السبت 02 / محرّم / 1447 - 28 / يونيو 2025
يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَكُلُوا۟ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُوا۟ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة المائدة:4].
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه، أو في دينه، أو فيهما، استثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [سورة الأنعام:119] قال بعدها: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [سورة المائدة:4] كما في سورة الأعراف في صفة محمد ﷺ أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث.
وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق، وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: "ليس هو من الطيبات" [رواه ابن أبي حاتم]."

فقوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الطيبات يمكن أن يقال هي كل ما يستلذ من الحلال، أو كل حلال مباح من المطعومات فهو من جملة الطيبات، وإن لم نقيده بالمستلذ، إلا أن بعض العلماء يذكر هذا القيد - أعني الاستلذاذ -، وإن لم يكن له أثر في الحل، والحرمة، وإنما ذكروا هذا نظراً لمعنى الطيبات، بمعنى أنه يطيب لهم تعاطيها، وتناولها، وما أشبه ذلك.
وهذا الأثر عن الزهري لما سئل عن شرب البول للتداوي، يقال فيه: أصلاً لا يجوز تعاطي النجاسات، أعني أن هذا الجواب صحيح، فالبول ليس من الطيبات، وإنما هو من النجاسات، والنجاسات لا يجوز لأحد أن يتعاطاها، ولو كان على سبيل التداوي كالدم، والبول، وما أشبه ذلك مما كانت نجاسته حسية، أو كانت نجاسته معنوية كالخمر، ثم إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
"وقوله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [سورة المائدة:4] أي: أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها، والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي من الكلاب، والفهود، والصقور، وأشباهها، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، والأئمة، وممن قال ذلك: علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - ا - في قوله: وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [سورة المائدة:4]، وهن الكلاب المعلمة، والبازي، وكل طير يعلم للصيد، والجوارح: يعني الكلاب الضواري، والفهود، والصقور، وأشباهها [رواه ابن أبى حاتم:]."

يعني أن من أهل العلم من خص ذلك بالكلاب، وقال: لا يجوز ما صاده غيرها من الطيور الجوارح الكواسر، وهذا غير صحيح، فهم نظروا إلى لفظة مُكَلِّبِينَ، وقالوا: إن الذي يباح إنما هو ما صادته الكلاب، وبالنسبة لما صادته الصقور، وما أشبه ذلك فيقولون: إن أدركه حياً فذكاه حلَّ، وهذا على التفصيل الذي سبق في المتردية، والنطيحة، والموقوذة، وما أكل السبع إلى آخره، وعلى كل حال من يقول: إن ذلك يختص بالكلاب يقول: ما صاده غيرها إن جرحته فمات فإنه لا يحل، وإن أدركه حياً فذكاه حل، لكن قول الجمهور هو الراجح، وهو أنه لا فرق بين الكلاب، والفهود، والطيور، وغير ذلك مما يُعلَّم الصيد، فكل ذلك يحل صيده.
"ثم قال: وروي عن خيثمة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول، ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك، ثم روى ابن جرير عن ابن عمر - ا - قال: أما ما صاد من الطير البازات، وغيرها من الطير، فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه.
قلت: والمحكي عن الجمهور: إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب؛ لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق، كما رواه ابن جرير عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فكل[1].
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح، وهو الكسب كما تقول العرب: فلان جَرح أهله خيراً أي: كسبهم خيراً."

يعني ليس من الجرح الذي هو الكلم، والجراحة، وإنما معناه الاكتساب كما قال تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [سورة الجاثية:21] أي: اكتسبوا السيئات.
"ويقولون: فلان لا جارح له أي: لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] أي: ما كسبتم من خير، وشر.
وقوله تعالى: مُكَلِّبِينَ [سورة المائدة:4] يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في عَلَّمْتُم فيكون حالاً من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول، وهو الْجَوَارِحِ أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد، وذلك أن تقتنصه بمخالبها، أو أظفارها فيستدل بذلك، والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه، وظفره أنه لا يحل له."

في قوله: مُكَلِّبِينَ قال: "يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في عَلَّمْتُم [سورة المائدة:4]"، والمكلِّب في الأصل هو المعلم للكلاب، والتكليب هو التعليم.
الحافظ ابن كثير هنا ذكر احتمالين للفظة مكلبين، الأول: أن يكون حالاًِ من الضمير في عَلَّمْتُم أي علمتم حال كونكم مكلِّبين، وهنا جاء قوله: مكلبين بعد قوله: وما علمتم، فإذا كان التكليب هو التعليم فالإعادة تكون تأكيداً هكذا: وما علمتم من الجوارح معلمين.
وبالنسبة لعبارة ابن جرير في تفسير هذه الجملة من الآية فإنه يقول فيها: حال كونكم أصحاب كلاب، وعلى كل حال هذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره هنا في معنى مكلبين، قال: يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في علمتم، فيكون حالاً من الفاعل، أي علمتم حال كونكم مكلبين، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول، وهو الجوارح، أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد، وعلى الاحتمال الثاني يكون معنى مكلبات أي ممسكات، وليس معلمات.
"فيستدل بذلك، والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه، وظفره أنه لا يحل له، ولهذا قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ [سورة المائدة:4]، وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه؛، ولهذا قال تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4]."

العلماء - رحمهم الله - ذكروا علامات يعرف بها أن هذا معلم أو غير معلم، ومن ذلك أنه إذا أمسك لا يأكل من الصيد، وإذا أرسله ذهب، وإذا جاء إليه لم ينفر منه، وإذا أشار إليه أو طلب منه أن يرتفع عن الصيد ارتفع، فهو مستجيب له في كل حال، فهذا هو المعلم الذي يحل أكل ما صاده.
"فمتى كان الجارح معلماً، وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه، وقت إرساله حلَّ الصيد، وإن قتله بالإجماع."

هذا الكلام صحيح، لكن الكلام فيما إذا أدركته قبل أن يموت هل يجب عليك تذكيته أم لا؟ وكذلك هنا في قوله: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:4] أخذ منه بعض الفقهاء - رحمهم الله - أنه إن ذهب من تلقاء نفسه، وصاد فإنه لا يحل؛ لأن الله قال: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:4] فهذا يحتاج إلى نظر، ومناقشة؛ لأن الأصل أنه إن أمسكه لك بمعنى أنه لم يأكل منه فإنه يحل، فلو أنه رأى صيداً، فانطلق، فصاده، ووقف عليه ينتظر مجيئك، فمثل هذا أمسك الصيد عليك، ولم يمسكه لنفسه فهذا يحل، إذاً لا يشترط أن ترسله، لكن يبقى الكلام في التسمية؛ لأن الراجح من كلام أهل العلم كما يدل عليه حديث عدي بن حاتم أن التسمية ليس المقصود بها كما يقول بعض أهل العلم عند الأكل، وإنما المقصود أن تذكر اسم الله عليه عند إرساله، فإذا انطلق من نفسه، ولم تذكر اسم الله عليه؛ فإنه لا يحل بهذا الاعتبار، وليس لأنه انطلق من نفسه.
والفقهاء يتكلمون في تفاصيل دقيقة جداً من المسائل المتعلقة بهذا مثل ما إذا أرسله، وسمى عليه فصاد صيداً آخر غير الذي أرسله له، فهل يحل أم لا يحل؟ ومن ذلك إذا رمى صيداً فنفذ منه، وأصاب صيداً آخر فهل يحل الآخر أم لا يحل؟ وهكذا توجد مسائل كثيرة متعلقة بهذا الأمر، ومن أراد أن ينظر إلى التفاصيل الدقيقة الكثيرة التي يصعب حصرها، فلينظر - على سبيل المثال - في كتاب اسمه "منية الصيادين لابن ملك"، وهو مجلد لطيف صغير لكنه حوى أشياء كثيرة جداً في هذا الباب.
"وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة، وأذكر اسم الله، فقال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك..."

هذا يدل على أن التسمية تكون عند إرساله الكلب المعلم، وليس المقصود عند الأكل.
"قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره..."

لو أنه شاركها كلب يصطاد بنفسه فلا تحل، لكن لو أنك أرسلت كلبك، وآخر أرسل كلبه المعلم، فعدى عليه هذا، وعدى عليه هذا، فإنه يحل، ولا إشكال في هذا.
"قلت له: فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد، فأصيب؟ فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه، وقيذ فلا تأكله[2]، وفي لفظ لهما: وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه فكله، فإنّ أخْذَ الكلب ذكاته[3]، وفي رواية لهما: فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه[4]."

قوله: فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه الأصل أن الأمر للوجوب، أي أنه يذكى إن أدركه حياً لكن لو أدركه، وهو يتشحط في الرمق الأخير، ولم يتمكن من تذكيته؛ لأنه يحتاج أن يأتي بمدية، ونحو ذلك فمات فإنه يحل؛ لأنه في حكم الذي قتله الكلب - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] أي: عند إرساله له، كما قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم : إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك[5].
وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله[6].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج."

قوله: "وإن نسيت فلا حرج" هذا باعتبار أن النسيان عذر، وأنه سقط به هذا الواجب، ولكن على كل حال إذا بقينا مع ظواهر النصوص فإن التسمية واجبة، وهي شرط في حله فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، ولذلك لا يحل، ولو ترك ذلك نسياناً، والمسألة خلافية سواء في التذكية، أو في الصيد.
"وقيل: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل."
هذا قال به بعض السلف، واختاره القرطبي - رحمه الله - في التفسير لكنه بعيد، فالسنة تفسر بالقرآن، وظاهر القرآن: وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] أي أن هذا عند إرساله، والحديث صريح، وواضح لا يحتمل التأويل في هذا، وهي مفسرة لهذه الآية.
"كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ علَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال: سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك[7]."

هذه مسألة أخرى ليس لها علاقة بموضوع الصيد، أي حتى لو أكل تمراً، فإنه يسمي الله، ويأكل بيمينه فليس هذا مما يتعلق بالآية، ولهذا نقول: إن تفسير القرآن بالسنة يدخله الاجتهاد من هذا الوجه، وليس من جهة أن النبي ﷺ قد يفسر آية، ويكون مجتهداً، ويحصل الخطأ، ولكن فيما لم يتعرض به النبي ﷺ للآية مثل هذا الحديث: سم الله، وكل بيمينك فيأتي المفسر، ويربط بين الآية، والحديث، ويفسر الآية بالحديث فيخطئ؛ لأنه لا يكون بينهما ارتباط، فقوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4] لا يفسر بقوله - عليه الصلاة، والسلام -: سم الله، وكل بيمينك، ومن فسر الآية به فإنه يكون من قبيل الخطأ، وإن كان من جنس تفسير القرآن بالسنة، لكن تفسيرها بحديث عدي بن حاتم صحيح مع أن الحديث ليس فيه تعرض للآية، لكن وجهه ظاهر.
"وفي صحيح البخاري عن عائشة - ا - أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا - حديثٌ عهدهم بكفر - بلحمانٍ لا ندري أذُكِر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم، وكلوا[8]."

إذا علم أنهم يذكرون اسم المسيح عليها أو اسم معبوداتهم فإنها لا تحل، لكن هنا لا نعلم هل ذكروا اسم الله عليها أم لا، وهم قوم في الأصل تباح ذبائحهم؛ لأنهم أهل كتاب فنأكل منها، وهذا الكلام عن التسمية، وليس في كونها مذكاة، أو ليست بمذكاة - والله أعلم -.
  1. أخرجه الترمذي في كتاب الصيد - باب ما جاء في صيد البزاة (1467) (ج 4 / ص 66).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (173) (ج 1 / ص 76) وفي كتاب الذبائح والصيد - باب صيد المعراض (5159) (ج 5 / ص 2086) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب صيد المعراض (5159) (ج 5 / ص 2086) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب ما جاء في التصيد (5169) (ج 58 / ص 2090) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (173) (ج 1 / ص 76) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  6. لفظ مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة -  باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5061) (ج 5 / ص 2056) ومسلم في كتاب الأشربة - باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022) (ج 3 / ص 1599).
  8. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات (1952) (ج 2 /  ص 726).

مرات الإستماع: 0

"يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ سببها: أن المسلمين سألوا رسول الله ﷺ عما يحل لهم من المأكل؟

وقيل: لما أمر رسول الله ﷺ بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟ فنزلت مبينةً للصيد بالكلاب".

يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قال: "سببها: أن المسلمين سألوا رسول الله ﷺ عما يحل لهم من المأكل؟" كما جاء عن عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل أنهما سألا رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله: قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت الآية[1] بسبب سؤال عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل الطائيين، ولكن هذه الرواية لا تخلو من ضعفٍ في إسنادها، فلا يصح ذلك في سبب النزول.

وجاء عند أحمد من حديث أبي واقد: أنهم قالوا: يا رسول الله: إنا بأرضٍ تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا والاصطباح: الغداء ولم تغتبقوا يعني: العشاء ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها[2] يعني إذا صرتم إلى حالٍ من الجوع لم تجدوا شيئًا، لا في أول النهار، ولا في آخره، ولم تجدوا مندوحةً عنها بما يدفع الضرورة، فشأنكم بها، هذا قال عنه ابن كثير: "إسناده صحيح على شرط الصحيحين"[3] وفسره أبو عبيد القاسم بن سلام: بأنه ليس لكم أن تصطبحوا، وتغتبقوا، وتجمعوهما مع الميتة[4] بمعنى: أنكم لا تأخذون فوق الحاجة إذا لم تجدوا عن هذه الميتة مندوحة بأكل بقلٍ تأكلونه، فيسد جوعتكم، ففي هذه الحال تحل الميتة.

وقوله هنا: "وقيل: لما أمر رسول الله ﷺ بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟ فنزلت مبينةً للصيد بالكلاب".

وذكر في الحاشية: عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ يستأذن عليه، فأذن له، فقال: قد أذنا لك يا رسول الله - يعني النبي ﷺ يقول: أذنا لك - قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلبٍ بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأةٍ عندها كلب ينبح عليها - معناه: عليها يعني يدفع عنها بصوته بنباحه - فتركته رحمةً لها، ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب، فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله: ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله ﷺ فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ[المائدة: 4] الآية، هذا رواه ابن جرير[5] والطبراني في الكبير[6] وإسناده لا يخلو من ضعف، لكن يوجد ما يقويه، ويعضده، فيمكن أن يرتقي إلى الحسن لغيره - والله أعلم -.

"قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ هي عند مالكٍ: الحلال[7] وذلك ممّا لم يرد تحريمه في كتاب، ولا سنة، وعند الشافعي: الحلال، المستلذ[8] فحرّم كل مستقذر، كالخنافس، وشبهها؛ لأنها من الخبائث". 

أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ مفهوم المخالفة أن الخبائث محرمة، وهذا المفهوم جاء مصرحًا به في قوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] لكن ما ضابط الطيبات؟ فعند مالك: الحلال، يعني ما لم يرد تحريمه، لكن هل هو المسكوت عنه؟ فالمسكوت عنه بعضه مستقذر، وما ضابط المستقذر؟ الشافعي - رحمه الله - يقول: يحرم المستقذر، وإن كان مسكوتًا عنه، وبعضهم يضبط ذلك بما كان مستقذرًا عند العرب، قالوا: لأنهم أعدل الناس طبعًا، وذوقًا، وليس كل العرب، ولكن المقصود: الغالب، وإلا فما ذكره الأصمعي عن الأعرابي الذي سأله: ما تأكلون في البادية؟ قال: نأكل كل ما هبَّ، ودبَّ، ودرج، إلا أم حبين، وهي دويبة مثل الوزغ، فقال الأصمعي: فلتهن أم حبين العافية[9] يعني حينما سلمت منكم، فمثل هذا لا يحلل، ولا يحرم شيئًا، وليس عنده شيءٌ مستقذر إلا أم حبين، فهذا لا يمكن أن يُضبط به ما ذُكر، لكن المقصود الغالب، فهم أعدل الناس طبعًا، وبناءً عليه تجد الفقهاء، وبعض المفسرين الذين يتكلمون في الأحكام لا سيما المالكية يذكرون تفاصيل كثيرة جدًا عن أكل العقارب، والحيات، والصراصير، والوزغ إلى آخر أنواع الديدان، وهذا مسكوت عنه، فما حكمه؟

لو نظرتم في أضواء البيان على سبيل المثال، فقد ذكر تفاصيل طويلة في أكل هذه الأشياء، فطالما أنه لم يُحرم فهو من الطيبات عند مالك - رحمه الله - ولذلك مذهبهم في المطعومات من أوسع المذاهب.

وأما على ما ذكره عن الشافعي - رحمه الله - بأن الحلال هو المستلذ، فالمستقذر لا يجوز أكله، وإن لم يرد فيه نص، كالخنافس، ونحوها، فهي من الخبائث.

وبعضهم يقيد هذا بالضرر فيقول: ما ثبت فيه ضرر، وإن لم يُذكر في النص لوجود الأدلة العامة، التي تدل على تحريم ما فيه الضرر، والمقصود بالضرر: الغالب، وإلا لا يخلو شيء من ضرر في هذه الحياة الدنيا، فالمصالح، واللذات الخالصة في الجنة، وإلا فحتى الطيبات من اللحوم، وبهيمة الأنعام، وغيرها لا تخلو من ضرر، لكن المصلحة فيها، والنفع هو الغالب، والعبرة بما غلب.

"وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ عطفٌ على الطيبات، على حذف مضاف، تقديره: وصيد ما علمتم، أو مبتدأٌ، وخبره...".

"صيد ما علمتم، أو مبتدأٌ، وخبره: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ" فيكون وَمَا عَلَّمْتُمْ مبتدأ، وخبره: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.

قال: "وهذا أحسن؛ لأنه لا خلاف فيه" أحسن باعتبار أنه لا خلاف فيه، الأول: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ يقول: "عطفٌ على الطيبات" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ أي: وصيد ما علمتم مِنَ الْجَوَارِحِ وهذا يحتاج إلى تقدير، والأصل: عدم التقدير، فالكلام إذا دار بين الاستقلال، والإضمار، فالاستقلال مقدمٌ على الإضمار.

"وتقديره: وصيد ما علمتم، أو مبتدأٌ، وخبره: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهذا أحسن؛ لأنه لا خلاف فيه [وفي النسخة الخطية: وهذا أحسن؛ لأنه لا حذف فيه]".

"لأنه لا حذف فيه" هذا أصوب؛ لأنه - كما سبق - لا حذف فيه؛ لأن الأصل عدم التقدير، فهنا عندنا محملان:

الأول: باعتبار تقدير مقدر محذوف.

والثاني: يستقيم المعنى من غير دعوى الحذف، فنقدم ما كان بغير حذف.

"والجوارح: هي الكلاب، ونحوها مما يصطاد به [وفي النسخة الخطية: مما يُصاد به]".

لا إشكال يصاد به، ويُصطاد به، لا يختلف المعنى.

"وسميت جوارح؛ لأنها كواسب لأهلها".

من الاجتراح، وهو الكسب، يقول: "فهو من الجرح بمعنى الكسب" يقال: فلان لا جارح له يعني لا كاسب له، قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام: 60] يعني ما كسبتم، وليس معنى ذلك أنها تجرح الصيد مثلاً لا، وإنما كاسبة.

"فهو من الجرح بمعنى الكسب، ولا خلاف في جواز الصيد بالكلاب، واختُلِفَ فيما سواها، ومذهب الجمهور الجواز[10] للأحاديث الواردة في البازات، وغيرها [وفي النسخة الخطية: في البُزات، وغيرها]".

مذهب الجمهور الجواز، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، ومكحول، ويحيى بن أبي كثير، وطاووس[11] وغيرهم.

قال: "للأحاديث" وذكر هنا في الحاشية عن عدي بن حاتم أنه: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فكل رواه الترمذي[12] وأبو داود[13] وقال عنه الترمذي: هذا حديثٌ لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي[14] وقال البيهقي: فجمع بينهما في المنع إلا أن ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد - والله أعلم -"[15] يعني الذين رووا عن الشعبي لم يذكروا فيه هذه الزيادة، وهي: صيد البازي، وإنما جاء هذا من رواية مجالد، ومن هنا ضعفه من ضعفه من أهل العلم.

فيجوز الصيد بالكلاب، واختُلف فيما سواها، ومذهب الجمهور الجواز للأحاديث الواردة.

"ومنع بعضهم ذلك؛ لقوله: مُكَلِّبِينَ فإنه مشتق من الكلب، ونزلت الآية بسبب عديّ بن حاتم، فإنه كان له كلابٌ يصطاد بها، فسأل رسول الله ﷺ عما يحل من الصيد[16]".

هذا أورده السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لعبد بن حُميد[17] بمثل هذا اللفظ الذي ذكره ابن جزي، وأن عديًّا  هو السائل.

وذكر في الحاشية عند ابن جرير[18]: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجلٌ رسول الله ﷺ يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وهذا في إسناده عمر بن بشير، أحد رواته، وهو ضعيف، فلا يصح ذلك في سبب النزول.

وقول المؤلف: "ومنع بعضهم ذلك" يعني الصيد بالفهود، والنمور، وكذلك الجوارح من الطير؛ لقوله: مُكَلِّبِينَ فإنه مشتقٌ من الكلب، هذا فيه نظر، لكن يمكن أن يُحمل ذلك على الغالب - والله أعلم -.

"وَمُكَلِّبِينَ أي: معلمين للكلاب الاصطياد، وقيل: معناه: أصحاب كلاب".

يعني يُقال: رجل مكلب، وكَلَّاب، يعني صاحب صيد بالكلاب، والتكليب بمعنى: التعليم، فجاء به بعد قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ فيكون تأكيدًا بهذا الاعتبار، لكن عند ابن جرير، ومن وافقه: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ حال كونكم أصحاب كلاب[19] فهذا عند من يقيده بالكلاب: لا يبيح الصيد بالفهد، والنمر، ونحو هذا، إلا إذا قيل: إن ذلك باعتبار الغالب، وعلى الأول بأن التكليب هو التعليم مُكَلِّبِينَ أي: معلمين للجوارح أيًّا كانت، هذا ظاهر أنه لا يختص بالكلاب، وإنما يكون للطيور؛ كالصقور، ونحوها، وكذلك سائر الحيوان مما يقبل التعليم، ولا شك أن الفهود، والنمور تُعلم، وتصيد، وهذا مُشاهد.

"وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في عَلَّمْتُمْ".

ويحتمل: عَلَّمْتُمْ حال كونكم مكلبين، أو حال كونكم أصحاب كلاب، ويحتمل أنه حال من المفعول، وهو الجوارح، يعني وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ حال كونهن مكلبات للصيد، باعتبار أنها تقتنص بمخالبها، وأظفارها، ويكون دليلاً على أنه إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخالبه فإنه لا يحل، فلو أنه ألقى بنفسه على الصيد فمات الصيد، فلا يحل بهذا الاعتبار.

"ويقتضي قوله: عَلَّمْتُمْ ومُكَلِّبِينَ أنه لا يجوز الصيد إلّا بجارح مُعلَّم، لقوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ وقوله: مُكَلِّبِينَ على القول الأول لتأكيده [وفي النسخة الخطية: على القول الأول، ولتأكيده] ذلك بقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ".

قوله هنا: "وقيل: معناه أصحاب كلاب، وهو منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعل في عَلَّمْتُمْ" والتقدير: علمتم الجوارح حال كونكم مؤدبين، ومدربين، ومعودين لها على كيفية الصيد.

"ويقتضي قوله: عَلَّمْتُمْ ومُكَلِّبِينَ أنه لا يجوز الصيد إلّا بجارح معلم" وهذا لا شك فيه "لقوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ وقوله: مُكَلِّبِينَ على القول الأول لتأكيده" وهذا الذي ذكرته آنفًا "ذلك بقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ".

"وحدّ التعليم عند ابن القاسم أن يعلم الجارح [وفي النسخة الخطية: أن يفهم الجارح] الإشلاء، والزجر[20]".

"يعلم الجارح الإشلاء، والزجر" يعلم، ويفهم كل هذا يدل على المراد، والإشلاء يقول بعضهم: إنه من الأضداد، فهو يأتي بمعنى: الإغراء بالصيد، ويأتي بمعنى: الدعاء، يعني حينما يدعوه يرجع إليه، أو يغريه بالصيد، فينطلق، فيكون بهذا، وهذا.

فالشافعي - رحمه الله - فسر الإشلاء: بالإغراء، إذا أغراه بالصيد، فأطلقه عليه بإشارةٍ، أو عبارةٍ، فينطلق[21].

لكن الأشهر عند الفقهاء، وأهل اللغة: أن الإشلاء هو الاستدعاء[22] فلهذا الكلب، أو المعلم حالتان: فهو يزجره، وكذلك أيضًا يستدعيه، فإذا كان يفهم ذلك، فينطلق إذا زجره، وأغراه بالصيد، ويرجع إليه إذا دعاه، فهذا معلَّم، فهذا ضابط التعليم، وهي قضية نسبية، فقد ينزجر، ولا يرجع، فهذا غير معلَّم، لا سيما إذا كان يأكل من هذا الصيد، كما سيأتي، فمثل هذا غير معلَّم.

"[في النسخة الخطية: أن يفهم الجارح الإيساد، والزجر]".

 

كل هذا لا إشكال فيه "أن يفهم الجارح الإيساد، والزجر" الإشلاء هي لفظة معروفة عند الفقهاء، وأهل اللغة، وكما سبق أنها من الأضداد فيما يبدو، تقال للإغراء بالصيد، وتقال لاستدعائه، والأكثر في استدعائه، والشافعي يقول إنها بمعنى الإغراء.

وكذلك أيضًا الإيساد، فهي من الألفاظ أيضًا المعروفة في هذا الباب، فنبقى على الإشلاء؛ لأنها هي الأكثر استعمالاً.

لكن هنا لما ذكر ابن جزي الإشلاء، والزجر، فيقصد قطعًا بالإشلاء - بصرف النظر عن كونها من الأضداد - : الطلب، والاستدعاء، والزجر: الإغراء؛ لأنه ذكرها معها، فهذا يكون محمله على الأشهر عند أهل اللغة، واستعمال الفقهاء.

"وقيل: الإشلاء خاصة" وقلنا: الإشلاء هنا بمعنى: الاستدعاء في استعمال ابن جزي، وهو الغالب عند أهل اللغة، إن استدعاه يرجع؛ لأن الزجر سهل، فهو مجرد ما يرى الصيد فإنه يتحرك نحوه، لكن هل يرجع، أو لا؟

"وقيل: الإشلاء خاصة، وقيل الزجر خاصة، وقيل: أن يجيب إذا دعي".

إذا استدعاه فمعنى ذلك أنه يجيب إذا دُعي، والقرطبي - رحمه الله - نفى الخلاف في شرطين في التعليم:

الأول: أن يأتمر إذا أُمر، هذا في الإغراء.

الثاني: وأن ينزجر إذا زُجر[23] وهذا في الكلاب، ونحوها من سباع الوحوش، واختُلف في الطير، فالجمهور على اشتراط ذلك فيه أيضًا، والمقصود: أن يكون طوع صاحبه إذا أمره، أو زجره، أو استدعاه.

"تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي: تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد، وتأتّي تحصيل الصيد، وهذا جزءٌ مما علمه الله الإنسان، فـ(من) للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال، أو استئناف".

جاء عن عدي قال: قلتُ يا رسول الله: إني أرسل الكلاب المعلمة فيُمسكن علي، وأذكر اسم الله عليه فقال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه فكل قلتُ: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلبٌ ليس معها قلتُ: فإني أرمي بالمعراض الصيد، فأصيب، فقال: إذا رميت بالمعراض، فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله[24] إذًا هذا الجارح، ولو قتل الصيد فإنه يؤكل، لكن لو أدركه، وفيه حياة، فيجب أن يذكيه، وإذا أرسله فإنه يسمي كما يسمي عند التذكية إذا ذكاه.

وقال هنا: "تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد، وتأتّي تحصيل الصيد، وهذا جزءٌ مما علمه الله الإنسان، فـ(من) للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال، أو استئناف" تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ يعني حال كونكم معلمين لهن "أو استئناف" أنه يخبر عن أمرٍ آخر.

"فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة، ويحتمل أن يريد بما أمسكن، سواء أكلت الجوارح منه، أو لم تأكل، وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك[25] ويحتمل أن يريد مما أمسكن، ولم يأكل [وفي النسخة الخطية: ولم يأكلن منه] وبذلك فسره رسول الله ﷺ بقوله: فإن أكل منه فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه[26] وقد أخذ بهذا بعض العلماء، وقد، ورد في حديثٍ آخر: إذا أكل فكل[27] وهو حجةٌ لمالك".

"فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة" وهذا واضح، فلو أراد ألا يأكل، كأن يبيع، أو نحو هذا فله ذلك عَلَيْكُمْ قال بعضهم: إن (على) هنا بمعنى لام التعليل، باعتبار أن حروف الجر تتناوب فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يعني لكم، كما يقال مثلاً: عوقِبَ على الاعتداء، وضُرب على الكذب، يعني بسبب ذلك.

وقوله: "سواء أكلت الجوارح منه، أو لم تأكل" يعني أنه يجوز الأكل من غير تقييدٍ بكون الجارح لم يأكل منه، قال: "وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك، ويحتمل أن يريد مما أمسكن، ولم يأكلن منه، وبذلك فسره رسول الله ﷺ بقوله: فإن أكل منه فلا تأكل[28]" ولفظه: أنه قال يا رسول الله: إني أرسل كلبي، وأسمي، فقال النبي ﷺ : إذا أرسلت كلبك، وسميت فأخذ فقتل فأكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر، لا أدري أيهما أخذه، فقال: لا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره[29] والحديث مخرج في الصحيحين، فظاهر الآية الإطلاق فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وتكون السنة قد خصت ذلك بما لم يأكل منه الجارح، فإن أكل فلا تأكل.

"وقد، ورد في حديثٍ آخر: إذا أكل فكل[30]" هذا مخالف للحديث الذي في الصحيحين، وهذا الحديث: إذا أكل فكل[31] عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله ﷺ في صيد الكلب: إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله تعالى فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يداك[32] وقال عنه ابن كثير: إسناده جيدٌ[33] وحسنه الصنعاني[34] وصاحب التنقيح[35] وأعلّه البيهقي[36].

وفي إسناده: داود بن عمر، وقد قال الذهبي عن هذا الحديث: بأنه منكر[37] يعني بسبب هذا الراوي، وهكذا قال الألباني[38] والرواة اختلفوا فيه على أبي إدريس الخولاني، فلم يروه بهذا الوجه: إذا أكل فكل[39] إلا أحد رواته فقط، وخالفه ثلاثة من الرواة عن أبي إدريس، يعني بهذه اللفظة: فكل، وإن أكل[40] وعدَّ هذا من عدّه من أهل العلم من قبيل النكارة، فقالوا: منكر؛ باعتبار أن هذا راوٍ ضعيف خالف الثقات، ومخالفة الراوي الضعيف للثقات هي من قبيل النكارة، وأما إذا خالف الثقة رواية الثقات، فهذا الذي يقال له: الشاذ، فهذا الراوي خالف سائر الرواة، وكذلك هو مخالف للرواية التي في الصحيحين.

"وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا أمر بالتسمية على الصيد، ويجري الذبح مجراه، وقد اختلف الناس في حكم التسمية، فقال الظاهرية: إنها واجبةٌ، حملاً للأمر على الوجوب، فإن تركت التسمية عمدًا، أو نسيانًا، لم تؤكل عندهم[41] وقال الشافعي: إنها مستحبة، حملاً للأمر على الندب، وتؤكل عنده، سواءٌ تركت التسمية عمدًا، أو نسيانًا[42] وجعل بعضهم الضمير في عَلَيْهِ عائدًا على الأكل، فليس فيها على هذا أمرٌ بالتسمية على الصيد".

بمعنى: إذا أراد أن يأكل قال: بسم الله.

"ومذهب مالكٍ أنه: إن تُركت التسمية عمدًا لم تؤكل، وإن تُركت نسيانًا أكلت، فهي عنده واجبة مع الذكر، ساقطة مع النسيان[43]".

في رجوع الضمير هنا في قوله: عَلَيْهِ ثلاثة أوجه:

الأول: أنها عائدة على مَا عَلَّمْتُمْ أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد، وهذا دلت عليه السنة، كما في حديث عدي .

الثاني: أنها عائدة على المصدر المفهوم من الفعل، وهو الأكل، كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكل؛ لأنه قال قبله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فالمصدر هو الأكل، والفعل المذكور قبله: كُلُوا فيكون عوده إلى هذا، وهذا الذي اختاره القرطبي - رحمه الله -[44].

الثالث: أنها تعود على ما أمسكن، أي: ما أدركتم ذكاته مما أمسكن عليكم، والأقرب أن المراد من وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: على الصيد إذا أرسلتم الجوارح، كما دلت عليه السنة، وما أُدرك، وفيه حياة، فإنه يُذكى، ويُذكر اسم الله عليه - والله تعالى أعلم -.

  1.  زاد المسير في علم التفسير (1/515)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (3/32).
  2.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (21898)، وقال محققو المسند: "حديث حسن بطرقه، وشواهده، وهذا إسناد ضعيف جدًا فيه أبو إبراهيم محمد بن القاسم الأسدي الكوفي، فقد كذب، لكنه متابع".
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/29).
  4.  شرح السنة للبغوي (11/347).
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/545).
  6.  المعجم الكبير للطبراني برقم: (972)، (1/326).
  7.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/156)، والبحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/9).
  8. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/156)، والبحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/9).
  9.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/535).
  10.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/21).
  11.  المصدر السابق (3/32).
  12.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة برقم: (1467)، وقال الألباني: "منكر".
  13.  أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في الصيد برقم: (2851)، وقال الألباني: "صحيح إلا قوله، أو باز فإنه منكر".
  14.  الترمذي ت شاكر في أبواب الصيد، باب ما جاء في صيد البزاة برقم: (1467).
  15.  السنن الكبرى للبيهقي (9/399).
  16.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/22).
  17.  سبق تخريجه.
  18.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر برقم: (11158).
  19.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/551).
  20.  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/9)، وبمعناه في: المقدمات الممهدات (1/418).
  21.  المجموع شرح المهذب (9/98).
  22.  مجمل اللغة لابن فارس (ص: 510)، وتحرير ألفاظ التنبيه (ص: 165).
  23.  تفسير القرطبي (6/69).
  24.  أخرجه البخاري في كتاب الذبائح، والصيد، باب صيد المعراض برقم: (5476) مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة برقم: (1929)، واللفظ لمسلم.
  25.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (3/9)، والجامع لمسائل المدونة (5/748).
  26.  أخرجه البخاري في كتاب الذبائح، والصيد، باب صيد المعراض برقم: (5476)، ومسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة برقم: (1929).
  27. أخرجه أبو داود بلفظ مقارب في كتاب الصيد، باب في الصيد برقم: (2852)، وقال الألباني: "منكر".، وهو بهذا اللفظ المذكور في المتن موقوف على أبي هريرة في مصنف ابن أبي شيبة برقم: (19591)، ومن كلام حماد أيضًا في مصنف ابن أبي شيبة برقم: (19653)، ومن كلام عامر، والحكم في مصنف ابن أبي شيبة أيضًا برقم: (19654).
  28.  سبق تخريجه.
  29.  سبق تخريجه.
  30.  سبق تخريجه.
  31.  سبق تخريجه.
  32. أخرجه أبو داود في كتاب الصيد، باب في الصيد برقم: (2852)، وقال الألباني: "منكر".
  33.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/36).
  34.  سبل السلام (2/519).
  35.  تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (4/626).
  36.  السنن الكبرى للبيهقي (9/398).
  37.  ميزان الاعتدال (2/18).
  38.  ضعيف سنن أبي داود (ص: 2)، (2852).
  39.  سبق تخريجه.
  40.  سبق تخريجه.
  41.  المحلى بالآثار (6/103)، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام (7/69).
  42.  كفاية النبيه في شرح التنبيه (8/154).
  43.  الجامع لمسائل المدونة (5/739).
  44.  تفسير القرطبي (6/74).