لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه، أو في دينه، أو فيهما، استثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [سورة الأنعام:119] قال بعدها: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [سورة المائدة:4] كما في سورة الأعراف في صفة محمد ﷺ أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث.
وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق، وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: "ليس هو من الطيبات" [رواه ابن أبي حاتم]."
فقوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الطيبات يمكن أن يقال هي كل ما يستلذ من الحلال، أو كل حلال مباح من المطعومات فهو من جملة الطيبات، وإن لم نقيده بالمستلذ، إلا أن بعض العلماء يذكر هذا القيد - أعني الاستلذاذ -، وإن لم يكن له أثر في الحل، والحرمة، وإنما ذكروا هذا نظراً لمعنى الطيبات، بمعنى أنه يطيب لهم تعاطيها، وتناولها، وما أشبه ذلك.
وهذا الأثر عن الزهري لما سئل عن شرب البول للتداوي، يقال فيه: أصلاً لا يجوز تعاطي النجاسات، أعني أن هذا الجواب صحيح، فالبول ليس من الطيبات، وإنما هو من النجاسات، والنجاسات لا يجوز لأحد أن يتعاطاها، ولو كان على سبيل التداوي كالدم، والبول، وما أشبه ذلك مما كانت نجاسته حسية، أو كانت نجاسته معنوية كالخمر، ثم إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
يعني أن من أهل العلم من خص ذلك بالكلاب، وقال: لا يجوز ما صاده غيرها من الطيور الجوارح الكواسر، وهذا غير صحيح، فهم نظروا إلى لفظة مُكَلِّبِينَ، وقالوا: إن الذي يباح إنما هو ما صادته الكلاب، وبالنسبة لما صادته الصقور، وما أشبه ذلك فيقولون: إن أدركه حياً فذكاه حلَّ، وهذا على التفصيل الذي سبق في المتردية، والنطيحة، والموقوذة، وما أكل السبع إلى آخره، وعلى كل حال من يقول: إن ذلك يختص بالكلاب يقول: ما صاده غيرها إن جرحته فمات فإنه لا يحل، وإن أدركه حياً فذكاه حل، لكن قول الجمهور هو الراجح، وهو أنه لا فرق بين الكلاب، والفهود، والطيور، وغير ذلك مما يُعلَّم الصيد، فكل ذلك يحل صيده.
قلت: والمحكي عن الجمهور: إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب؛ لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق، كما رواه ابن جرير عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فكل[1].
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح، وهو الكسب كما تقول العرب: فلان جَرح أهله خيراً أي: كسبهم خيراً."
يعني ليس من الجرح الذي هو الكلم، والجراحة، وإنما معناه الاكتساب كما قال تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [سورة الجاثية:21] أي: اكتسبوا السيئات.
وقوله تعالى: مُكَلِّبِينَ [سورة المائدة:4] يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في عَلَّمْتُم فيكون حالاً من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول، وهو الْجَوَارِحِ أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها، أو أظفارها فيستدل بذلك، والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه، وظفره أنه لا يحل له."
في قوله: مُكَلِّبِينَ قال: "يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في عَلَّمْتُم [سورة المائدة:4]"، والمكلِّب في الأصل هو المعلم للكلاب، والتكليب هو التعليم.
الحافظ ابن كثير هنا ذكر احتمالين للفظة مكلبين، الأول: أن يكون حالاًِ من الضمير في عَلَّمْتُم أي علمتم حال كونكم مكلِّبين، وهنا جاء قوله: مكلبين بعد قوله: وما علمتم، فإذا كان التكليب هو التعليم فالإعادة تكون تأكيداً هكذا: وما علمتم من الجوارح معلمين.
وبالنسبة لعبارة ابن جرير في تفسير هذه الجملة من الآية فإنه يقول فيها: حال كونكم أصحاب كلاب، وعلى كل حال هذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره هنا في معنى مكلبين، قال: يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في علمتم، فيكون حالاً من الفاعل، أي علمتم حال كونكم مكلبين، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول، وهو الجوارح، أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد، وعلى الاحتمال الثاني يكون معنى مكلبات أي ممسكات، وليس معلمات.
العلماء - رحمهم الله - ذكروا علامات يعرف بها أن هذا معلم أو غير معلم، ومن ذلك أنه إذا أمسك لا يأكل من الصيد، وإذا أرسله ذهب، وإذا جاء إليه لم ينفر منه، وإذا أشار إليه أو طلب منه أن يرتفع عن الصيد ارتفع، فهو مستجيب له في كل حال، فهذا هو المعلم الذي يحل أكل ما صاده.
هذا الكلام صحيح، لكن الكلام فيما إذا أدركته قبل أن يموت هل يجب عليك تذكيته أم لا؟ وكذلك هنا في قوله: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:4] أخذ منه بعض الفقهاء - رحمهم الله - أنه إن ذهب من تلقاء نفسه، وصاد فإنه لا يحل؛ لأن الله قال: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:4] فهذا يحتاج إلى نظر، ومناقشة؛ لأن الأصل أنه إن أمسكه لك بمعنى أنه لم يأكل منه فإنه يحل، فلو أنه رأى صيداً، فانطلق، فصاده، ووقف عليه ينتظر مجيئك، فمثل هذا أمسك الصيد عليك، ولم يمسكه لنفسه فهذا يحل، إذاً لا يشترط أن ترسله، لكن يبقى الكلام في التسمية؛ لأن الراجح من كلام أهل العلم كما يدل عليه حديث عدي بن حاتم أن التسمية ليس المقصود بها كما يقول بعض أهل العلم عند الأكل، وإنما المقصود أن تذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإذا انطلق من نفسه، ولم تذكر اسم الله عليه؛ فإنه لا يحل بهذا الاعتبار، وليس لأنه انطلق من نفسه.
والفقهاء يتكلمون في تفاصيل دقيقة جداً من المسائل المتعلقة بهذا مثل ما إذا أرسله، وسمى عليه فصاد صيداً آخر غير الذي أرسله له، فهل يحل أم لا يحل؟ ومن ذلك إذا رمى صيداً فنفذ منه، وأصاب صيداً آخر فهل يحل الآخر أم لا يحل؟ وهكذا توجد مسائل كثيرة متعلقة بهذا الأمر، ومن أراد أن ينظر إلى التفاصيل الدقيقة الكثيرة التي يصعب حصرها، فلينظر - على سبيل المثال - في كتاب اسمه "منية الصيادين لابن ملك"، وهو مجلد لطيف صغير لكنه حوى أشياء كثيرة جداً في هذا الباب.
هذا يدل على أن التسمية تكون عند إرساله الكلب المعلم، وليس المقصود عند الأكل.
لو أنه شاركها كلب يصطاد بنفسه فلا تحل، لكن لو أنك أرسلت كلبك، وآخر أرسل كلبه المعلم، فعدى عليه هذا، وعدى عليه هذا، فإنه يحل، ولا إشكال في هذا.
قوله: فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه الأصل أن الأمر للوجوب، أي أنه يذكى إن أدركه حياً لكن لو أدركه، وهو يتشحط في الرمق الأخير، ولم يتمكن من تذكيته؛ لأنه يحتاج أن يأتي بمدية، ونحو ذلك فمات فإنه يحل؛ لأنه في حكم الذي قتله الكلب - والله أعلم -.
وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله[6].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج."
قوله: "وإن نسيت فلا حرج" هذا باعتبار أن النسيان عذر، وأنه سقط به هذا الواجب، ولكن على كل حال إذا بقينا مع ظواهر النصوص فإن التسمية واجبة، وهي شرط في حله فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، ولذلك لا يحل، ولو ترك ذلك نسياناً، والمسألة خلافية سواء في التذكية، أو في الصيد.
هذه مسألة أخرى ليس لها علاقة بموضوع الصيد، أي حتى لو أكل تمراً، فإنه يسمي الله، ويأكل بيمينه فليس هذا مما يتعلق بالآية، ولهذا نقول: إن تفسير القرآن بالسنة يدخله الاجتهاد من هذا الوجه، وليس من جهة أن النبي ﷺ قد يفسر آية، ويكون مجتهداً، ويحصل الخطأ، ولكن فيما لم يتعرض به النبي ﷺ للآية مثل هذا الحديث: سم الله، وكل بيمينك فيأتي المفسر، ويربط بين الآية، والحديث، ويفسر الآية بالحديث فيخطئ؛ لأنه لا يكون بينهما ارتباط، فقوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] لا يفسر بقوله - عليه الصلاة، والسلام -: سم الله، وكل بيمينك، ومن فسر الآية به فإنه يكون من قبيل الخطأ، وإن كان من جنس تفسير القرآن بالسنة، لكن تفسيرها بحديث عدي بن حاتم صحيح مع أن الحديث ليس فيه تعرض للآية، لكن وجهه ظاهر.
إذا علم أنهم يذكرون اسم المسيح عليها أو اسم معبوداتهم فإنها لا تحل، لكن هنا لا نعلم هل ذكروا اسم الله عليها أم لا، وهم قوم في الأصل تباح ذبائحهم؛ لأنهم أهل كتاب فنأكل منها، وهذا الكلام عن التسمية، وليس في كونها مذكاة، أو ليست بمذكاة - والله أعلم -.
- أخرجه الترمذي في كتاب الصيد - باب ما جاء في صيد البزاة (1467) (ج 4 / ص 66).
- أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (173) (ج 1 / ص 76) وفي كتاب الذبائح والصيد - باب صيد المعراض (5159) (ج 5 / ص 2086) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب صيد المعراض (5159) (ج 5 / ص 2086) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب ما جاء في التصيد (5169) (ج 58 / ص 2090) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (173) (ج 1 / ص 76) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- لفظ مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
- أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة - باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5061) (ج 5 / ص 2056) ومسلم في كتاب الأشربة - باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022) (ج 3 / ص 1599).
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات (1952) (ج 2 / ص 726).