ألوان التعدي كأن تحولوا بين من أراد إيصالها إلى البيت، أو تقوموا بأخذها، أو بغير ذلك مما يحصل به إجرام، وانتهاك لحرمتها، وعلى هذا تكون هذه الشعائر مما يتعلق بالحج، والمناسك، والبيت، والمشاعر، وما يقدم من القرابين، والهدايا، ونحو ذلك، وهذا هو الغالب عند الإطلاق، والشعائر تطلق أيضاً، ويراد بها معالم الدين، ومن أهل العلم من يقسّم الدين إلى شعائر، وأمانات، فالشعائر مثل الأذان، والتكبير في الأعياد، ومثل التلبية، وسائر العبادات الظاهرة، والأمانات هي التي لا يطلع عليها إلا الله كالوضوء، والطهارة، والصيام، والنيات، ونحو ذلك، فهذه بين الإنسان، وبين ربه لا يطلع عليها الناس، لكن قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] هل تختص بهذه الأمور المتعلقة بالبيت من الصفا، والمروة، والهدي، ونحو هذا بمعنى لا تنتهكوا حرمتها بل عظموها حق التعظيم، أم أن ذلك يشمل جميع الشعائر، ومعالم الدين التي شرعها الله لعباده حيث إن تعظيمها مطلوب، والله يقول: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32] فيدخل في ذلك شعائره في الحج، ويدخل فيه سائر الشعائر كالأذان، واللحية، وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة فتعظم، ومن هذا: القلائد التي توضع على الهدي، وذلك يقتضي تعظيم الهدي، وهكذا.
وقيل: شعائر الله محارمه أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها الله تعالى، وهذا بالاقتضاء يعني لا تضيعوا أوامره بترك الحج، وبترك العمرة، وبترك الهدي، وبتضييع حقوق الله - تبارك، وتعالى -، فكل هذا مما يدخل في هذا اللفظ - والله تعالى أعلم - .
"يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال، وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [سورة البقرة:217]، وقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا الآية [سورة التوبة:36]."

بالنسبة لشعائر الله، ابن جرير - رحمه الله - يحملها على الجميع - على العموم - أي أنها لا تختص بالصفا، والمروة، والهدي، وما يتعلق بالحج، والمناسك.
وقوله تعالى: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] أي بالقتال فيه على سبيل التعدي مع الإقرار بحرمته، أو بالتلاعب بالأشهر الحرم كما قال الله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [سورة التوبة:37] فهذا من التعدي على حدود الله ، وانتهاك الأشهر الحرم، حيث كانوا ينقلون مثلاً حرمة المحرم إلى صفر؛ من أجل أن يقاتلوا، ويغيروا في المحرم، أو يجعلون حرمة رجب إلى شعبان، ويغيرون اسمه، وهكذا يتلاعبون بالأشهر، فمثل هذا كله يعتبر من التعدي على الشهر الحرام، وانتهاك محارم الله .
"وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى، وشعبان[1]. وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت."

بالنسبة للأشهر الحرم العلماء مختلفون كثيراً هل حرمتها باقية بمعنى تحريم القتال في الأشهر الحرم، وهي الأشهر الأربعة، ثلاثة متوالية، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد، وهو رجب، فهل هذه الأشهر لا يجوز القتال فيها، وذلك من قبيل المحكم الذي لم ينسخ؟
ابن جرير - رحمه الله - ينقل الإجماع - ويقصد بالإجماع كما هو معروف، وذكرناه مراراً قول الأكثر - على أن في الآية نسخاً، والعلماء يختلفون في تحديد المنسوخ في هذه الآية، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن المنسوخ فيها من قوله: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] كل هذا يرى ابن جرير أنه من المنسوخ، وأن الذي نسخه قوله تعالى في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [سورة التوبة:5].
والعلماء مختلفون في الأشهر الحرم في هذه الآية، فبعضهم يقول: هي أشهر الإمهال الأربعة، التي قال الله فيها: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2]، فإذا انسلخت هذه الأشهر الأربعة، وقد نبذتم إلى المشركين عهودهم؛ فاقتلوا المشركين حيث، وجدتموهم.
ومنهم من يقول: هذه الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة التي حرمها الله يوم خلق السماوات، والأرض التي ذكرناها آنفاً، وأن حرمتها باقية لم تنسخ.
وبعض أهل العلم أيضاً يستدل على النسخ بقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ويقول: إن ذلك يقتضي قتال الجميع، ويقتضي أيضاً قتالاً في كل وقت، وهذا فيه نظر، فالآية تقول: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ولا تعلق لهذا بالزمان، والزمان قد بينه الله في آيات أخرى، ويستدلون أيضاً بأن النبي ﷺ في غزوة حنين سار إلى المشركين، وكان قد وقع قتال في الطائف في شهر ذي القعدة، وهذا لا يصلح أن يكون دليلاً - والله تعالى أعلم - على النسخ؛ فالنبي ﷺ حينما فتح مكة اجتمعت هوازن، ومن جاء معهم، وجاءوا إلى وادي حنين - بين مكة، والطائف - فالنبي ﷺ سار إليهم باعتبار أنهم اجتمعوا له، وتوجهوا صوب مكة إلى وادي حنين، فيكون هذا القتال من غير ابتداءٍ من النبي ﷺ، ولذلك فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن حرمة هذه الأشهر في القتال باقية، ولا يجوز لأحد أن يقاتل فيها ابتداءً، لكن على سبيل رد الاعتداء فإن ذلك مشروع كما قال الله : وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] فكذلك الأمر أيضاً في الأشهر الحرم، وسيرة النبي ﷺ، وهديه يدل على ذلك، وهذا أقرب القولين في المسألة، والخلاف فيها قوي جداً، والقولان متقاربان، والكلام في هذا يطول، وإنما المقصود الإشارة فقط.
وعلى كل حال تبقى مسألة في هذه الآية: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2] مع قوله تعالى في سورة براءة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28] فقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني القاصدين، وبالتالي فإما أن يقال: إن المراد بقوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني من المسلمين، وهذا قد يكون فيه شيء من البعد، والتكلف.
وعلى أنها في المشركين فهذا الذي حمل بعض العلماء - رحمهم الله - على القول بأن في الآية نسخاً، وقالوا هذا معناه أن المشركين يمنعون من المجيء إلى البيت، وعلى كلام ابن جرير يكون المحكم في الآية فقط قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2]، وما بعده منسوخ، لكن يمكن أن يقال - والعلم عند الله -: إن هذه الآية ليست آخر ما نزل مما يتصل بهذا الموضوع.
وبعض أهل العلم يقول: هذا نزل في عام الفتح، وفي عام الفتح لم يكن يحرم على المشركين أن يأتوا إلى البيت الحرام، أي أنهم لم يمنعوا، وجاء في أسباب النزول - وبعض ذلك قد صح - أنها نزلت بسبب أنهم استأذنوا النبي ﷺ بأن يغيروا على بعض المشركين، وفي بعض الروايات على سبيل الاقتصاص مما وقع من بعضهم من الاعتداء على المسلمين، وفي بعضها أنهم طلبوا ذلك ابتداءً، وبعض الروايات ضعيفة، وبعض الروايات صحيحة، وسيأتي بعضها إن شاء الله، فتكون هذه الآية بهذه المثابة، وإلا فمتى كان أولئك المشركون يسوقون الهدايا، ويأتون إلى البيت الحرام؟ كان ذلك قبل أن تنزل آية براءة، يعني هم إلى السنة التاسعة حجوا مع المسلمين في حجة أبي بكر ، ثم بعد ذلك بعث بها النبي ﷺ مع علي، لما نزلت صدر سورة براءة، ومنعوا بعد ذلك، فحج المسلمون على سبيل الانفراد بالبيت، ولم يشاركهم أحد من المشركين، فعلى هذا يمكن أن يكون هذا القدر من الآية أعني قوله: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2] يمكن أن يكون منسوخاً بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [سورة التوبة:28]، يمكن أن يكون بهذا الاعتبار.
ويمكن أن يقول قائل: إن هذا ليس نسخاً للحكم من أصله بل يمكن أن يقال: هو مبين، أو مخصص في هذا، حيث مُنع المشركون من المجيء إلى البيت، ولكن بقيت هذه الآية محكمة، ولا يجوز التعدي على أحد ممن يقصد البيت الحرام، أو صدهم عنه - والله تعالى أعلم - .
وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى، وشعبان[2].
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل، والنهار.
"قوله: "والمراد باستدارته، وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل، والنهار."

هذا على أحد الأقوال في تفسير استدارة الزمان، وهو أن المراد به أن ذا الحجة وقع في وقت الاعتدال.
"قوله: السنة اثنا عشر شهراً أي: السنة العربية الهلالية، وذكر الطبري في سبب ذلك عن أبي مالك: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، ومن وجه آخر كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهراً، وخمسة، وعشرين يوماً، فتدور الأيام، والشهور كذلك.
ثلاث متواليات، وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفراً، ويجعلون صفراً المحرم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال: متواليات.
وكانوا في الجاهلية على أنحاء، منهم من يسمي المحرم صفراً فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر، ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا، وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفراً إلى ربيع الأول، وربيعاً إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل.
قوله: ورجب مضر أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب، وشعبان ما ذكر في المحرم، وصفر فيحلون رجباً، ويحرمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى، وشعبان تأكيداً.
وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي: أخروها، فيحلون شهراً حراماً، ويحرمون مكانه آخر بدله، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وبطل النسيء.
وقال الخطابي: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل، والتحريم، والتقديم، والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره، فتتحول في ذلك شهور السنة، وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي  ﷺ عند ذلك.
وقوله تعالى: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام؛ فإن فيه تعظيماً لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليُعلم أنها هدي إلى الكعبة، فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدْىٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ ولهذا لما حَج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة - وهو وادي العَقيق - فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعاً، ثم اغتسل، وتطيب، وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هديه، وقلده، وأهلَّ بالحج، والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين من أحسن الأشكال، والألوان، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحـج:32]."

فالحافظ ابن كثير هنا فسر قوله: وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] بمعنى لا تتركوا ذلك، يعني سوق الهدي، وتقليده القلائد التي يعرف بها أنه مقدم إلى الكعبة، وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تحتمله الآية إلا أنه خلاف المتبادر، فهذه الجملة متصلة بما قبلها، فالله يقول: لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] فقوله: وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ليس المقصود به لا تتركوا الشهر الحرام، وإنما المقصود - والله تعالى أعلم - لا تحلوا هذه الأمور، بمعنى لا يقع منكم إخلال بشيء من شعائر الله ، ولا الشهر الحرام بالقتال فيه ابتداءً، ولا الهدي بأن تمنعوها من الوصول إلى بيت الله الحرام ممن ساقها، أو تتعدوا عليها بأي لون من ألوان الاعتداء مما يتنافى مع حرمتها.
وقوله: وَلاَ الْهَدْيَ الهدي أعم من القلائد؛ لأن الهدي قد يكون بالذي يساق إلى الكعبة من البهائم أعني الأصناف الثلاثة، أو الأربعة عند التفصيل، وقد يكون بغيرها مما يساق إلى الكعبة، ولست أعني ما يفعله المتمتع، أو القارن، فإن هذا يجب عليه أن ينحر من الإبل، أو يذبح من البقر، أو الغنم، وإنما أقصد الهدي عند الإطلاق مما يمكن أن يهديه الإنسان إلى الكعبة كهذه الأنعام، أو كسوة للكعبة، أو طعاماً للحجاج إلا أن ذلك لا يجزئ القارن، والمفرد، فلا  أحد يفهم بحال من الأحوال أن القارن، والمفرد يمكن أن يقدم كعكة أو يقدم كسوة للكعبة أو نحو ذلك فيجزئه في قرانه أو تمتعه، فهذا لا يقول به أحد، لكن عموم الهدي يتمثل في من أراد أن يقدم للكعبة طيباً، أو يقدم لها شيئاً كالكسوة، أو نحو ذلك فهذا من جملة الهدي، فالمقصود أن الهدي عند الإطلاق أوسع مما ذكر بعده أعني القلائد.
وقوله: وَلاَ الْقَلآئِدَ القلائد هي ما تقلده هذه الهدايا من بهيمة الأنعام مما يعلق في رقابها إما من لحاء شجر الحرم إن كان ذلك في الحرم، وبما يقلدونه في رقابها من النعل، أو قطع الجلود، أو نحو ذلك مما يعرف به أنها مقدمة للبيت الحرام.
وقد تطلق القلائد على البهائم، والدواب المقلدة عموماً، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه، وقد كانوا يضعون ذلك من أجل أن تعرف، وربما أشعروها أيضاً كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهذا يكون في الإبل خاصة، وذلك بشق سنامها طولاً بمعنى أنه يجرح لكن لا يكون ذلك بليغاً يضر البهيمة، وإنما يكون على الجلد فقط فإذا سال الدم مسحوا به على الوبر، ومن أجل أن تعرف أنها من قبيل الهدي.
|وقال مقاتل بن حيان: وقوله: وَلاَ الْقَلآئِدَ [سورة المائدة:2] فلا تستحلوها، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلَّدوا أنفسهم بالشّعْر، والوَبَر، وتقلد مشركوا الحرم من لَحاء شجر الحرم، فيأمنون به [رواه ابن أبي حاتم].
ثم روى عن ابن عباس - ا - قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد، وقوله: فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة المائدة:42]."

النسخ بالنسبة للقلائد هو باعتبار أن هؤلاء المشركين لا يجوز لهم أن يأتوا إلى البيت الحرام أصلاً، فإذا فسر بهذا الاعتبار فيقال: إن هذا قد نسخ، لكن ذلك يمكن أن يكون مخصوصاً، لكن يبقى أن هذه الأمور لها حرمتها، ولا يجوز لأحد أن يتعدى عليها بحال من الأحوال، أعني الهدي، والقلائد، ونحو ذلك.
"وقوله تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2] أي: ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً، وكذا من قصده طالباً فضل الله، وراغباً في رضوانه، فلا تصدوه، ولا تمنعوه، ولا تهيجوه.
قال مجاهد، وعطاء، وأبو العالية، ومطرِّف بن عبد الله، وعبد الله بن عُبَيد بن عُمير، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وغير واحد في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ [سورة المائدة:2] يعني بذلك التجارة، وهذا كما تقدم في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة:198].
قوله: وَرِضْوَانًا قال ابن عباس - ا -: يترضَّون الله بحجهم.
وقد ذكر عكرمة، والسدي، وابن جريج أن هذه الآية نزلت في الحُطم بن هند البكري، كان قد أغار على سَرْح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت، فأنزل الله : وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [سورة المائدة:2]."

على كل حال هذه الرواية لا تصح، لكن يوجد من الروايات ما يشبه هذا مما قد يصح، ويكون سبباً لنزول هذه الآية، وأنها نزلت بسبب ما همّ به بعض المسلمين من الإغارة على بعض المشركين، أو بعض ما يقدمونه للبيت الحرام، فالله نهاهم عن هذا، وذلك بأن يمكنوا من المجيء إلى البيت، وعرفنا أنهم إنما منعوا من ذلك لما نزل صدر سورة براءة، وبعث بها النبي ﷺ مع علي فما حج في السنة العاشرة مع النبي ﷺ أحد من المشركين.
"وقوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ [سورة المائدة:2] أي: إذا فرغتم من إحرامكم، وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد، وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السَّبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجباً ردَّه واجبًا، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح."

قوله: "والصحيح الذي يثبت على السبر" يعني يثبت عند الاختبار، وهذا هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، أي أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، لا يقال: إنه للوجوب، ولا يقال: للاستحباب، وإنما يرجع الحكم فيه إلى حاله الأول.
"ومن قال: إنه على الوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة."

نعم بآيات كثيرة، فقوله تعالى: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9] هذا أمر، وقال لهم: وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] فهذا الانتشار، والابتغاء من فضل الله ما حكمه؟
ابن حزم يقول: واجب لكن هذا غير صحيح، وإنما الصحيح أن هذا يرجع إلى حكمه قبل الحظر، فما هو حكم البيع، والشراء قبل النهي عنه بعد نداء الجمعة الثاني؟ حكمه قبل النهي كان مباحاً، فلما قال: فَانتَشِرُوا فهذا للإباحة، مع أن من السلف كابن عباس ، ومعهم طائفة قالوا: إن قوله: وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10] يعني بعيادة المريض، وطلب العلم، وصلة الرحم، ونحو ذلك مما يطلب به ما عند الله ، ولكن الأقرب، والأرجح - والله أعلم - حمل الآية على العموم، أي ابتغوا من فضل الله بالتجارة، والبيع، والشراء، وما إلى ذلك.
وفي قوله تعالى - أيضاً - في تحريم مباشرة النساء في ليالي الصوم قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] هذا أمر، فهل مباشرة المرأة ليلة الصوم واجبة؟ ليست واجبة، وإنما يعود الحكم فيه إلى حاله الأول، فالمباشرة مباحة، فكانوا قد نهوا عن هذا في أول الأمر، ثم قال الله : عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [سورة البقرة:187] فهذا الأمر يرجع إلى حكمه الأول قبل الحظر، وهو الإباحة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [سورة البقرة:222] فهل يجب، وطء الزوجة بعد الطهر من الحيض؟ الجواب: لا، لكن لما حرمه عليهم في حال الحيض، ثم أمرهم به بعد ذلك يرجع الحكم إلى حاله الأول، وهو أن الوطء مباح.
هذا معنى كلام ابن كثير: أن من قال بأنه للوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، وعلى مقتضى قول ابن حزم: أنه يجب وطء الزوجة بعد الانتهاء من الحيض، ويجب وطؤها ليلة الصوم، وهذا القول فيه إشكال كبير - والله تعالى أعلم - .
"ومن قال: إنه للإباحة، يرد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه - والله أعلم - ."

أي أن من قال: إنه للإباحة بإطلاق يرد عليه بآيات أخرى، وذلك أن الآيات التي مرت قبل قليل تدل على الإباحة، لكن ليست قاعدة أنه يرجع إلى الإباحة، لذلك يقال: يرجع الحكم إلى حالته الأولى، ففي مثل قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هذا الأمر بعد الحظر هل يقال: إنه للإباحة في هذه الآية بناءً على أن قتالهم أصلاً كان واجباً؟ الجواب هو أن أنه إذا انسلخت الأشهر الحرم فيرجع الحكم إلى حاله الأول، وهو الوجوب، فلا يقال إن الأمر في قوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5] هنا للإباحة - والله أعلم -.
"وقوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ [سورة المائدة:2]، ومعناها ظاهر، أي: لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً، وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال."

هذا على قراءة الجمهور وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ولكن على قراءة أبي عمرو، وابن كثير: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) - بكسر همزة إن -، وهذه الآية استشكلها بعض أهل العلم - على هذه القراءة - فقال: إن هذا قد مضى أصلاً - أي الصد عام الحديبية -، وهذه الآية نازلة بعد الحديبية.
والواقع أنه لا إشكال في هذا، وإنما يحمل على أن الله يعلمهم الأدب الواجب مع قوم، وإن حصلت منهم إساءة، أو يُتوقع منهم الإساءة في المستقبل، أي إن صدوكم عن المسجد الحرام فلا يحملنكم ذلك على ترك العدل فيهم، والاعتداء عليهم، فالآية توجه بهذه الطريقة، ولا إشكال - والله أعلم -.
"وروى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله ﷺ بالحديبية، وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمرَّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي ﷺ، ورضي عنهم -: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية."

هذا أيضاً فيه ضعف، ولا يصح من جهة الإسناد، والله أعلم، وعلى كل حال كما هو، واضح: روى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، فهذا من قبيل المرسل.
"والشنآن هو: البغض، قاله ابن عباس  - ا -، وغيره.
وقوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ، وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ، وَالْعُدْوَانِ [سورة المائدة:2] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات، وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم، والمحارم."

يقول - رحمه الله -: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات، وهو التقوى" البر، والتقوى، والإثم، والعدوان يمكن أن يقال: إنها من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت مثل الإيمان، والإسلام، ومعنى إذا اجتمعت افترقت بمعنى إذا ذكر البر، والتقوى معاً، فالبر له معنى، والتقوى لها معنى، وإذا ذكر أحدهما بمفرده دخل في معناه الآخر.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر هنا أن البر هو فعل الطاعة، والتقوى ترك المنكرات أو أن البر هو فعل الطاعات، وترك المنكرات، والتقوى هي ترك المنكرات بأن تجعل بينك، وبينها، وقاية بترك ما حرم عليك.
وبعضهم يقول: البر هو فعل الواجبات، والمندوبات، والتقوى هي فعل الواجبات، وهذا لا يظهر كل الظهور - والله تعالى أعلم -، والذي ذكره الحافظ ابن كثير أقرب من هذا، وأحسن، وبعضهم يقول: البر هو رضا الناس، والتقوى هي رضا الله - تبارك، وتعالى -، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال.
ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يرى أن البر هو بلوغ الكمال المطلوب، أي تكميل النفس بتكميل العبودية لله - تبارك، وتعالى -، فيكون ذلك بفعل ما يكمل النفوس من طاعة الله ، وترك ما حرم، فيدخل في ذلك أجزاء الإيمان الظاهرة، والباطنة.
وأما التقوى فهي العمل بطاعة الله أمراً، ونهياً، إيماناً، واحتساباً، فالتقوى داخلة في معنى البر بالاعتبار السابق، والبر داخل في التقوى بهذا الاعتبار أيضاً، لكن عند الاجتماع يخص هذا بهذا، وهذا بهذا عند ابن القيم - رحمه الله - بمعنى أن البر يكون مقصوداً لذاته، أي  تكميل النفس بطاعة مولاها، والتقوى تكون، وسيلة إلى ذلك، وذلك بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى، وإذا ذكر أحدهما دخل في معناه الآخر.
وبالنسبة للإثم، والعدوان فمن أحسن الفروقات التي تذكر فيهما هو ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - أن الإثم ما كان محرم الجنس مثل الخمر، ولحم الخنزير، والميسر، وما أشبه هذا، والعدوان ما كان محرماً من جهة القدر، والزيادة، وإلا فهما - كما سبق - من قبيل ما ذكرنا من أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
وعلى كل حال فالإثم يطلق على الذنب، ويطلق على أثر الذنب، وهو المؤاخذة، يقال: من فعل كذا يأثم، ويأثم من شرب الخمر، وتقول: الخمر إثم، والكذب إثم، ويمكن أن تقول: يستوجب الإثم، فيطلق على الذنب، ويطلق على جزائه، وتبعته.
"قال ابن جرير: الإثم ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم، ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم، وفي غيركم."

على كل حال الذنب من حيث هو إثم، وإذا كان ذلك مما يتعدى فيمكن أن يقال: هو من قبيل العدوان، وإن كان هذا لا يخلو من إشكال أيضاً، لكن الضابط الذي ذكره ابن القيم أحسن - والله تعالى أعلم - فالعدوان لا يختص بما يتعلق بالعدوان على الناس، وإنما هو أيضاً تعدي القدر، والحد الذي حده الله - تبارك، وتعالى -، وهذا لا شك أنه إثم أيضاً فإنما صار التحريم فيه من جهة التعدي، ولهذا لما أبيحت الميتة مع أن تعاطيها من الإثم إذا كان الإنسان غير مضطر، فأبيحت للمضطر فإذا تجاوز الحد الذي أبيح له منها فإنه يكون بذلك متعدياً.
"وقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً قيل: يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه، وتمنعه من الظلم، فذاك نصره انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه[3].
وروى أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، ورضي عنه - قال: المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم[4].
وفي الصحيح: من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً[5].
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي - باب من قال الأضحى يوم النحر (5230) (ج 5 / ص 2110) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الإكراه - باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6552) (ج 6 / ص 2550).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 55 (2507) (ج 4 / ص 662) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الصبر على البلاء (4032) (ج 2 / ص 1338) وأحمد (5022) (ج 2 / ص 43) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6651 ).
  5. أخرجه مسلم في كتاب العلم - باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (2674) (ج 4 / ص 2060).

مرات الإستماع: 0

"لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة: 2] قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون، ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقيل لهم: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ أي: لا تغيروا عليهم، ولا تصدّوهم، وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل: هي ما يحرم على الحاج من النساء، والطيب، والصيد، وغير ذلك، وإحلاله: فعله".

لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ جمع شعيرة، والشعائر: هي ما جعله الله علمًا لطاعته، فالشعائر لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ يدخل فيها أعلام الحج، وأعمال الحج، ومشاعر الحج، مواضع المناسك، ويقول بعض أهل العلم بأن المعنى: لا تحلوا هذه المذكورات بأن يقع منكم الإخلال بشيءٍ منها، أو بأن تحولوا بينها، وبين من أراد فعلها، والواقع أن هذا يدخل فيه: أعمال الحج، ويدخل فيه أيضًا المواضع، كالصفا، والمروة، ومزدلفة، ومنى، وعرفة، والجمار.

وهكذا الأفعال: الطواف، والإحرام، والسعي، والرمي، والذبح، والهدي، فكل ذلك يدخل فيه، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - حيث حملها على العموم[1].

وقد ذكرتُ في بعض المناسبات بأن بعض أهل العلم يقسمون الشرائع إلى شعائر، وأمانات، فالشعائر: هي الأمور الظاهرة، مثل: الأذان، والتكبير، والأعياد، وصلاة الجماعة، والتلبية، ورفع الصوت بها، وما إلى ذلك مما هو ظاهر.

والأمانات: مما لا يطلع عليه الناس، مما يكون بين الإنسان، وربه، كالطهارة؛ فالناس لا يعلمون هل صلى بطهارة، أو لا؟ وهل اغتسل من الجنابة؟ وهل اغتسلت المرأة من الحيض؟ وكذلك الصيام، ونحو هذا، وهذا تقسيم اصطلاحي، لا إشكال فيه، ولكن حينما يقال الشعائر كقوله: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ يدخل فيها المواضع من أعلام النسك، ونحو ذلك، ويدخل فيها الأعمال، وهذا يعني أن يأتي بها العبد على الوجه المشروع من غير تبديل، ولا إخلال؛ ولذلك ختم الله في آية الحج بذكر هذا الوصف شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة: 196] بمعنى أن من أخل، أو تلاعب بالنسك، فإنه متوعدٌ بالعقاب الشديد، وهنا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ والهدي داخل في ذلك أيضًا، فلا تنتهك حرمة ما يُساق إلى البيت منه، أو مما يكون في الحرم، من الهدي، وغير الهدي، فالمعنى عام، فهي أعلام الحج، وأعماله، فيدخل فيها هذا، وهذا.

وهنا يقول: "قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون، ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقيل لهم: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ أي: لا تغيروا عليهم، ولا تصدّوهم، وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل: هي ما يحرم على الحاج من النساء، والطيب" فكل هذه المعاني التي ذكرها داخلة في ذلك من الصد، والصيد، وحرمة الحرم، ومراعاة ذلك، ومواضع النسك - والله أعلم -.

"وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ قيل: هو جنس الأشهر الحرام الأربعة؛ وهي رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل: أشهر الحج؛ وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وإحلالها هو: القتال فيها، وتغيير حالها".

الأقرب أن المقصود بالشهر الحرام: الأشهر الحرم، لا يُنتهك فيها ما حرمه الله - تبارك، وتعالى - من القتال، وكذلك أيضًا يُراعى ما لها من الحرمة، فالمعصية فيها تكون أعظم، ونحن في هذا الشهر الحرام، في أوله، شهر الله المحرم، وآخر هذه الأشهر الحرم المتوالية، فهي ثلاثةٌ سرد، وواحدٌ فرد، الذي هو رجب، فيذكرون شهر رجب أولاً، ثم يذكرون ما بعده، فيكون ذكر المحرم تبعًا للشهرين قبله، وهكذا تُذكر بهذا الترتيب الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - مرتبة بهذه الطريقة.

فالحاصل: أن ما ذكره المؤلف من القتال فيها، وتغيير حالها، ومعنى: تغيير حال الأشهر الحرم: كما كان يفعله أهل الجاهلية من النسيء إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] فيؤخرون الأشهر الحرم - كما هو معلوم - من عادتهم، حيث يقوم سيدٌ من ساداتهم في منى بعد رجوع الحاج إليها، فيعلن للناس أنَّ المحرم سيكون في صفر مثلاً؛ من أجل أن يغيروا، أو من أجل أن يحصل لهم بذلك من المباهاة، والفخر، ويقولون كلامًا قبله مفاده: الفخر، والكِبر، وأنه لا راد لما يقول إلى غير ذلك مما تجدونه في أخبار العرب، وتاريخهم، كمثل كتاب المفصل لتاريخ العرب قبل الإسلام، وهو كتابٌ جامع لأحوالهم، وأخبارهم، وأعمالهم، ومعبوداتهم، ومناسكهم، ومواضع الذبح عندهم، وأحكام الإحرام، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، تجدونها مجتمعةً فيه، مما تفرق في الكتب غيره.

فالشاهد: أنه يدخل في ذلك القتال، وتغيير الأشهر الحرم، وكذلك أنواع الظلم، وأهل العلم مختلفون - كما هو معلوم - هل يحرم القتال في الأشهر الحرم، أو أن ذلك منسوخ؟ فالجمهور على أنه قد نُسِخَ منعُ القتال فيها، والأقرب - والله أعلم - أن ذلك باقٍ لم يُنسخ، ولا يحل القتال في الأشهر الحرم، وأن قول الله - تبارك، وتعالى - : وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] ليس بناسخ، وأما قتال النبي ﷺ لهوازن، فإنه ﷺ إنما خرج إليهم حينما بلغه أنهم قد اجتمعوا، يريدون كيدًا، وقد توافوا في وادي حنين، فيكون ذلك من باب الصد العدوان، ولم يكن ذلك ابتداءً.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول في قوله تعالى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وعطف على ذلك: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ يقول يعني بذلك تحريمه، والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء في القتال، وتأكيد اجتناب المحارم[2] وهذه العبارة التي قالها ابن كثير جيدة، فهي جامعة لمعانٍ صحيحة، وهذا من مزايا كتاب ابن كثير - رحمه الله - في التفسير، فهو كتاب يجمع المعاني التي تفرقت في عبارات السلف.

وهنا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ تحريم الشهر الحرام، الاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عنه فيه من القتال ابتداءً، وكذلك ما يتأكد فيه من اجتناب المعاصي، ونحو ذلك.

فيبقى كما قال المؤلف يقول: "قيل: هو جنس الأشهر الحرام، فهذا جنس يصدق على الأشهر، وهذا معروف، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أمثلةً له، مثل هذا جنس، لفظ مفرد، هو اسم جنسٍ يصدق على الواحد، والكثير: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور: 31] ولم يقل: الذي لم يظهر على عورات النساء، وإنما قال: الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لأن المقصود الجمع، سواء كان المفرد من غير إضافة، أو كان مضافًا، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب: 9] أي: نعم الله، نعمة مفرد، فأضافها إلى المعرفة، وهو الله أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور: 61] أي: أو أصدقائكم، وهكذا.

"وَلَا الْهَدْيَ هو ما يُهدى إلى البيت الحرام من الأنعام، ويُذبح تقرّبًا إلى الله، فنهى الله أن يُستحل بأن يُغار عليه، أو يُصد عن البيت".

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذهب إلى أن معنى: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ: لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما هداها من الأنعام، يعني كانوا يقلدونها شيئًا من لحاء شجر الحرم، ونحو ذلك؛ ليُعرف أنها من الهدي، فيتوقى الناس الإغارة عليها، ولا يريدها أحد بسوء، كما أن ذلك - كما يقول ابن كثير - يدعو من شاهدها إلى أن يأتي بمثلها[3] يعني الاقتداء، والاتساء.

هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - ويدخل فيه أيضًا ما ذكره ابن جزي هنا: "فنهى الله أن يُستحل بأن يُغار عليه، أو يُصد عن البيت" فهذا داخل فيه، من حيث المعنى، فإحلال الهدي بمثل هذا انتهاك حرمته، وما ذكره ابن كثير فيه زيادة على هذا: بـأن لا يُترك الهدي، سواء كان ذلك مما يُساق من خارج الحرم، أو مما يكون في الحرم، فذلك كله يُقال له: هدي، إلا أن الذي يُساق من خارج الحرم قد يكون أكمل - والله أعلم - ولذلك كانوا يسوقون الهدي، وكان النبي ﷺ يبعث هديه إلى الحرم، وهو في المدينة، لم يحج، فالهدي لا يختص بالحاج، وإنما ذلك يُساق إلى الحرم تعظيمًا له، وقد يُطلق الهدي بمعنًى أوسع من بهيمة الأنعام التي تُذبح هناك، فيُقال لكل ما يُهدى للكعبة، من الطيب، والستور، ونحو ذلك، لكن في أعمال الحج، ومناسك الحج المقصود به: ما يُذبح هناك من بهيمة الأنعام.

"وَلَا الْقَلَائِدَ قيل: هي التي تعلق في أعناق الهدي، فنهى عن التعرّض لها، وقيل: أراد ذوات القلائد من الهدي؛ وهي البدن، وجدّدها بالذكر بعد دخولها [وفي النسخة الخطية: وجردها بالذكر بعد دخولها] في الهدي اهتمامًا بها، وتأكيدًا لأمرها".

(وجردها) أوضح في المعنى، وإن كان يصح أن يُقال: (وجددها).

فقوله: وَلَا الْقَلَائِدَ فُسِّر بما يُقلد من الهدي، وكما سبق أنهم كانوا يقلدونها من لحاء شجر الحرم، فلا يعتدي عليها أحد، فالهدي قد يكون مقلدًّا، وقد لا يكون مقلدًّا، فذكر ذلك بعد الهدي بهذا الاعتبار يمكن أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، إذا أُريد بها ما قُلد، وإذا أريد نفس القلائد فهذا واضح، ولكن - والله أعلم - أن ذلك قد لا يكون راجحًا في المعنى؛ لأن القلائد ليست مقصودةً لذاتها، وإنما المقصود ما قُلّدها من الهدي، فلا تُنتهك حرمتها، وإلا فهذه القلادة لو أراد صاحب الهدي أن ينزعها، أو أن يغيرها، أو آذت البهيمة فحلها، فلا إشكال، لكن تبقى هذه قد تعيّنت للحرم، وتكلم الفقهاء - رحمهم الله - في أحكام: مثل لو أن هذه البهيمة أصابها شيءٌ في الطريق، وعرض لها من كسرٍ، أو مرضٍ أوشكت معه على الهلكة، أو انقطعت فحرنت، ونحو هذا، فماذا يُصنع بها؟ وما كان منه بتسبب، وما لم يكن بتسبب، كل هذا يذكره الفقهاء مفصلاً.

"وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أي: قاصدين إلى البيت لحجٍّ، أو عمرة".

وَلَا آمِّينَ الأَم: هو القصد، أو القصد المستقيم، أو التوجه نحو مقصود، أمَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يعني توجه إليه، أو قصده، وهذا معنى قول ابن جزي - رحمه الله - أي: القاصدين إلى البيت لحجٍّ، أو عمرة.

"ونهى الله عن الإغارة عليهم، أو صدِّهِم عن البيت، ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحطم البكري، واسمه: شُريح بن ضبيعة، أخذته خيل رسول الله ﷺ وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر[4]".

هذا هو الذي نزلت فيه الآية، لكن هذه روايات لا تصح، وهي مراسيل لا تثبت، وليس ذلك بسبب النزول.

وقال في الحاشية: وذلك أنه قال رسول الله ﷺ يومًا لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجلٌ من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان فجاء الحُطم، فخلَّف خيله خارجةً من المدينة، ودخل على رسول الله ﷺ فدعاه النبي ﷺ إلى الإسلام، وكأنه استأنى، واستمهل لينظر، فخرج من عند النبي ﷺ فعندما مرَّ بسرحٍ من سرح المدينة، فساقه، وانطلق - يعني أنه أخذ السرح، وهو من الأنعام - فجاء من العام القابل حاجًّا، وساق هديًا، فأراد النبي ﷺ أن يبعث إليه، وخفَّ إليه ناسٌ من أصحاب النبي ﷺ يعني أسرعوا إليه، وتوافوا، فنزلت هذه الآية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ[5] لكن الرواية لا تصح.

"وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء عامٌّ في المسلمين، والمشركين، ثم نُسِخَ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وبقوله: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة: 29] وبقوله: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17]".

فيما يتعلق بالقتال في الحرم، وفي الأشهر الحرم، فهذا الراجح أنه محكم، وليس بمنسوخ، فيحرم القتال فيه، وقد قال النبي ﷺ : فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السماوات، والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[6] فهذا ثابت، وكذلك في الأشهر الحرم.

فقول المؤلف هنا: "وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء عامٌّ في المسلمين، والمشركين، ثم نُسِخَ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وبقوله: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة: 29]" فيكون هذا من العام المخصوص، وليس من قبيل النسخ، وهكذا في قوله: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] الآية، فهذا ليس بنسخ.

وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - الإجماع على أن في الآية منسوخًا[7] وإن اختلفوا في تحديده، واختار نسخ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وكذلك وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ لكن فيما يتعلق بقاصدي البيت الحرام من المشركين، فإنهم يُمنعون من ذلك، يعني إذا قلنا: بأن الآية عامة وَلَا آمِّينَ فالعموم مأخوذٌ من لفظها وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وكذلك مما ذكروا في سبب النزول في خبر الحُطم، لكن سبب النزول لا يصح، فبقي اللفظ هكذا على إطلاقه وَلَا آمِّينَ من غير تقييده بالمسلمين، فإذا كان ذلك مقصودًا، فيكون قد نُسِخ بقوله - تبارك، وتعالى - في سورة براءة: فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة: 28] فهذا يقتضي صدهم، وسورة براءة هي آخر ما نزل في القتال، وسورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، وما ذكرته قبل قليل من أن سورة المائدة آخر ما نزل في الأحكام، ولم يُنسخ منها شيء: أن ذلك ليس على إطلاقه فهذا مثال، يعني ابن جرير - رحمه الله - نقل الإجماع على أن في الآية منسوخًا[8] وإن اختلفوا في تحديده، فوجد فيها نسخ، فالمقصود أن قاصدي البيت الحرام من المشركين يُمنعون، ويُصدون، ولا يُمكنون من دخول الحرم، لكن هل ذلك يُقال جزمًا باعتبار النسخ، يعني أن هذا من قبيل النسخ، فهذا يحتمل أن يكون قوله - تبارك، وتعالى - : وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ من المسلمين؛ لأن سبب النزول لا يصح، ولو صح خبر الحُطم فيكون دالاً على العموم يعني في المسلمين، وغيرهم - والله تعالى أعلم -.

"يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ، ورِضْوانًا الفضل: الربح في التجارة، والرضوان: الرحمة في الدنيا، والآخرة [وفي النسخة الخطية: والرضوان: الربح في الدنيا، والآخرة]".

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا يقول: "الفضل: الربح في التجارة" ومما فسره بذلك: مجاهد، وعطاء، وأبو العالية، ومطرف، والربيع، وقتادة، ومقاتل[9] وغير هؤلاء وَرِضْوانًا "والرضوان: الرحمة في الدنيا، والآخرة" وفي النسخة الأخرى يقول: "الربح" لكن الذي يظهر أن الصواب "الرحمة في الدنيا، والآخرة" والربح في الدنيا قد يُحمل على الربح في التجارة، وقد مضى الكلام عليه في الفضل، فالرضوان: هو ما عند الله - تبارك، وتعالى - من الثواب، والأجر، والرحمة، ونحو ذلك.

"وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا أي: إذا حللتم من إحرامكم بالحج، فاصطادوا إن شئتم، فالأمر هنا إباحة بإجماع".

في قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ليس معنى ذلك أن يصيد في الحرم، فإنه لا يحل، فالصيد لا يحل في حالتين: في الحرم، ولو كان حلالاً، فإنه لا يحل صيده، ولا يُعضد شجره، وكذلك المحرم فإنه يحرم عليه الصيد في الحرم تحريمًا أعظم؛ لاجتماع الحرمة الحالية؛ وهو التلبس بالإحرام، والمكانية، وكذلك يحرم عليه الصيد مطلقًا خارج الحرم ما دام متلبسًا بإحرامه، فقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا حَلَلْتُمْ يعني من إحرامكم، وقال بعضهم: وإذا حللتم من إحرامكم، وخرجتم من الحرم، فيكون الإحلال من الإحرام مقيدًا بالخروج من الحرم أيضًا.

يقول: "فالأمر هنا إباحة بإجماع" وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا باعتبار أن القاعدة في هذا هي: أن الأمر بعد الحظر يعود فيه الحكم إلى حاله قبل الحظر، وهذا على الأرجح، وليس محل اتفاق، فإذا كان متلبسًا بالإحرام، أو في الحرم يحرم عليه الصيد، فإذا حل من إحرامه، أو خرج من الحرم حلَّ له الصيد، فلما قال الله : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا الأصل أن الأمر للوجوب، فهل نقول: إنه إذا حل الإنسان من الإحرام، وخرج من الحرم يجب عليه أن يبحث عن طريدًا ليصيدها؟ الجواب: لا بالإجماع، إذًا ما حكم الصيد قبل الإحرام، أو قبل دخوله في الحرم؟ الإباحة، فلما حُظِر، ثم حل هذا المحرم، أو خرج من الحرم حلَّ له الصيد، فقال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فيكون الأمر للإباحة؛ لأنه يرجع إلى حاله قبل الحظر، فكان الصيد قبل الحظر مباحًا، فنُهي عنه في حال الإحرام، أو في الحرم، فلما زالت العلة رجع إلى حاله الأولى، وهذا كقوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] اتركوا البيع، ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] والابتغاء من فضل الله فُسِّر بالبيع، والشراء، والتجارة، وفُسِّر كما جاء عن ابن عباس - ا - بعيادة المريض، وما يُطلب به الأجر؛ كصلة الرحم[10] ونحو ذلك، لكن الجمهور على أن المقصود بابتغاء فضل الله: التجارة، والكسب، والبيع، والشراء، الذي يكون مُنع، فما حكم البيع، والشراء بعد صلاة الجمعة؟ الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فهذا أمر بالانتشار، بل ما حكم الخروج من المسجد؟ هل يُقال: يُمنع من البقاء في المسجد بعد صلاة الجمعة لقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لأن هذا أمر؟ فهل يقال: هو للوجوب؟ الجواب: لا؛ لأن الأمر يرجع إلى حاله قبل الحظر، قبل أن يقول: وَذَرُوا الْبَيْعَ حيث كان الحكم قبل ذلك إباحة البيع، والشراء، فلما حُظر، ثم زال ما من أجله كان هذا الحظر عاد إلى حكمه الأول، وهو الإباحة. 

"وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا معنى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم، يقال: جَرَمَ فلانٌ فلانًا هذا الأمر: إذا أكسبه إياه، وحمله عليه".

وهذا لا يكاد يقال إلا في الإجرام، والاجترام، ونحو ذلك، ولا يقال في الكسب المحمود، فالغالب أنه يُستعمل في الكسب غير المحمود، في الكسب المذموم، يقال: جرم، واجترم، ومنه المجرم، والجريمة، والإجرام، ونحو ذلك.

"والشنآن: هو البغض، والحقد، ويقال: بفتح النون، وإسكانها".

يقول: "والشنآن: هو البغض، والحقد" أو الشنآن: شدة البغض، فالبغض مراتب، ودرجات، كما أن المحبة درجات، فالشنآن: بغض شديد، مثلما يقال: المقت: وهو شدة الكراهية، والبغض.

"ويقال: بفتح النون، وإسكانها" شَنْآن في قراءة ابن عامر[11] والتي نقرأ بها هي قراءة الجمهور[12] وهما لغتان: شَنْآن، وشَنَآن، فهي لغات، والمعنى واحد لا يختلف.

"أَنْ صَدُّوكُمْ مفعول من أجله، وأَنْ تَعْتَدُوا مفعول ثان لـيَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة: 2] ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح[13] حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل؛ لأنهم قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم؛ لأن الله علم أنهم يؤمنون".

قوله هنا: "ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام" هذا بناءً على قراءة الجمهور[14] أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح همزة (أن)، لكن في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: (إِنْ صَدُّوكُمْ)[15] فهنا (إن) شرطية، وفي: أَنْ صَدُّوكُمْ قال: "مفعول من أجله" فهذا المعنى الذي فسر به هو على قراءة الجمهور، يعني من أجل أن صدوكم.

وقوله: "بأنها نزلت عام الفتح، حين ظفر المسلمون بأهل مكة، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل" يعني مقابلةً لصدهم للمسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية "فنهاهم الله عن ذلك".

هذا جاء عن زيد بن أسلم، وزيد بن أسلم معروف أنه من التابعين، فالرواية مرسلة، قال: "كان رسول الله ﷺ بالحديبية، وأصحابه حينما صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليه، فمر بهم أناسٌ من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي ﷺ : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله هذه الآية"[16] هذا عام الحديبية، لكن الرواية لا تصح، فليس ذلك بسبب النزول، فيكون ذلك في عام الحديبية، وليس عام الفتح - والله أعلم -.

س: شيخنا - أحسن الله إليكم - قوله: "لأن الله علم أنهم يؤمنون" هل هذا توجيه صحيح؟

لا ليس كذلك، وإنما من باب حرمة المكان، وهو الحرم، والسياق كله في هذا.

"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ، والتَّقْوَى وصيةٌ عامة، والفرق بين البرّ، والتقوى: أن البرّ عام في فعل الواجبات، والمندوبات، وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات، وترك المحرمات، دون فعل المندوبات، فالبرّ أعمّ من التقوى".

البر، والتقوى متقاربان، وهذه الوجوه التي يذكرها أهل العلم في التفريق بينهما حيث اجتمعا؛ من أجل التفريق بينهما.

وذكر بعضهم بأن البر: هو الواجب، والمندوب، والتقوى: هي الواجب، وهذا لا دليل عليه، ولكن كأنهم نظروا إلى أن التقوى مأمورٌ بها، وهي واجبة، لكن وجوب التقوى من حيث الأصل، والجملة، وأما تفاصيل التقوى، فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ففعل الواجب واجب، وترك المحرم واجب، واجتناب المكروه، والمشتبه، وفعل المستحب كل ذلك من المستحب، فتفاصيل التقوى تختلف.

وذكر بعضهم بأن في البر رضا الناس، وفي التقوى رضا الله، وهذا ليس صحيح، فهذا كأنه نظر إلى أن البر هو ما يتعلق بالإحسان إلى الخلق، والتقوى بالإحسان مع الخالق بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى. 

لكن ابن القيم - رحمه الله - ذكر كلامًا أحسن من هذا، وهو: أن كل واحدٍ منهما إذا أُفرد دخل فيه الآخر تضمنًا، مثل ما يقال في الإسلام، والإيمان إذا اجتمعا افترقا، أي إذا اجتمعا في اللفظ، فقُرنا افترقا في المعنى، وصار لكل واحد معنًى يخصه، وإذا افترقا يعني ذُكر كل واحد على سبيل الانفراد، اجتمعا في المعنى، فدخل فيه معنى الآخر[17].

فذكر ابن القيم أن البر: هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه، والخير، فيدخل فيه الإيمان، وأجزاؤه الظاهرة، والباطنة.

وأما التقوى: فهي العمل بطاعة الله أمرًا، ونهيًا، إيمانًا، واحتسابًا، والبر داخلٌ في ذلك، وعند الاقتران، فالفرق: أن البر مقصودٌ لذاته، والتقوى مقصودةٌ لغيرها، فهي وسيلة إلى البر الذي هو الكمال[18].

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر بأن البر: فعل الخيرات، والتقوى: ترك المنكرات[19] وهذا إذا اجتمعا (البر، والتقوى) كقوله هنا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى لأن الأصل أن التأسيس مقدم على التوكيد، فلا يقال مثلاً بأن التقوى هو توكيد للبر، وهي بنفس معناها، ولا سيما على القول بأنه لا يوجد ترادف في القرآن، وبعضهم يمنع من وجوده في اللغة، ومن هنا يذكرون هذه الفروقات إذا اجتمعا، وإلا فالتقوى، والبر كل ذلك من الألفاظ الجامعة، التي تجمع طاعة الله - تبارك، وتعالى - وطاعة رسوله ﷺ بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات، ولكن يغلب استعمال البر في وجوه الإحسان، والمعروف، ونحو ذلك، والتقوى يكون ذلك بفعل المأمور، واجتناب المحظور، وإذا اجتمع فالبر يدخل فيه جميع محاب الله والتقوى: ما يُتقى به سخطه، وعقابه - والله أعلم -.

"وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الفرق بينهما: أن الإثم كل ذنبٍ بين العبد، وبين الله، أو بينه، وبين الناس، والعدوان على الناس".

هذا مثل ما سبق أيضًا، فالإثم، والعدوان متقاربان، وإن كان الفرق هنا أوضح من البر، والتقوى.

فيقول المؤلف: "الإثم كل ذنبٍ بين العبد، وبين الله، أو بينه، وبين الناس، والعدوان على الناس" فالعدوان فيه معنى التعدي، والإثم يقال للمعصية، كما يطلق على ما يترتب عليها من المؤاخذة، فتقول: الزنا، والكذب إثم، ويقال: اجتنب الآثام، وشرب الخمر إثم، ويقال لما يترتب عليه من المؤاخذة، تقول: يأثم من يزني، ويأثم من شرب الخمر، ومن فعل كذا فهو آثم، والعرب قد تُطلق الإثم على معنًى أخص، يعني على نوعٍ خاصٍ من المعاصي، وهو الخمر، كما قال الشاعر:

شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإثْمُ تَفعلُ بالعُقُولِ[20].

يعني باعتبار أنها أم الآثام، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - فرّق بين الإثم، والعدوان، باعتبار أن الإثم: ما كان محرم الجنس، كالخمر، والعدوان: ما كان محرم القدر، والزيادة[21] فما كان محرم الجنس فهذا يقال: إثم، وما كان محرم القدر، والزيادة فهو العدوان، فيكون إذا زاد عليه قد اعتدى.

يقول: وإلا فهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، مثل البر، والتقوى، فإذا قيل: الإثم دخل فيه العدوان.

وابن جرير - رحمه الله - فسّر الإثم: بترك ما أمر الله بفعله، والعدوان: مجاوزة ما حد الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله على المكلفين في أنفسهم، وفي غيرهم[22] وهذا مثل كلام ابن القيم، أعني: الشق الأخير في العدوان، وهو مجاوزة ما حد الله، فابن القيم - رحمه الله - يقول: ما كان محرم القدر، والزيادة، فتجاوز الحد في هذا يعتبر من قبيل العدوان غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ [البقرة: 173] وهذا في أكل الميتة على سبيل المثال، فهذا المعتدي في أكل الميتة تجاوز الحد، فإذا كان لا يجوز له أن يأكل فوق حاجته، يعني مما يُبقي على المهجة، فإذا أكل أكثر من ذلك يُعتبر من العدوان.

وفسّره بعضهم - كما هو معلوم - : بأن لا يكون في سفر محرم، كقاطع طريق يستعين به على معصية، أو أن يأكل من غير ضرورة.

وبالنسبة لمعاملة الخلق، فالعدوان: هو التعدي على حرماتهم، وذواتهم، وأعراضهم، وما إلى ذلك، فهذا من العدوان، فالتعدي فيه مجاوزة، والإثم: ما يترتب عليه المؤاخذة، والعدوان نوعٌ من الإثم، ويمكن أن يقال - والله أعلم - بأن ذلك من قبيل عطف الخاص على العام، فكل عدوان فهو إثم، ولكنه خصَّ العدوان لأنه أشد؛ لأن فيه تجاوز حدود الله فيما حدّه، وكذلك أيضًا التعدي على الخلق.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/465).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/9).
  3.  المصدر السابق (2/10).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/472).
  5. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/147).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة برقم: (1834)، ومسلم في الحج باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها.، وفي الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، برقم: (1353).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/475).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/475).
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/10 - 11).
  10.  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (7/45).
  11.  السبعة في القراءات (ص: 242)، وحجة القراءات (ص: 219).
  12.  حجة القراءات (ص: 220).
  13.  تفسير القرطبي (6/30).
  14.  السبعة في القراءات (ص: 242).
  15.  المصدر السابق.
  16. أسباب النزول ت الحميدان (ص: 189)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/12).
  17.  الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص: 7).
  18.  الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص: 7 - 8).
  19.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/12).
  20.  البيت في مقاييس اللغة (1/61)، ولسان العرب (12/6) دون نسبة.
  21. الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه (ص: 10).
  22.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/490).