السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا۟ بِٱلْأَزْلَٰمِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ۚ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:3].
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة، ولا اصطياد؛ وما ذاك إلا لما فيها من المضرة؛ لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين، وللبدن فلهذا حرمها الله ، ويستثني من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية، أو غيرها؛ لما رواه مالك في موطئه، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته[1]، وهكذا الجراد لما سيأتي من الحديث."

قوله: "لما سيأتي من الحديث" يعني حديث: أحلت لنا ميتتان[2].
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة:3] "أل" هذه هي المعرِّفة للجنس، ويكون ذلك للعموم، وهو من العام المخصوص الذي خص بهذا الحديث، وهذا من تخصيص السنة للقرآن.
"وقوله: وَالْدَّمُ [سورة المائدة:3] يعني به المسفوح كقوله: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [سورة الأنعام:145]."

المقصود بالدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من أوداج الذبيحة إذا ذبحت، أما الدم الذي يكون في العروق مع اللحم فإن ذلك لا إشكال فيه، ويدل على ذلك حديث عائشة - ا - فالحمرة التي تعلو القِدر مثلاً إذا وضع فيه اللحم هذا لا إشكال فيه؛ وهو أصلاً مما يصعب التحرز منه، ولسنا مأمورين بغسل اللحم قبل طهيه، لذلك لا بد أن يخالطه شيء من الدم، المقصود أن هذا لا إشكال فيه، وإنما الدم النجس هو الدم الخارج، وكذلك لستَ مأموراً بغسل الرقبة أيضاً فإن مثل هذا لم يرد الأمر به، وإنما الدم الخارج المنفصل عنها هو الذي لا يجوز تعاطيه؛ لأنه نجس، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون مثل هذا الدم، وربما طبخوه مع شيء من الوبر في أيام القحط، والمجاعة، وربما عمدوا إلى البعير، وقطعوا عرقاً من عروقه، وهو حي، وتلقوا الدم ثم، وضعوا معه شيء من الوبر، وطبخوه إذا أصابهم القحط، والجوع، أو كذلك إذا كانوا في أسفارهم، ولم يجدوا شيئاً يأكلونه فإنهم كانوا يفعلون هذا، فنهاهم الله عن ذلك، وحرمه عليهم، أما ما يعْلق، أو يبقى من أثر في رقبة الذبيحة، أو نحو ذلك فلسنا مأمورين بغسله.
"كقوله: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [سورة الأنعام:145] قاله ابن عباس - ا -، وسعيد بن جبير.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه، فقالوا: إنه دم، فقال: "إنما حرم عليكم الدم المسفوح".
وقد روى أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عن ابن عمر - ا - مرفوعاً قال: قال رسول الله ﷺ أحل لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان فالسمك، والجراد، وأما الدمان فالكبد، والطحال[3]، وكذا رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.
وقوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ يعني إنسيَّه، ووحشيَّه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا [سورة الأنعام:145] يعنون قوله تعالى: إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة؛ فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه."

يقول: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ اللحم في الأصل يطلق على اللحم بنوعيه الأبيض - الذي يسمى بالشحم -، والأحمر، قال الله : أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فهو يشمل هذا، وهذا، ولا يحتاج إلى دليل آخر للتدليل على أن بقية أجزاء الخنزير لا يجوز أكلها فاللحم يشمل هذا، وهذا في كلام العرب، إلا أن الظاهرية لم يتفطنوا لهذا المعنى، فقالوا: إن قوله تعالى: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ قد يفهم منه أنه اللحم الأحمر، فالشحم هل يجوز أكله؟ قالوا: لا يجوز أكله، والدليل قوله تعالى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ فالضمير يعود على الخنزير فحكم عليه أنه رجس، والرجس هو النجس، فهو نجس بجميع أجزائه، والنجاسات لا يجوز تعاطيها، فهذا يدل على أن الشحم أيضاً حرام، وعلى هذا لو بقينا مع قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإن هذا عندهم يدل على تحريم اللحم الأحمر، وأما الشحم فهو غير داخل في الآية، إلا أن ابن كثير يرد عليهم، ويقول: هذا الكلام غير صحيح؛ لأن الأصل أن الضمير إذا عاد إلى متضايفين قبله فإنه يرجع في الواقع إلى المضاف، وليس إلى المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المُتحدث عنه، فالله تعالى يتحدث عن لحم الخنزير لا عن الخنزير فمن الخطأ أن يقال: إن قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي الخنزير، وإنما الضمير يعود إلى لحم الخنزير، فالآية يؤخذ منها تحريم لحم الخنزير، وشحمه من قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، وليس من قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ باعتبار أن ذلك يعم جميع أجزاء الخنزير، ثم إن قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ هذا تعليل، والرجس هو النجس، فيكون ذلك دليلاً على تحريم جميع أجزاء الخنزير فيقال: إن جلد الخنزير نجس؛ فالنجاسة تنتقل مع الرطوبة، وهكذا فضلات الخنزير، وعصب الخنزير كل ذلك نجس.
"والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطِّرد.
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي قال: قال رسول الله ﷺ: من لعب بالنردَشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير، ودمه[4]."

ذكر هنا لحم الخنزير، ودمه، وهذا يدل على أن الخنزير نجس يُتنزه منه.
"فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد، والوعيد الأكيد على أكله، والتغذي به، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم، وغيره.
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام[5]، وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم: نهانا عن الميتة، والدم."

في الحديث قال: "فإنها تطلى بها السفن" يعني أن ذلك من أجل أن لا تتشرب أخشابُ السفن الماءَ.
"وقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3] أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام؛ لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدِل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم، أو طاغوت أو وثن، أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع."

عند الكلام عن الحج يقال عن الإهلال: إنه رفع الصوت، والمراد به هنا ذكر الأوثان، أو المعبودات من دون الله - تبارك، وتعالى - عند الذبح، وهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة، حتى لو قصد بذلك أنها ذبيحة لله، وذكر اسم غير الله عند الذبح فقال: بسم المسيح مثلاً، أو بسم النبي ﷺ، أو بسم العزى، أو نحو ذلك، هذا شرك أكبر، وإن قصد أن الذبح لله، ومما يدخل في ذلك أيضاً - فيما يحرم - أنه إن قصد بها التقرب إلى غير الله من الطواغيت، والأصنام، وما أشبه ذلك، ولو ذكر اسم الله عليها فإنه لا يجوز أكلها كالتي تذبح للقبور، وإن ذكر اسم الله عليها، ويبقى على كل حال ما نسيت فيه التسمية، فالآية هنا تتحدث عما أهل به لغير الله، فهذا لا شك أنه حرام بالإجماع، أما ما تركت فيه التسمية عمداً، أو سهواً مما يقصد به التقرب إلى الله ، أو يقصد به الانتفاع باللحم فالذبح تارة يكون على سبيل القربة، وتارة يكون على سبيل الانتفاع، والحاجة، وليس من قبيل العبادة، والمقصود أن لا يذكر اسم سوى اسم الله على الذبيحة، وأما ذكر اسم الله فالراجح أنه واجب، وأن التسمية إن تركت عمداً لم تصح، ولا يجوز أكل هذه الذبيحة، وإن تركت نسياناً، وسهواً فالخلاف في هذا أقوى، ولو قيل بأنها لا تؤكل أيضاً لكان ذلك أقرب - والله تعالى أعلم -؛ لعموم قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].
"قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ [سورة المائدة:3]، وهي التي تموت بالخنق إما قصداً، وإما اتفاقاً بأن تَتَخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام."

قوله: "قصداً" لبيان أنهم كانوا في الجاهلية ربما أخذوا الذبيحة، وخنقوها ثم أكلوها، وكما يفعل الآن من خنق الذبيحة تحت شعار الرفق بالحيوان، أو تصعق، أو تغرق في الماء فكل هذا من الميتات التي لا يجوز أكلها.
قوله: "وإما اتفاقاً" بمعنى أنها تحركت في وثاقها فانخنقت فماتت، فما مات بقصد، وفعل من الإنسان يقال له: قتل، أو إزهاق الروح بقصد هو القتل، وما حصل فيه زهوق النفس من غير فعل أحد فإنه يقال عنه: مات حتف أنفه، وهذا هو الفرق بين القتل، وبين الموت.
"وأما الموقوذة فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت."

مما يذكر في أخبار العرب أنهم ربما ضربوها بالخشب حتى تموت تقرباً لآلهتهم، فالمقصود أن ما ضرب بشيء غير محدد فإنه لا يجوز أكله، والموقوذة هي التي تُضرب بحجر، أو تصدمها سيارة مثلاً كأن يتبع الصيد بالسيارة، فيصدمه فإذا مات فإنه لا يحل أكله، وكذلك ما يمكن أن يصاد من الطيور بهذه الآلة التي يصيد بها الصغار بالحجر، فمثل هذا لا يجوز أكله فهي موقوذة؛ لأنها تموت بسبب ما يحصل لها من صدم هذا الجسم الذي يضربها إما بخشبة، أو بحجر، أو بأي شيء ثقيل، فهذه لا يجوز أكلها؛ لأنها موقوذة.
"كما قال ابن عباس - ا -، وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى تُوقذ بها فتموت، قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصيّ حتى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب، قال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله[6]."

حديث عدي بن حاتم في الصحيحين يقول: "إني أرمي بالمعراض"، والمعراض يطلق على السهم الذي لا ريش له، فالسهم إذا كان له ريش في مؤخرته فإن توجهه يكون مستقيماً فيصيب بحدِّه أي برأسه فيخرق، وإذا كان لا ريش له فيكون توجهه غير مستقيم، وإنما ينطلق بقوة الدفع فربما يصيب بعرضه، وبالتالي ربما مع قوة الضربة يقتل الطائر، أو الحيوان إذا كان صغيراً، أو نحو ذلك.
ويطلق المعراض أيضاً على الخشبة التي تكون محددة فإذا ضرب بها فقد يصيب بحدها، فإذا أصاب بحدها فلا إشكال، لكن إذا أصاب بعرضها فقتل هذه البهيمة فإنه لا يجوز أكلها؛ لأنها موقوذة.
يقول في الحديث: "إني أرمي بالمِعراض الصيد، فأصيب" قال: فإذا رميت بالمعراض، فخزق فكله قوله: خزق يعني أصاب بحده فجرح، يقول - عليه الصلاة، والسلام -: وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله.
يقول ابن كثير: "ففرَّق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق، ونحوه بحده" يعني ما أصابه بالسهم بحده، أو السهم الذي لا ريش له، أو بالمزراق الذي هو الرمح القصير، فإذا أصاب بحده جاز أكله، وإذا أصاب بعرضه لم يجز أكله، وهذا إذا مات، أما ما أدرك، وفيه الحياة فسيأتي فيه قوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3].
"ففرَّق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق، ونحوه بحده فأحله، وما أصابه بعرضه فجعله، وقيذاً لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء."

يقول: "وهذا مجمع عليه عند الفقهاء"، وهو ليس محل إجماع - والله أعلم -؛ فمن أهل العلم من يقول: إنه وقيذ مطلقاً لا يجوز أكله بحال من الأحوال، وهذا منقول عن ابن عمر، ومالك، وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، أي الذي يصاد بهذه الطريقة، وهذا فيه بعد، ومنهم من أجازه مطلقاً، وهذا منقول عن أهل الشام من الصحابة ، وبعض الصحابة كأبي الدرداء ، والأوزاعي، ومكحول، وأمثال هؤلاء كلهم يقولون: إنه يجوز مطلقاً حتى لو أصاب بعرضه، لكن الفاصل في هذا هو الحديث، فإذا أصاب بحده جاز، وإذا أصاب بعرضه لم يجز - والله أعلم -.
"وأما وَالْمُتَرَدِّيَةُ فهي التي تقع من شاهق، أو موضع عال، فتموت بذلك فلا تحل."

يعني كأن تقع في بئر، أو يحملها، ويلقيها على الأرض مثلاً فتموت، وهكذا.
"قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: المتردية التي تسقط من جبل، وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر، وقال السدي: هي التي تقع من جبل، أو تتردى في بئر.
وأما وَالنَّطِيحَةُ فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن، وخرج منها الدم، ولو من مذبحها، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي: منطوحة.
وقوله: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ أي ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو نمر، أو ذئب، أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام."

حتى لو لم يأكل بعضها بأن عدا عليها فخنقها حتى قتلها فإنها لا تحل.
"وإن كان قد سال منها الدم، ولو من مذبحها فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة، أو البعير، أو البقرة، أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين.
وقوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [سورة المائدة:3].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء، وفيه روح فكلوه فهو ذكي، وكذا روي عن سعيد بن جبير، والحسن البصري، والسدي."

وهذا اختيار ابن جرير، وهو قول الجمهور من الفقهاء، وبهذا الاعتبار يكون الاستثناء من قبيل الاستثناء المتصل، إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يعني مما أدركتم فيه الحياة من هذه المذكورات، كالتي سقطت في بئر، أو التي سقطت من السطح، أو التي صدمتها السيارة، أو التي أصابها حجر، أو نحو هذا، فأدركتم فيها حياة، أي فيه رمق بأن تتحرك رجل، أو يد، أو نحو هذا، وإن كانت في حال الاحتضار فإنها إذا ذكيت جاز أكلها، وإن كانت قد خرجت نفسها فلا يجوز أكلها، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهم الجمهور، ومن أهل العلم من يقول: إن الاستثناء في هذه الآية منقطع، أي يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة:3]، ثم ذكر المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وبيَّن أنها محرمة ثم قال: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ أي لكن ما ذكيتم من بهائم الأنعام فهو حلال يعني غير هذه التي ذكرناها.
والمشهور من مذهب الإمام مالك، وأحد القولين للشافعي - رحمه الله - أنه يجوز أكل هذه المذكورات في الآية - المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع - إذا وجدت بحال يمكن أن تعيش معها فتكون لها حكم السالمة من البهائم، بمعنى أنه لو نهشها الذئب، أو عضها مثلاً، أو سقطت لكن أغمي عليها، ورشت بالماء، وصحت، فصارت في حال يمكن أن تعيش فيها فالحكم في هذا بالاتفاق أنه يجوز أكلها، لكن لو بقيت في حال ستموت بعده بأن قرر الأطباء أن هذه البهيمة لا يمكن أن تعيش بهذا الوضع، أو نحن نشاهد أن هذا هو حالها ففي هذه الحال على قول الجمهور إذا ذكيت أكلت، وعلى قول الآخرين لا يجوز أكلها، وعلى هذا القول الثاني يكون قوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ استثناء منقطعاً لا يعود إلى المذكورات قبله، فكأنه يقول: حرام عليكم الميتة، وما في حكم الميتة مما قد أشرف على الموت من هذه التي أصابها هذه العوارض، وإنما يباح لكم المذكى من بهيمة الأنعام، فالمقصود أن الاستثناء المنقطع هو الذي لا يكون من جنس المستثنى منه، وعلى كل حال فالقول الأول لا شك أنه هو الأقرب، والأرجح، ولا زال الناس إلى عهد قريب جداً يأكلون هذه الدواب، ويأكلون المريضة جداً التي أوشكت على الموت فأدركوها، وتجدهم يتسارعون إليها قبل أن تموت فيذكونها، ويأكلونها حتى فاضت النِّعم على الناس فصاروا لأدنى شيء يتنزهون عن أكل هذه اللحوم خوفاً من الأمراض، بل يتركونها، وهي سالمة خوفاً من أمراض يتوهمونها بسبب أكل اللحوم، وإلا فقد كانوا يأكلون التي أشرفت على الموت، بل في أوقات الجوع الشديد كانوا يضطرون، ويأكلون الميتات.
"وروى ابن جرير عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وهي تحرك يداً، أو رجلاً فكلها.
وهكذا روي عن طاوس، والحسن، وقتادة، وعُبَيد بن عُمير، والضحاك، وغير واحد أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال.
وفي الصحيحين عن رافع بن خَدِيج  أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السنَّ، والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السنُّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة[7]."

المُدَى جمع مُدْية، والمُدْية هي السكين، وهذا مما يستدل به على أن متروك التسمية، ولو نسياناً لا يحل، وإن ذبح لله قصداً؛ لأنه ذكر هنا شرطين: الشرط الأول لا بد منه، وهو ما أنهر الدم بقطع الأوداج، ولذلك الذي يقطع في الذبيحة أربعة أشياء: الودجان، وهما عرقان محيطان بالعنق، والحلقوم، وكذلك القصبة الهوائية، والمريء، فإذا قطعت الأوداج حلت الذبيحة، والأكمل في التذكية قطع الأربعة، ويليه قطع ثلاثة، فالحاصل أنه قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن، والظفر يعني سوى السن، والظفر.
"وقوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] قال مجاهد، وابن جُرَيْج: كانت النُّصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: وهي ثلاثمائة، وستون نصباً كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرِّحون اللحم، ويضعونه على النصب، وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى، ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله، ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله."

بعض أهل العلم يقول في قوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] إن "َعلى" هنا بمعنى اللام، ومعلوم أن حروف الجر تتناوب، فيكون المعنى، وما ذبح للنصب.
والنُّصُب كانوا يذبحون عندها سواء قيل: إنها أصنام، أو قيل: إنها أحجار، وليست بأصنام فهي من جملة الأوثان التي كانوا يتقربون لها فيذبحون عندها، كما يقول ابن جرير الطبري - رحمه الله -: إنها ليست أصناماً، وإنما هي أحجار تجمع، ويذبحون عندها تقرباً إليها فهي من جملة الأوثان.
ومن نظر في الكتب التي تذكر تاريخ العرب، مثل كتاب المفصل - وهو من أوسعها في نحو أحد عشر مجلداً - يجد الأماكن التي كانوا يذبحون بها في جاهليتهم، وهكذا من يطلع سيقرأ أخباراً، وأشياء عجيبة جداً من سخافة العقول.

"وقوله تعالى: وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ [سورة المائدة:3] أي حرَّم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، واحدها: زُلَـم، وقد تفتح الزاي، فيقال: زَلَـم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: "افعل"، وعلى الآخر: "لا تفعل"، والثالث غفل ليس عليه شيء.
ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد: "أمرني ربي"، وعلى الآخر: "نهاني ربي"، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد.
والاستقسام: مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.
وقال ابن عباس - ا - هي قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور.
وذكر محمد بن إسحاق، وغيره: أن أعظم أصنام قريش صنم يقال له: هُبَل، منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه، ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصحيح أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة وجد إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام - مصوريْن فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً[8].
وقال مجاهد في قوله: وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ [سورة المائدة:3] قال: هي سهام العرب، وكعاب فارس، والروم، كانوا يتقامرون بها.
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر، اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة، وفي القمار أخرى - والله أعلم -."

فالاستقسام بالأزلام المشهور هنا هو ما ذكر أنها تلك القداح التي كانوا يستخرجونها إذا هموا بأمر، والاستقسام هو طلب القسم في قسم الأرزاق، وقسم ما يطلبون فيه القسم من المضي في أمر من الأمور، أو الإحجام عنه.
والمعنى الآخر الذي يذكره أهل العلم في الاستقسام بالأزلام أنها قداح الميسر، ولهذا ذكر هنا كعاب فارس، والروم، والكعاب تطلق على فص النرد، وذلك يستعمل في الميسر، والقمار، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من أنهم ربما يستعملونها في هذا، وهذا محتمل، لكن الأشهر هو ما ذكر أنهم إذا هموا بأمر أدخل أحدهم  يده في هذه الخريطة، أو الكيس، وفيها هذه القداح ليخرج واحداً منها، وبعض أهل العلم يذكر أن قداح الميسر عشرة أنواع، لكل واحد اسم يخصه.
"فإن الله سبحانه قد قرن بينها، وبين القمار، وهو الميسر فقال في آخر السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى قوله: مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:90-91]."

هذا يرجح أن الأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها إذا هموا بأمر من الأمور، وأنها ليست الميسر، والقمار؛ لأن الله فرق بينهما، فلا يقال هذا من عطف الشيء على نفسه - عطف الصفات -؛ لأن الله فصل بينهما بالأنصاب، والأنصاب ليست هي الميسر قطعاً.
"وهكذا قال هاهنا: وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [سورة المائدة:3] أي: تعاطيه فسق، وغي، وضلالة، وجهالة، وشرك، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه، كما روى الإمام أحمد، والبخاري، وأهل السنن عن جابر بن عبد الله - ا - قال: كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: إذا همَّ أحدكم بالأمرِ، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخِيركَ بعلمكَ، وأستقدرك بقدرتكَ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم؛ فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت عَلام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني، ودنياي، ومعاشي، وعاقِبة أمري، أو قال: عاجل أمري، وآجله، فاقدره لي، ويَسِّره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلمه شرا لي في ديني، ودنياي، ومَعاشي، وعاقبة أمري، فاصْرفني عنه، واصرفه عنِّي، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به[9] لفظ أحمد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [سورة المائدة:3] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم."

في قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ يحتمل أن يكون المراد باليوم يعني يوم نزلت هذه الآية، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الزمان الحاضر دون تخصيص يوم بعينه.
وما ذكره هنا عن ابن عباس - ا -، وهو قوله: "يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم" فهو بمعنى أن دينكم قد ظهر، وغلب، وقد تلاشت عبادة الأصنام كما جاء في الحديث: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب[10].
والمعنى الثاني لقوله: يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ أي من زواله، وإبطاله، والقضاء عليه، وهذا المعنى هو المتبادر، أي أنهم حصل لهم العجز التام عما كانوا يحاولونه، ويطمعون به في أول الأمر.
"وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح، والسّدِّي، ومُقاتِل بن حَيَّان، وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم[11].
ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك، وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا، ويثبتوا في مخالفة الكفار، ولا يخافوا أحداً إلا الله، فقال: فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ [سورة المائدة:3] أي: لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم، واخشوني أنصركم عليهم، وأبدهم، وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا، والآخرة."

هذا الذي ذكره هو معنىً ثالث، وهو لم يذكر المعنى الثاني الذي أظنه أرجح هذه الأقوال.
وهذا المعنى الذي ذكره - وهو أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين - معناه أن الكفار ربما راموا حلاً وسطاً كما قال الله : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم:9]، وكانوا يؤملون أن يعبد النبي ﷺ آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فقال الله : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:1-3] يعني في الزمن الحاضر، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ [سورة الكافرون:4] يعني في الزمن المستقبل، والمعنى لن أتحوَّل إلى عبادتكم، ومعنى وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:5] أي لن تتحولوا إلى ديني، فهناك مفاصلة تامة بين الفريقين، وشتان ما بين الديانتين، ومن ثمّ يئس هؤلاء الذين كفروا من هذا الدين بمعنى أن دينكم في ناحية، ودينهم، وما هم عليه في ناحية أخرى تضاد ذلك تماماً، فدينهم بني على الإشراك، ودينكم مبني على التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال للالتقاء، وهذا هو المعنى الثالث على كل حال، والمعنى الثاني هو ما ذكرت: من أن يئسوا من دينكم يعني من إبطاله، وهذا قال به كثير من أئمة التفسير.
وإذا كان المقصود برواية ابن عباس أن الكفار يئسوا أن يراجع المسلمون دينهم، أي أن يتركوه، إذا كان كذلك فهذا هو المعنى الثاني الذي ذكرته، يعني أن ترجعوا عنه، والحديث الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله -: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب[12] معناه يأسُ الكفارِ أن يراجع المسلمون دينهم،   يعني يئس الكفار أن يراجع المسلمون دينهم - والله أعلم -.
"وقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [سورة المائدة:3] هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم - صلوات الله، وسلامه عليه -، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس، والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق، وصدق لا كذب فيه، ولا خلف."

معلوم أن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ في حجة الوداع، وهو واقف في عرفة، والمشهور عند كثير من العامة - وهو قول لبعض أهل العلم - أن هذه آخر ما نزل من القرآن، وليس الأمر كذلك؛ فقد عاش النبي ﷺ بعدها نحواً من إحدى، وثمانين ليلة، ونزلت عليه بعض الآيات كآيات الربا، وآية الدين، وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة:281] فليست هذه آخر آية من القرآن.
وبالنسبة لما قد يرد من الإشكال في قوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة:3] كيف حكم بإكمال الدين في هذه الآية، وقد نزل بعض الآيات بعدها، أجيب عليه بإجابات من أحسنها ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أن إكمال الدين هنا، وإتمام النعمة هو أنه أكمل لهم دعائمه العظام، وأصوله الكبار، وأتم عليهم نعمته بأن أقرهم بالبيت الحرام لا يشاركهم، ولا يخالطهم فيه أحد من أهل الإشراك، حيث انفردوا بالبيت الحرام في تلك السنة بعد أن كان يحج إليه المشركون، فمنعوا من ذلك، فحج النبي ﷺ، وأهل الإسلام، ولم يحج أحد من المشركين منذ تلك السنة.
"كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [سورة الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر، والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [سورة المائدة:3] أي: فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله، ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وروى ابن جرير عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي ﷺ: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فأما إذْ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت[13].
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعود غريبا فَطُوبَى للغُرَبَاء[14].
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية؟ قال قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة:3] فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ﷺ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ عشية عرفة في يوم جمعة[15]، ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به، ورواه أيضاً مسلم، والترمذي، والنسائي، ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: والله إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله ﷺ حيث أنزلت: يوم عرفة، وأنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية[16].
وشكُّ سفيان - رحمه الله - إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري - رحمه الله - فإن هذا أمر معلوم مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي، والسير، ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها - والله أعلم -، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:3] أي: فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناوله، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه، ويغفر له."

المخمصة هي شدة الجوع، والحاجة بسبب مجاعة، ونحوها؛ وأصل الخمص هو ضمور البطن.
"وفي المسند، وصحيح ابن حبان عن ابن عمر - ا - مرفوعاً قال: قال رسول الله       ﷺ: إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصِيته لفظ ابن حبان[17]."

وهذه الرخصة ليست كالرخص، وإنما هي رخصة واجبة، حيث يجب عليه أن يأكل من الميتة، أو أن يشرب الخمر، أو نحو ذلك إذا خشي على نفسه الهلكة، وإلا فيكون متسبباً في قتل نفسه، ويأثم بذلك.
"وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً، كما قد يتوهمه كثير من العوام، وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقْلاً فشأنكم بها تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين[18]."

قوله: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا الاصطباح هو أكل الغداء، والاغتباق هو أكل العشاء، والمعنى إذا صرتم في حال تضطرون فيها إلى الميتة، حيث كانوا يأكلون في السابق وجبتين، في أول النهار وجبة، وفي آخره وجبة.
 قوله: ولم تحتفئوا بقلاً الاحتفاء بعضهم يقول: هو البُردي، والبردي - بضم الباء - هو التمر الجيد، ومنهم من يقول: إنه نبات من البقول، ويمكن أن يقال في المعنى العام: لم تأكلوا في أول نهاركم، ولا في آخره، ولم تجدوا بقلة تسد جوعتكم، ولم تجدوا إلا الميتة فعندئذ يباح لكم أكلها، هذا أوضح ما يفسر به - والله أعلم -.
"ومعنى قوله: ما لم تصطبحوا يعني به: الغداء، وما لم تغتبقوا يعني به: العشاء أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها فكلوا منها."

يعني لا تأكل ميتة، وقد أكلت الغداء، والعشاء، وإنما في حال العدم التام تباح لك الميتة بأن لم تأكل في أول النهار، ولا في آخره، ولم تجد بقلة تسد بها الجوع ففي هذه الحال تكون مضطراً.
"وقوله: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ [سورة المائدة:3] أي: متعاطٍ لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له."

الجَنَف هو الميل، كما قال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182].
"فإن الله قد أباح ذلك له، وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:173]، وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص لا تنال بالمعاصي - والله أعلم -."

على كل حال سبق الكلام على قوله: غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ [سورة البقرة:173].
ومن صور البغي، والعدوان في هذا أن يأكل الميتة من غير ضرورة، ومن صوره أن يأكل، وهو مستشرف النفس، أو وهو في حال من الفرح بذلك، والسرور به، أو أن يأكل فوق حاجته، أو أن يتفنن في صنع هذا الطعام - طعام الميتة - كحال الذي يستلذ بذلك، ويستمتع به، ويجد ذلك فرصة، إلا أن العلماء يختلفون في التفصيلات، نحو ما القدر الذي يجوز له أكله، وهل له أن يتزود، أو ليس له أن يتزود منها؟، وعلى كل حال الذي يجب عليه هو أن يأكل منها بالقدر الذي يبقي عليه حياته دون أن يأكل منها أكلاً مفرطاً كما يأكل الطيبات - والله أعلم -.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب الوضوء بماء البحر (83) (ج 1 / ص 31)، والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (69) (ج 1 / ص 100)، والنسائي في كتاب الطهارة - باب ماء البحر (59) (ج 1 / ص 50)، وابن ماجه في كتاب الطهارة، وسننها - باب الوضوء بماء البحر (386) (ج 1 / ص 136)، ومالك في كتاب الطهارة - باب الطهور للوضوء (60) (ج 2 / ص 29)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (480).
  2. سيأتي تخريجه.
  3. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة - باب الكبد، والطحال (3314) (ج 2 / ص 1102)، وأحمد (5723) (ج 2 / ص 97)، وصححه الألباني في السلسلة الصحية برقم (1118).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الشعر - باب تحريم اللعب بالنردشير (2260) (ج 4 / ص 1770).
  5. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب بيع الميتة، والأصنام (2121) (ج 2 / ص 779)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام (1581) (ج 3 / ص 1207).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب السؤال بأسماء الله تعالى، والاستعاذة بها (6962) (ج 6 / ص 2692)، ومسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الشركة -  باب قسمة الغنم (2356) (ج 2 / ص 881)، ومسلم في كتاب الأضاحي - باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن، والظفر، وسائر العظام (1968) (ج 3 / ص 1558). 
  8. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب من كبر في نواحي الكعبة (1524) (ج 2 / ص 580).
  9. أخرجه البخاري في أبواب التطوع - باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى (1109) (ج 1 / ص 391).
  10. سيأتي تخريجه.
  11. أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين، وأحكامهم - باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً (2812) (ج 4 / ص 2166).
  12. سبق تخريجه.
  13. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ج 7 / ص 88)، وهو مرسل فيه نكارة كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة (ج 35 / ص 782).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين (145) (ج 1 / ص 130).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب زيادة الإيمان، ونقصانه (45) (ج 1 / ص 25)، وأحمد (188) (ج 1 / ص 28).
  16. صحيح البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4330) (ج 4 / ص 1683).
  17. أخرجه أحمد (5866) (ج 2 / ص 108)، وابن حبان (2742) (ج 6 / ص 451)، وصححه الأرناؤوط، وقال: إسناده قوي.
  18. أخرجه أحمد (21948) (ج 5 / ص 218)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن بطرقه، وشواهده.

مرات الإستماع: 0

"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ تقدّم الكلام عليها في [البقرة: 173]".

مثل هذا سبق بأن الحكم، وهو التحريم، لا يتعلق بذوات، ففي قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ المراد: أكل الميتة، فالاقتضاء هنا شرعي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء: 23] يعني نكاح أمهاتكم، وهكذا.

ومضى الكلام على ما يُستثنى من الميتة، وكذلك الدم، وأن المقصود به: الدم المفسوح أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145] وما يتعلق بلحم الخنزير أن العرب تطلق ذلك، وتريد به اللحم بنوعيه الأبيض، والأحمر، يعني الشحم داخل فيه، وأن ذلك يدل أيضًا على أن جميع أجزاء الخنزير محرمة، باعتبار أن اللحم هو المقصود الأول.

"وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تُخنق بحبل، وشبهه".

أيًّا كان سبب الاختناق، كما لو أدخلت رأسها في موضعٍ ضيق، فاختنقت، أو كان ذلك بحبلٍ ضاق عليها فاختنقت، أو غير هذا فما أدى بها إلى انقطاع النفس، فهو داخلٌ فيه.

"وَالْمَوْقُوذَةُ هي المضروبة بعصا، أو حجر، وشبهه".

أصل الوقذ يدل على ضرب، وبعضهم يقيده، فيقول: الوقذ: ضربٍ بخشب، وعمومًا هو يقال للإيلام بالضرب، فالموقوذة يقول: "هي المضروبة بعصا، أو حجر، وشبهه" جاء في الصحيح عن عدي أنه قال: "يا رسول الله إني أرمي بالمعراض" والمعراض: هو السهم الذي لا ريش له، أو العصا التي رأسها محدد "فإذا أصابت برأسها، فإنها تفري، وتخزق، وإذا أصابت بعرضها فهو وقيذ" فالشاهد أنه سأل النبي ﷺ عن هذا، فقال: "إني أرمي بالمعراض الصيد، فأُصيب" قال: إذا رميت بالمعراض، فخزق، فكله، وإن أصابه بعرضه، فلا تأكله[1].

وذكر ابن كثير - رحمه الله - إجماع الفقهاء على ذلك[2] يعني إذا أصاب المعراض الصيد هكذا فلا يؤكل، وإذا أصابه هكذا برأسه فإنه يؤكل إذا خزق، ويدخل في الوقيذ، والموقوذة مثل: صيد الصبيان بالآلة التي يقال لها: نبالة، فيضع الحجر، ويرمي، فهذا، وقيذ لا يؤكل.

س: ...

لا، ليس مطلقًا، فإذا أصاب المعراض بعرضه، وبقوة الضرب، فأثَّر فيه، وخرج دم، لا يؤكل؛ لأنه وقيذ، وكما لو ضرب الدابة بحجر، ألقى عليها صخرة، فيخرج دم غالبًا، فهذه لا تؤكل، ولكن ما يصيبه بمثل الرمح برأسه، والسهم، أو يضرب الصيد بمثل السيف محدد، ونحو هذا، أما مثل الحجر، والخشب، والمعراض بعرضه، فمثل هذا يكون وقيذًا، ولو صدم الصيد بسيارة، فمات، فلا يؤكل، ولو خرج الدم، كأن يكون دهسه، فخرجت أحشاؤه، فلا يؤكل.

"وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي: التي تسقط من جبل، أو شبه ذلك".

المتردية هي التي تسقط من جبل، أو تسقط في بئر، وهذا فيما لم يُدرك فيه حياة، فإذا سقطت من سطح، أو سقطت في بئر، أو من مكانٍ مرتفع فهي متردية.

"وَالنَّطِيحَةُ هي: التي نطحتها بهيمةٌ أخرى".

 

وكما ذكر ابن كثير "وإن جرحها القرن، فخرج الدم، ولو من مذبحها"[3] ولو من مكان الذبح، كما لو نطحتها في رقبتها فأنهر الدم، فإنها لا تؤكل، أو نطحتها في بطنها، فشقت بطنها، فإنها لا تؤكل، وإن لم يخرج الدم، فمن باب أولى.

"وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ أي: أكل بعضه، والسبع كل حيوان مفترس: كالذئب، والأسد، والنمر، والثعلب، والعُقاب، والنسر".

ولماذا قال: "أكل بعضه"؟ قد يأكل الكل، لكن يقصد أن المعنى، والحكم يتعلق بما أبقى منه، فما حكم هذا الباقي؟ لا يجوز أن يؤكل، والسبع: الذئب، والأسد، والنمر، والثعلب، والعقاب، والنسر، ونحو ذلك، ولو سال منها الدم من مذبحها، فإن ذلك لا أثر له فيما أكله السبع، وهو غالبًا ما يأخذها من مذبحها، فهي لا تحل، وقد نقل على ذلك ابن كثير - رحمه الله - الإجماع[4] يعني لو وجدنا الذئب قد أخذ الشاة من رقبتها، فأنهر الدم، فلا يحل أكلها.

"إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ قيل: إنه استثناءٌ منقطع؛ وذلك إذا أريد بالمنخنقة، وأخواتها: ما مات من الاختناق، والوقذ، والتردية، والنطح، وأكل السبع، والمعنى: حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم من غيرها فهو حلال، وهذا قولٌ ضعيف؛ لأنها إن ماتت بهذه الأسباب فهي ميتة، فقد دخلت في عموم الميتة، فلا فائدة لذكرها بعدها، وقيل: إنه استثناء متصل؛ وذلك إن أريد بالمخنقة، وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب، وأُدركت ذكاته، والمعنى على هذا: إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال".

قوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني التذكية الشرعية، وتكون بقطع الأوداج، وإنهار الدم، مع ذكر اسم الله على الذبيحة، وأصل الذكاة: هي تمام الشيء، فإذا استوفي ذلك جميعًا، فهي ذكاةٌ شرعية.

وقوله: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ باعتبار أن الاستثناء منقطع يحتمل معنيين:

المعنى الأول: هو الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - أن قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ قال: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ يعني مما مات بهذه الأسباب، فيكون، ولكن إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ من الذبائح، يعني بعيدًا عن هذه المذكورات، وهذا بعيد.

والمعنى الثاني: في كون الاستثناء منقطع: أنَّ هذه المذكورات قد يبقى فيها رمق فلا تحل، ولكن إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ من غيرها من الذبائح، باعتبار أن الاستثناء غير متصل، ولكن ما ذكيتم من غيرها، بمعنى أنه يجد فيها رمقًا، فلا تحل له على قول بعض أهل العلم باعتبار أن الاستثناء هنا منقطع، فهي لا تحل لكم، ولو بقي فيها رمق، يعني جاء، ووجدها تلفظ أنفاسها هل تعمل فيها الذكاة فتبيحها لو ذكاها، أو لا؟ فبعض أهل العلم يقول: إنها لا تحل، ولو ذكاها؛ وهذا باعتبار أن الاستثناء متصل.

"وقيل: إنه استثناء متصل؛ وذلك إن أريد بالمخنقة" يعني إن أصابه شيء من هذا، وأدركت ذكاته، فالجمهور يقيدون ذلك بأن تكون فيه حياةٌ مستقرة.

"ثم اختلف أهل هذا القول هل يُشترط أن تكون لم تنفذ مقاتلها أم لا؟ وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق".

أي لو أنه أصابها هذا السبع في غير مقتل فأُدركت ذكاتها، وذُكيت فلا شك أن هذا حلال بالاتفاق، لكن لو أنه أصابها بمقتل كأن يكون قد نهش نحرها، فسالت دماؤها كالمذكاة، كما هو الغالب فهو يفعل هذا، ثم بقي فيها رمق، وهي تلفظ أنفاسها، ولم تمت بعد، فهل تؤثر فيها الذكاة؟ فهذا الذي أشرت إليه عند حمل ذلك الاستثناء على أنه منقطع، فإذا قيل: هذا لا يحل إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ يعني مما لم تُصب مقاتله، فيكون الاستثناء منقطعًا، إذا حُمِل على هذا المعنى، لكن ما ذكيتم من غيرها أما هذه فلا تحل، وهذا على قول بعض أهل العلم.

وبعضهم يُطلق فيقول: إنه طالما أدركها، وفيها حياة فإذا ذكاها فإنها تحل، باعتبار الإطلاق إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فـمَا تفيد العموم، لكن الذين يمنعون من هذا في ما أصيب في مقتل، يقولون مثل هذه هي في حكم من مات، فالذكاة لا تؤثر فيها، ولكن هذا على كل حال يحتاج إلى تأمل، ونظر، فليس بهذا الإطلاق، بمجرد أنها أصيبت بمقتل يقال: لا تعمل فيها الذكاة! ولكن الجمهور يقيدونه بالحياة المستقرة.

وجاء عن ابن عباس - ا - : "إلا ما ذبحتم من هؤلاء، وفيه روح، فكلوه، فهو ذكي"[5] أي: طالما أن الروح لم تخرج، فإن الذكاة تعمل فيه، وهذا الذي يدل عليه ظاهر الآية، ومن حملوها على غير هذا، فتوجيهه ما ذكرت، وهذا الذي اختاره أيضًا ابن جرير[6] طالما أن الروح لم تفارق الجسد، ولو كان مجرد رمق، فإن الذكاة تنفع، وتعمل، وتؤثر، ويحل أكلها، وهذا مروي عن جماعة من السلف؛ كسعيد بن جبير، والحسن، والسدي[7].

وجاء عن علي : "إذا أدركت ذكاة الموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وهي تحرك يدًا، أو رجلاً، فكلها"[8] وهذا مروي عن جماعة؛ كطاووس، والحسن، وقتادة، وعبيد بن عمير، والضحاك[9].

"وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ عطفٌ على المحرمات المذكورة، والنصب: حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها، ويذبحون عليها، وليست بالأصنام؛ لأن الأصنام مصوّرةٌ، والنصب غير مصوّرة، وهي الأنصاب، والمفرد: نصاب، وقد قيل: إن النصب بضمتين مفردٌ، وجمعه: أنصاب".

في قوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بعضهم يقول: إن عَلَى هنا بمعنى: اللام، يعني للنصب، وهذا إذا فُسِّرت بالأصنام، يعني: ما ذُبح للأصنام؛ تقربًا إليها؛ ولهذا بعضهم يفسر النصب بالأصنام.

وبعضهم يفرق بينها، وبين الأصنام باعتبار أن النصب حجارة كانوا يذبحون عندها، أو يذبحون عليها؛ تقربًا لأصنامهم، فهي مواضع للذبح عندهم، وهذا كما سبق في أخبار العرب، أنه كانت لهم مواضع معينة، كما جاء أن رجلاً على عهد رسول الله ﷺ نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي ﷺ فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي ﷺ : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال رسول الله ﷺ : أوف بنذرك، فإنه لا، وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم[10].

يقول: "والنصب: حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها، ويذبحون عليها" وهذا الذي اختاره ابن جرير[11] وجاء عن مجاهد، وابن جريج أن النصب: حجارة كانت حول الكعبة[12] والفرق بينها، وبين الأصنام ما ذُكر من أن الأصنام مصورة، وتماثيل، والنصب حجارة، كما قال الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصَابُ والْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90].

"والمفرد: نصاب، وقد قيل: إن النصب بضمتين مفرد، وجمعه: أنصاب" نصب، واحد، وأنصاب جمع، هذا على قول، وبعضهم يقول بأن النصب جمع، ومفرده: نصيب، وأصل هذه المادة: نصب يدل على إقامة شيء كأنه منصوب.

"وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ عطفٌ على المحرمات أيضًا، والاستقسام: هو طلب ما قُسِمَ له".

كأن ما مأخوذ من القسم، وهو النصيب، أي طلب النصيب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ يعني يحرم عليكم الاستقسام بالأزلام "والاستقسام: هو طلب ما قُسِمَ له" وهو الميسر الذي كان في الجاهلية، وهذه الأزلام: وهي السهام.

"والأزلام: هي السهام، واحدها: زُلم".

زُلم، ويقال: زَلَم أيضًا، زَلمٌ، وزُلمٌ، بضم الزاي، وفتحها.

"واحدها: زُلم، بضم الزاي، وفتحها، وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، والثالث: مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطةٍ، وأدخل يده، وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه (افعل) فعل ما أراد، وإن خرج له الذي فيه (لا تفعل) تركه، وإن خرج (المهمل) أعاد الضرب".

وهذا لهم فيه تفاصيل، وهذا الرجل الذي يقوم بهذا له اسم، والخريطة مثل الكيس تكون فيه هذه القداح، وهي القداح الميسر، ويسمونها سهام العرب، فإذا أراد أحدهم أن يتزوج، أو يسافر، أو أن يفعل شيئًا منها فعل ذلك، ولهم فيه عادات، ومزاولات محددة، ومعينة، ومعروفة في الجاهلية، وربما اشترك في البدنة، والناقة عشرة، ثم يستهمون، ومن لا يخرج له شيء من السهام يكون ثمنها عليه، ولا يقتسم معهم اللحم، لكن ما كانوا يقتسمونه لهم، وإنما كانوا يعطونه الفقراء، ومع أنهم يعطونه الفقراء، إلا أن الله حرَّم ذلك، وقرنه بالأنصاب، والخمر إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والْأَنْصَابُ والْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ مع أنهم كانوا يفعلون ذلك من أجل المحتاجين.

"ذَلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما حرمه الله، وجعله فسقًا: لأنه دخولٌ في علم الغيب، الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة، وغيرها مما يُرام به الاطلاع على الغيوب".

الفسق معروف: وهو الخروج عن طاعة الله .

"الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي: يئسوا أن يغلبوه، أو يبطلوه".

الْيَوْمَ يحتمل أن يُراد به يوم نزول الآية، ويحتمل أن يكون المراد به: الزمان الحاضر، وما يتصل به من غير قصد ليومٍ معين، مثل ما تقول: اليوم جاوز الإسلام القنطرة، ولا تقصد هذا اليوم، وإنما تقصد في هذا الزمن، أو في هذا العصر، أو في هذا الوقت، أو نحو ذلك.

"أن يغلبوه، أو يبطلوه" فبعضهم يقول: يئسوا من رجوعكم عنه، وقد جاء عن ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والسدي، ومقاتل نحو هذا[13] كما في الحديث: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب[14] ويحتمل يئسوا من مشابهة المسلمين؛ لأن المسلمين تميزوا عن أهل الإشراك، ولكن هذا فيه بُعد. 

وكأن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن المراد: يئسوا من دينكم؛ يعني من إبطاله، وكبْته، وتعميته، وما ذُكر هنا من رجوعكم عنه يمكن أن يكون من لوازم هذا المعنى، يئسوا من دينكم، لذا قال المنافقون بعد غزوة بدر كما قال ابن أبي: "هذا الأمر قد توجه"[15] فأمر أصحابه أن يدخلوا فيه ظاهرًا، فنجم النفاق.

"أي: يئسوا أن يغلبوه، أو يبطلوه، ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة، يوم عرفة، في حجة الوداع".

"نزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة" أي هذه الآية: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ وجاء عن ابن جريج قال: "وقال آخرون: ذلك في يوم عرفة يوم الجمعة، لما نظر النبي ﷺ فلم ير إلا موحدًا، ولم ير مشركًا حمد الله، فنزل عليه جبريل : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يعودوا كما كانوا[16] فهذه الرواية لا تصح، ولا يصح أن ذلك هو سبب النزول، لكن قوله - تبارك، وتعالى - : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] جاء عن عمر أنها نزلت في يوم عرفة، في يوم عيد، وعرفة يوم عيد مكاني، وزماني، ويوم النحر يوم عيد زماني، ويوم الفطر يوم عيد زماني.

"فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه، وكثرة المسلمين، ويحتمل: أن يكون المراد باليوم: الزمان الحاضر، لا اليوم بعينه.

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر، والظهور، أو بتعليم الشرائع، وبيان الحلال، والحرام".

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ "يحتمل أن يكون بالنصر، والظهور، أو بتعليم الشرائع، وبيان الحلال، والحرام" وسبق ذكر كلام ابن جرير في بعض المناسبات في المراد بإكمال الدين، وأن الكثير من العامة يظن أن هذه آخر آية نزلت، لا يتصور نزول شيء بعدها، وهذا الكلام غير صحيح، فليست هي آخر آية نزلت.

وأما إكمال الدين فكما قال ابن جرير - رحمه الله - بأن الله أخبر نبيه ﷺ والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه ﷺ دينهم، بإفرادهم بالبيت الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطهم المشركون، فأما الفرائض، والأحكام فإنه قد اختُلف فيها هل كانت أُكملت ذلك اليوم أم لا؟ إلى أن قال: "ولا يدفع ذو علمٍ أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله ﷺ إلى أن قُبِض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا، فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء: 176] آخرها نزولاً - آية النساء - وكان ذلك من الأحكام، والفرائض كان معلومًا أن معنى قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله أعني: كمال العبادات، والأحكام، والفرائض"[17] فابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن إكمال الدين بإكمال دعائمه العظام، وأصوله الكبار، وكان آخر ذلك الحج.

وأما إتمام النعمة، فابن جرير يحمل ذلك على إقرارهم في البيت الحرام من غير أن يشاركهم، أو يخالطهم أحدٌ من المشركين، يعني أنهم انفردوا بالبيت الحرام، فهذا من إتمام النعمة عليهم، والجمهور كما نقل ابن عطية حملوا إكمال الدين على إظهاره، واستيعاب عظم الفرائض، والتحليل، والتحريم، يعني عامة شرائع الدين[18].

قال: "وقد نزل بعد ذلك قرآنٌ كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك"[19] فهذه بعد آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فآخر ما نزل هذه الآيات الثلاث: الربا، ووَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] وآية الدين، وأما ما يتعلق بالمواريث فآية الكلالة.

وذكر ابن رجب - رحمه الله - أيضًا من، وجوه إكمال الدين: أن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك، ولا أحدٌ منهم، يقول: هذا قول أكثر العلماء، أو كثير منهم، فكمل بذلك دينهم؛ لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ومنها: أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم ونفى الشرك، وأهله، فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد.

ثم فسر أيضًا إتمام النعمة بالمغفرة، فلا تتم النعمة بدونها[20] كما قال لنبيه ﷺ : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 2] وقال في آية الوضوء: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة: 6].

لكن فيما يتعلق بنزولها بيوم عرفة، فقد جاء عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة يوم جمعة"[21] وهذا مخرجٌ في الصحيحين، فهذا الذي ذكره هؤلاء من أهل العلم: إكمال الدين بإكمال شرائعه العظام، ومنها الحج، هو المعنى الأقرب - والله تعالى أعلم -.

"فَمَنِ اضْطُرَّ راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا، أباحها الله عند الاضطرار".

يعني سواءً كانت ميتة، أو ما ذُكر مما في حكمها من الموقوذة، وسائر المحرمات.

"فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة".

هذا مشتق من خمص البطن؛ وهو ضمور البطن، فأصل ذلك يدل على ضمور مَخْمَصَةٍ يعني مجاعةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ يعني مائل إلى الإثم، كالذي يأكل من غير ضرورة، أو يأكل فوق حاجته على القول بأنه إنما يأكل بقدر ما يبقي مهجته، أو كالذي يتزود، أو يبدر منه ما يدل على غبطةٍ بذلك، كالذي يتصنع كثيرًا مثلاً في الميتات، وطهيها، أو يأكل أكل محب مغتبط، أو يشرب الخمر لدفع غصةٍ شرب من يلتذ بذلك، ويشرب فوق حاجته، ونحو هذا.

والفقهاء يقولون: لا يشرب من أجل دفع العطش، لو أشفى على الهلكة لا يشرب الخمر؛ لأنها تزيده عطشًا، لكن المثال الصحيح أنه يشرب لدفع غصة، ونحو هذا، وبعض أهل العلم يحمل هذا على من كان في سفر محرم؛ كقطع الطريق، ونحو هذا.

وأصل الجنف: الميل الظاهر، والعدول عن الحق فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 115].

"غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى: غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ وقد تقدم في البقرة.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قام مقام فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وتضمن زيادة الوعد".

الوعد بالمغفرة، والرحمة، فإن ختم هذه الأحكام، أو الآيات بهذه الأسماء الحسنى له دلالة؛ وهي: أن الله يغفر له، فيتجاوز، ويرحم، كما أن هذه التوسعة التي وسعها الله على عباده في حال الاضطرار هو من رحمته بهم. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة برقم: (1929).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/18).
  3.  المصدر السابق (3/22).
  4.  المصدر السابق (3/22).
  5.  المصدر السابق (3/22).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/506).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/22).
  8. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/503).
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/22).
  10.  أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان، والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر برقم: (3313)، وصححه الألباني.
  11.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/508).
  12. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/23).
  13.  المصدر السابق (3/25).
  14.  أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة، والجنة، والنار، باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قرينًا برقم: (2812).
  15.  دلائل النبوة للبيهقي محققا (2/578).
  16.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/516).
  17.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/520 - 521).
  18.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/154).
  19.  المصدر السابق (2/154).
  20.  تفسير ابن رجب الحنبلي (1/384).
  21.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان، ونقصانه برقم: (45)، ومسلم في كتاب الإيمان، برقم: (3017).