السبت 19 / ذو القعدة / 1446 - 17 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَسْـَٔلُوا۟ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـَٔلُوا۟ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم، وشقَّ عليهم سماعها".

المراد بقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء [سورة المائدة:101] يحمل على معنيين: السؤال عن الأشياء الشرعية التي لا يسوغ السؤال عنها، والسؤال عن الأمور القدرية التي لو كشفت لهم لساءهم ذلك، وهذا الذي مشى عليه بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - أي: لا تسألوا عن أشياء قدرية، أو شرعية؛ من شأن السؤال عنها أنه يسوءكم ما تسمعونه من الجواب.
ومثال السؤال عن الأشياء القدرية: سؤال عبد الله بن حذافة حين قال: من أبي؟ فإنه سأل عن شيء قدري، فلو أُخبر بغير أبيه الذي ينسب إليه لكانت فضيحة له، ولأمه، ولذريته، ولهذا لامته أمُّه على هذا السؤال؛ فالحاصل أن هذا سؤال عن أمر قدري، وكذلك لا ينبغي السؤال عن الأشياء الشرعية التي فيها تكلف؛ فهذا أمر مذموم، كالسؤال عن الأمور التي لا ينبني عليها عمل، ومثال ذلك أن يسأل سائل: هل أصل اللغات توقيفي أم ليس توقيفياً؟ وهل الاسم هو المسمى أو ليس هو المسمى؟
ومن أمثلة ذلك السؤال عن مسائل لا تقع إلا نادراً، وكذلك تتبع صعاب المسائل، فكل هذا مذموم، ومن ذلك الإكثار من الأسئلة، فمن الناس من إذا رأى عالماً فكأنه لا يعرف عن الإسلام شيئاً، حيث تجدهم يأتون بالأسئلة المكررة المعادة المعروفة، وكأن المهم عندهم أنهم يسألون، وهذا خطأ فلا يكون السؤال تفكهاً، ومن الأسئلة المذمومة السؤال عن الأمور التي أعرض عنها الشارع، وسكت عنها، بحيث يكون السؤال عنها سبباً لتحريم أشياء عُفي عنها، ومثال ذلك لما قال النبي ﷺ: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا قام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟[1].
المقصود أن ما سكت عنه الشارع فهو عفو، ولهذا قال تعالى: عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] أي فما تركها من نسيان.
ومن الأمثلة الواضحة سؤال بني إسرائيل الذين قيل لهم: اذبحوا بقرة، فسألوا عن سنها، ثم سألوا عن لونها، ثم سألوا عن عملها، فوضع لهم من الأوصاف والقيود ما ضاق بسببه عليهم هذا الأمر غاية الضيق، فما كادوا يجدون هذه البقرة، فمثل هذه الأسئلة مذمومة، وليس المقصود بذلك أن الإنسان لا يسأل عما هو بصدده مما يعنيه ويحتاج إليه؛ فهذا أمر مطلوب، والله يقول: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43]، وجبريل سأل النبي ﷺ السؤالات المعروفة، والصحابة سألوه، لكن إنما يسأل الإنسان عما يعنيه، وما هو بصدده مما لا يكون تكلفاً، فالسؤال وقت نزول الوحي عن أمور سكت عنها الشارع قد يكون سبباً لتحريمها، أو لفرض أمور على الناس نتج هذا الفرض عن هذا السؤال، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المخرج في الصحيحين: إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته[2].
وقوله تعالى: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] فمعنى ذلك أنه وقت التنزيل وليس المقصود الوقت المقارن لنزول الآية، وإنما المقصود ذلك العصر فقد تنزل أحكام جديدة يضيق الأمر على الناس معها بسبب الأسئلة، فأدبهم بهذا الأدب، أي أن يتلقوا عن الله ، ولا ينقروا، ولا يتكلفوا، ولا يبحثوا عما سكت عنه الشارع، وعفا عنه.
"وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً قال: فغطى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم لهم حنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان فنزلت هذه الآية: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء [سورة المائدة:101] وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي[3].
وروى ابن جرير عن قتادة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية [سورة المائدة:101] قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله ﷺ سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بيّنته لكم فأشفق أصحاب رسول الله ﷺ أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلا وجدت كلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة قال: ثم قام عمر أو قال: فأنشأ عمر فقال: "رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ رسولاً - عائذاً بالله - أو قال: أعوذ بالله من شر الفتن، قال: وقال رسول الله ﷺ: لم أرَ في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط [أخرجاه من طريق سعيد][4].
ثم روى البخاري عن ابن عباس - ا - قال: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاءً فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] حتى فرغ من الآية كلها، تفرد به البخاري[5].
وروى الإمام أحمد عن علي قال: لما نزلت هذه الآية: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية [سورة المائدة:101] وكذا رواه الترمذي وابن ماجه[6].
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها، وتركها".

فهذه الأسباب التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في نزول هذه الآية سواء كان ذلك بسبب أنهم أحفوا النبي ﷺ في المسألة، أو أنه سأله بعضهم عن بعض الأمور تكلفاً كالذي سأل: أفي كل عام يا رسول الله؟ أو الذي يسأل يقول: من أبي؟ وإذا ضلت دابته قال: أين دابتي؟ فكل هذا من سبب النزول، يعني وقع منهم ذلك جميعاً، فنزلت الآية، فيحتمل أن تكون هذه الأمور مجتمعة هي سبب النزول، وأن الآية نزلت مرة واحدة تأديباً لهم، وتعليماً عن كيفية السؤال، ولا نحتاج في مثل هذا أن نرجح بين هذه المرويات؛ لأنها صحيحة، وإنما يقال: إن الآية نزلت بعدها جميعاً، والله أعلم، وقد عرفنا من قبل أن النازل قد يكون واحداً، وأن سبب النزول يكون متعدداً، والعكس أيضاً، فهذا من الأول، والله أعلم.
"وقوله تعالى: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله ﷺ تبيَّن لكم، وذلك على الله يسير".

هذا كما ذكرنا سابقاً من أن هذه الكراهة وهذا الذم وهذا النهي يدخل فيه جملة أمور منها أن يسأل عن أشياء وقت التنزيل، فتكون سبباً لفرض أحكام جديدة لم يفرضها الله ، وقد يكون سبباً لتحريم أمور لم يحرمها الله ، أو ذكر قيود لم ترد في خطاب مطلق فيشق ذلك على الناس.
وقوله: وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [سورة المائدة:101] هذا في الشرعيات، وقلنا في الأمور القدرية: أن يسأل عن أمر فيكون الجواب مما يسوءه، مثل الذي قال: من أبي؟ فقد يذكر له غير أبيه الذي عرف به؛ فيكون ذلك سبباً لفضيحة تلازمه.
"ثم قال: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي: عما كان منكم قبل ذلك".

هذا المعنى في قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي عن مسألتكم قبل ذلك فبعد هذا لا تسألوا، هكذا فسره ابن كثير، وهو اختيار ابن جرير أيضاً.
وهناك معنىً آخر لقوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي هذه المسائل، فالله ما تركها نسياناً؛ وإنما تركها توسعة، وعفواً، كما روي: وما سكت عنه فهو عفو[7] فيكون عَفَا اللّهُ عَنْهَا بهذا المعنى: أي أن الله  لم يفرضها عليكم، ولم يكلفكم بها، ولم يتركها غفلة وذهولاً عنها، فلا حاجة للتنقير والاستقصاء كما فعل بنو إسرائيل لما قال لهم موسى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] حيث سألوا عن سنها، ثم سألوا عن لونها، ثم سألوا عن عملها؛ حتى ضيقوا على أنفسهم، ولو أنهم أجابوا من دون هذا التنقير فإن أيَّ بقرة ذبحوها كانت تجزئهم، وأظن - والله أعلم - أن هذا المعنى هو الأقرب المتبادر في تفسير قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا أي لم يكلفكم بها فلا تنقروا عنها، لئلا يكون ذلك سبباً للتضييق عليكم، وهذا قال به طائفة من السلف فمن بعدهم، والله أعلم.
"وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] والمراد لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد، أو تضييق، وقد ورد في الحديث: أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم فحرم من أجل مسألته[8].
وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ،واختلافهم على أنبيائهم[9].
وفي الحديث الصحيح أيضاً: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها[10]".

هذا الحديث قد لا يصح من جهة الإسناد، وإن كان المعنى تدل عليه مثل هذه الآية، وهكذا - والله أعلم - يمكن أن تفسر الآية بمثل ما ورد فيه: وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها.
ولا يقال: إن التعقيب في الآية بقوله: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] يقتضي بالضرورة أن يكون قرينة دالة على أن المراد عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] أي عن سؤالكم، وإنما يمكن أن يقال: إن قوله: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] يشمل هذا وهذا، فهو يقول لهم: لا تسألوا عن أشياء قد تركها الله ، وأعرض عنها، ولم يفرضها عليكم، فلما كان فعلهم هذا فيه إساءة، وتكلف؛ ناسب بعده أن يقول: وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [سورة المائدة:101] أي لم يعاجلكم في العقوبة على هذا السؤال، والتنقير.
وأما قوله: عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] فهو راجع إلى هذه المسائل، أو الأشياء التي سكت عنها، وليس راجعاً إلى السؤال على المعنى الآخر - والله أعلم -.

ثم قال تعالى: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ [سورة المائدة:102] أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها فأصبحوا بها كافرين أي: بسببها، أي بيّنت لهم فلم ينتفعوا بها؛ لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد.

ويدخل في هذا الأشياء التي طلبوها كالمائدة هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112] ويدخل فيه ما سأله قوم صالح حيث طلبوا آية فأخرج الله تلك الناقة فكفروا وعقروها، وهكذا يدخل فيه جميع السؤالات والأمور التي طلبها المكذبون، سواء كان ذلك على سبيل الآيات والبينات لنبوة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أو ما كان ذلك من قبيل التنقير والسؤال عن أمور على وجه التكلف لم يفرضها الله  عليهم كسؤال بني إسرائيل عن أوصاف البقرة، ويدخل فيه أيضاً صور كثيرة أشرت إلى بعضها في مناسبة سابقة، وكتبت أوراقاً تجمع أشياء من هذا الموضوع، وكلام أهل العلم فيه كما سيأتي.

السؤال عن الأمور التي لم تقع:

إن السؤال حينما يكون عن أمر يحتاج الإنسان إلى معرفته فإن ذلك السؤال يكون محموداً، وأما السؤال المتكلف الذي يكون التنقير فيه عن أمور مفترضة غير واقعة ولا قريبة الوقوع فإن ذلك يعد مذموماً؛ لأنه سؤال عما لا يعني السائل، ومن هنا كان النبي ﷺ ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم[11] وهذا يدل بظاهره على أن الإكثار من الأسئلة مذموم، وقد قال البخاري - رحمه الله -: باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] ومن هنا كان الصحابة يتهيبون سؤال رسول الله ﷺ ويفرحون بقدوم الأعرابي على رسول الله ﷺ ليسأله فيسمعون الجواب، كما ثبت أنهم سألوا النبي ﷺ عن أمور متنوعة قبل وقوعها، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في توجيه ما ورد من ذم كثرة السؤال، ويمكن تلخيص مذاهبهم في ذلك فيما يلي:

ذهب جماعة من العلماء إلى أن ذلك محمول على ما كان على سبيل التكلف والتعنت فيما لا حاجة بالسائل إليه، وما لا خير له فيه من التكاليف الشاقة، بخلاف من سأل بضرورة عن مسألة وقعت له، والله يقول: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:43].

ذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك مختص بزمن نزول الوحي خشية أن ينزل بسبب ذلك تحريم أمر أو إيجاب آخر فتلحقهم بسبب ذلك مشقة وكلفة، وهذا المعنى قد ارتفع بعد وفاة النبي ﷺ وقد استقرت الأحكام فزال الأمر الذي من أجله نهي عن السؤال، ولهذه العلة قال النبي ﷺ: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته[12]، وفي رواية عند مسلم: رجل سأل عن شيء ونقر عنه[13] وكما في حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول ﷺ: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك... إلى آخره[14].

واستدل أصحاب هذا القول بما ثبت من سؤال الصحابة للنبي ﷺ عن أمور قبل وقوعها، وبما جاء عن الصحابة من أنهم تكلموا في أحكام الحوادث قبل نزلوها، وتبعهم في ذلك التابعون ومن بعدهم من فقهاء الأمصار بل عد الخطيب البغدادي ذلك إجماعاً منهم على أنه جائز لا كراهة فيه ومباح لا محظور فيه، كما حمل الآثار المنقولة عن السلف في الامتناع من الإجابة عن المسائل التي لم تقع على التورع وتوقي القول بالرأي خوفاً من الزلل وهيبة للاجتهاد، ولهم مندوحة عنه حتى تقع النازلة فيجتهدون فيها عند قيام المقتضي فيكون ذلك سبباً مقرباً للإصابة.

ذهب الحافظ ابن رجب - رحمه الله - مع اعتباره المعنى السابق إلى أن ذلك أيضاً من أجل علة أخرى، وهي أن الله تكفل في كتابه لعباده أن يبيّن لهم ما يحتاجون إليه وهو أعلم بمصالحهم كما قال تعالى: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ [سورة النساء:176] إلى غير ذلك من النصوص الدالة على هذا المعنى، ومن هنا فلا حاجة للسؤال عما لم يقع، وإنما ينبغي أن تكون الهمة متجهة إلى العمل بما أنزل، مع تدبره وتفهمه لا أن ينصرف المخاطب إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، ولهذا كره كثير من السلف، السؤال عن ذلك.

وقد جعل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - الكلام على المسائل التي لم تقع على قسمين:

الأول: ما كان فيه نص من كتاب أو سنة أو أثر عن الصحابة فإنه لا يكره الكلام فيه.

الثاني: ما لا نص فيه وهو نوعان:

ما كان بعيد الوقوع، أو ما كان بعيد الوقوع، أو مما لا يقع أصلاً، فهذا لا يستحب الكلام فيه.

 ما لا يبعد وقوعه، وكان غرض السائل معرفة الحكم فيما لو وقعت، فإنه يستحب في هذه الحالة بيان الحكم، وعلى هذا حمل ابن رجب - رحمه الله - ما ورد من سؤال الصحابة  النبي ﷺ عن أمور لم تقع.

حمل ذلك النووي - رحمه الله - على أن المراد بالذم الإكثار من السؤال والابتداء بالسؤال عما لم يقع؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد، إضافة إلى ما سبق من أنه قد يكون سبباً لتحريم شيء أو إيجاب آخر، كأن يكون في الجواب ما يكرهه السائل ويسوءه، وذلك في وقت نزول الوحي كما جاء في سبب نزول قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] وذلك أن الصحابة سألوا رسول الله ﷺ وألحفوا في المسألة، فقام على المنبر وذكر الساعة ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فو الله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام ابن حذافة وقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة فنزلت الآية[15].

وفي الصحيح من حديث ابن عباس - ا -: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاءً، فيقول الرجل من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية[16] ومن تلك المفاسد أنه قد يسترسل في ذلك حتى يقع في المحظور ويداخله الشك والحيرة كما دل عليه حديث أنس في الصحيح مرفوعاً إلى النبي ﷺ قال: لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟[17].

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4346) (ج 4 / ص 1689).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (6859) (ج 1 / ص 2658).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4345) (ج 4 / ص 1689) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2359) (ج 4 / ص 1832).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب التعوذ من الفتن (6001) (ج 5 / ص 2340) ومسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2359) (ج 4 / ص 1832).
  5. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4346) (ج 4 / ص 1689).
  6. أخرجه الترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء كم فرض الحج؟ (814) (ج 3 / ص 178) وأحمد (905) (ج 1 / ص 113) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب فرض الحج (2884) (ج 2 / ص 963) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2884).
  7. أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة - باب ما لم يذكر تحريمه (3802) (ج 3 / ص 417) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2256).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (6859) (ج 6 / ص 2658).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ (6858) (ج 6 / ص 2658) ومسلم في كتاب الحج - باب فرض الحج مرة في العمر (1337) (ج 2 / ص 975).
  10. أخرجه الطبراني في الكبير (18441) (ج 22 / ص 221) وفي الأوسط (7461) (ج 7 / ص 265) والحاكم (7114) (ج 4 / ص 129) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (1597).
  11. سبق تخريجه.
  12. سبق تخريجه.
  13. صحيح مسلم في كتاب الفضائل - باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك (2358) (ج 4 / ص 1831).
  14. سبق تخريجه.
  15. سبق تخريجه.
  16. سبق تخريجه.
  17. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (134) (ج 1 / ص 119).

مرات الإستماع: 0

"لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة: 101]؛ قِيل: سببُها سؤال عبد الله بن حذافة: مَن أبي؟ فقال له النبي ﷺ: أَبُوكَ حُذَافَة وقال آخر: أين أبي؟ قال: فِي النَّارِ[1]."

هنا قوله: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ؛ قِيل: سببُها سؤال عبد الله بن حذافة: مَن أبي؟ وقال آخر: أين أبي؟ ذكر في الحاشية رقم 3،2 ذكَر تخريجَين، والواقع أنَّ كل هذا هو تخريج لنفس الرواية، هذا من حديث أبي هريرة وهو عند ابن جرير[2] والطحاوي في "مشكِل الآثار"[3] وجوَّد إسناده ابن كثير - رحمه الله - قال: "إسناده جيّد"[4].

والحديث هذا فيه التصريح بسبب النزول، حديث أبي هريرة قال: خرَج رسول الله ﷺ وهو غضبان محمَرٌّ وجهه، حتى جلَس على المِنبر، فقام إليه رجلٌ فقال: أين أبي؟ فقال: فِي النَّار فقام آخر: مَن أبي؟ قال: أَبُوكَ حُذَافَة فقام عمر بن الخطاب فقال: "رَضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنَّا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهليَّةٍ، وشِرك، والله يعلم مَن آباؤنا" فسكَن غضبُه، ونزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة: 101]"[5] هذه الرواية صحيحة، وهي صريحة بكَونِها سبب النزول.

والحديث هذا له شاهد في الصحيحَين من حديث أنس وفيه التصريح أيضًا بسبب النزول، فلو أنَّه اكتفى به لكان أفضل، فحديث أنس قال: بلَغ رسول الله ﷺ عن أصحابه شيء، فخطَب فقال: عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ، وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ، وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا فما أتى على أصحاب رسول الله ﷺ يومٌ أشدُّ منه، غطَّوا رؤوسهم، ولهم خَنين؛ يعني صوت بالبكاء، فقام عمر فقال: رَضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا، فقام ذلك الرجل فقال: مَن أبي؟ قال: أَبُوكَ فُلَان فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"[6].

هذه الرواية في الصحيحَين، وتكفي في سبب النزول، لكن الآخر من حديث أبي هريرة أيضًا غير ما ذكَر، يعني هذا يكفي عمَّا ذكره في القصة، لكن فيها زيادة تفصيل بالتسمية؛ يعني تسمية مَن قال: مَن أبي؟ لكن لا حاجة لهذا.

وذكَر هنا أيضًا السبب الآخر: إِنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ َفَحُجُّوا فهذا جاء من حديث أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا فقال رجل: أَفِي كُلِّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكَت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثم قال: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ[7].

على هذه الرواية عند مسلم، هذا لفظ الإمام مسلم، وليس فيها ما يدلّ على سبب النزول، لكن جاء عند غير مسلم من حديث علي [8] وأبي أُمامة[9] وابن عباس[10] بما يتقوَّى بمجموع طُرُقه، وفيه التصريح بسبب النزول؛ أنَّها نزلت بسبب قول الرجل: أَفِي كُلِّ عامٍ يا رسول الله؟ فهذان سببان.

وكما ذكرنا في بعض المناسبات في مثل هذا أنَّه يمكن أن تكون هذه الوقائع حصلت في وقتٍ متقارب، فنزلت الآية بعدها، ويحتمل أن يكون ذلك وقَع في أوقات متفرِّقة فتكرَّر النزول، ويكون النزول الثاني؛ يعني المتكرِّر، تذكيرًا بالحُكم، وأنَّ النَّازل قبلَه ينطبِق على ما حلَّ أو وقَع، أو حصَل بعده.

والسؤال هنا: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ هذا يشمل السؤال عن الأحكام الشرعيَّة، والقَدَريَّة، كما يدلّ عليه هذه الروايات؛ فالأحكام الشرعيَّة مثل الحجّ: أَفِي كُلِّ عامٍ؟ والقَدَريَّة مثل قول رجل: "أين أبي؟ وقول الآخر: مَن أبي؟ ونحو هذا، فكلُّ ذلك داخلٌ فيه.

يقول: فعلى الأول: تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم؛ يعني هذا الذي قال: أين أبي؟ مثلاً، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم؛ يعني في الحجّ: أَفِي كُلِّ عامٍ؟ يكون ذلك سببًا لهذا، ولهذا جاء في الحديث بأنَّ: إن أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[11].

"وقال آخر: أين أبي؟ قال: فِي النَّارِ وقِيل: سببُها أنَّ النبي ﷺ قال: إِنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا فقالوا: يا رسول الله أَفِي كل عام؟ فسكَت، فأعادوا، قال: لَا، ولَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ.هذا فيه في آخره فأنزل الله؛ لأنَّ ما ذكره المؤلف من غير هذه الزيادة ليس فيه ما يدلّ على سبب النزول، لكنَّها ضروريَّة، وهي مصرِّحة بذلك.

"فعلى الأول: تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشقُّ عليكم، ويقوِّي هذا قوله: عَفَا اللهُ عَنْهَا أي: سكت عن ذِكرها، ولم يطالبكم بها، كقوله ﷺ: عَفَا الله عَنِ الزَّكَاةِ فِي الخَيْلِ[12].

وقيل إنَّ معنى عَفَا اللهُ عَنْهَا: عفا عنكم فيما تقدَّم من سؤالكم فلا تعودوا إليه."

قوله: عَفَا اللهُ عَنْهَا أي: سكت عن ذِكرها، ولم يطالبكم بها، كقوله ﷺ : عَفَا الله عَنِ الزَّكَاةِ فِي الخَيْلِ هذا ذكره في الحاشية عن علي مرفوعًا؛ قال: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَة الرِّقَّة[13] يعني الدراهم من الفِضَّة المضروبة مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمْ، ولَيْسَ فِي تِسْعِينَ، ومِائَةَ شَيْء يعني في ما بين النِّصابَين فَإِذَا بَلَغَتِ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ هذا أخرجه بعض أصحاب السُّنن، وإسناده حسَن.

فالمقصود أنَّ قوله: عَفَا اللهُ عَنْهَا يعني: لم يُطالبكم بها، كما رُوِي: "وما سكت عنه فهو عفْو"[14].

يقول: وقيل إنَّ معنى عَفَا اللهُ عَنْهَا: عفا عنكم فيما تقدَّم من سؤالكم؛ عفا الله عن الأسئلة المتقدِّمة، يعني بعد نزول الآية لا يسأل أحد عن مثل هذا، وهذا المعنى الأخير هو الذي اختاره ابن جرير[15] وابن كثير[16].

يقول: فلا تعودوا إليه، لو قال قائل بأنَّ الأقرب - والله أعلم - هو أنَّ عفا عنها بمعنى لم يُطالبكم بها بسكوتِه عنها، فلا تُنقِّروا عنها فيكون ذلك سببًا لمساءتكِم إذا أبداها الله لكم، سواءً كان ذلك في الأحكام الشرعيَّة، أو الأحكام القَدَريَّة - كما سبق - كان هذا أقرب، الله - تعالى - أعلم -.

"وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة: 101]؛ فيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسوؤكم، والمراد بـ حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ: زمان الوحي."

هو هذا؛ يعني وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يعني: في، وقت نزول القرآن، في وقت تنزُّل الوحي، يعني في المدَّة التي ينزل فيها الوحي، ليس لوحي معيَّن في ساعته، وإنَّما، والنبي ﷺ بين أظهُرهِم، فالوحي نازلٌ عليه، فهذا إذا أبداه الله  ساءهم، ولهذا قال النبي ﷺ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، واخْتِلَافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ[17] ولهذا الصحابة كانوا يتأدَّبون بهذا، وما كانوا يُكثِرون على النبي ﷺ من السؤال، ويفرحون بمجيء الغريب، أو الأعرابي لِيسأل رسول الله ﷺ.

وبعضهم يقول: بأنَّ المراد وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ: يعني أنَّكم إذا سألتم بعد نزول القرآن عن ما أشكَل عليكم، أو خفِيَ من الأحكام، ونحو ذلك فالسؤال سائغ، يعني أنَّ الله يُبدِي لكم ذلك، ويُظهِره، وهذا رُوِي عن ابن عباسٍ - ا -[18] وهو اختيار ابن جرير[19] وأيضًا به قال جماعة كالقُرطُبي[20] والحافظ ابن رجب[21] والسَّعدي[22].

لكن أسباب النزول السابقة تبيِّن أنَّ المراد غير هذا، وأنَّ ذلك جميعًا جاء على سبيل النَّهي، والزَّجر عن السؤال عنها وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يعني كما حصَل تُبْدَ لَكُمْ وقول النبي ﷺ : إن أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[23] هذا يدلّ على المراد، فهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - أنَّ هذا جاء على سبيل النَّهي، والزَّجر عن السؤال عن مثل هذه المسائل.

ولذلك ذكَر أهل العِلم، كالشاطبي - رحمه الله - بأنَّ ممَّا يدخل في هذا السؤال عن أشياء ترَك الله - تبارك، وتعالى - ذِكرها من غير غفلةٍ عنها، ولا نسيان[24] فإذا جاء مَن يُنقِّر عنها فقد تُفرَض على الناس، مثل هذا الذي قال: أَفِي كلِّ عام؟ فهذا ممَّا يدخل في الذَّمّ، والنَّهي.

وذكروا في أيضًا ما يُذمّ من المسائل السؤال عن أمورٍ بعيدة الوقوع؛ يعني لا يكون السؤال من أجل التفقُّه، وإنَّما هي أمورٌ يفترِضها الإنسان بعيدة لا تكاد تقع، فهذا يكون مذمومًا، وكذلك قالوا: الأغاليط؛ وهي صِعاب المسائل، فعرْضُ ذلك لا يُحمَد، فهذا كلُّه ممَّا يدخل في هذا النَّهي لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ؛ يعني ممَّا يقع عليه الذَّمّ في السؤال متى يكون السؤال مذمومًا، فيدخل في صور متعدِّدة.

أمَّا السؤال لمجرَّد التفقُّه في حكمٍ أشكَل عليه، كما سأل عمر النبي ﷺ عن الكَلالة[25] وسألوا النبي ﷺ عن مواضع أشكَلت عليهم من القرآن، فمثل هذا لا إشكال فيه، ولا يُذمّ - والله أعلم -.

الفَرَضيَّات - ذكرتُ هذا - البعيدة الأشياء التي يبعُد وقوعُها، وهذا اشتُهِر به بعض الفقهاء كما هو معروف عن أهل الكوفة، يُكثِرون من أرأيتَ كذا؟ ورأيتَ كذا؟ ومثل الذي سأل عن رجلٍ، وطِأت دابَّتُه دجاجةً ميِّتة، فخرج منها بيضة، ففقَست عنده البيضة، فهل يحلُّ أكْل هذا الفَرخ، أو لا؟ باعتبار أنَّه خرَج من بيضة من دجاجةٍ ميِّتة، فهذا سؤال في ذلك الحين بعيد الوقوع، لكن مثل الآن يوجَد مثل هذه الآلات التي يفقِس البيض إذا وضِع بها، هذا أمْر يكثُر وقوعه.

ولذلك قالوا بأنَّ قدْرًا ليس بالقليل من مسائل هؤلاء المفترَضة؛ يعني أهل الكوفة، أنَّها وقعت فيما بعد، وذكَر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لو أنَّه كان صاحب جِنِّية؛ يعني يستعمل الجِنّ، فجاءت به من فوق عرَفة بالهواء، أنَّ ذلك يُجزِيه في الوقوف باعتبار أنَّ هواء الشيء له حُكم قاعِه، وأرضِه، هذه هي الصورة في ذلك الوقت، لكن الآن بالطائرة إذا مرَّ من فوق عرَفة، وهو محرِم حاجّ بالهواء فيصحُّ وقوفه.

ومثل الذي يعمل مثلاً بطائرة في الحجّ، سواء كان عملُه في إسعاف، أو في إعلام، أو غير ذلك، ولا ينزل في أرضِها فيصحّ وقوفُه، لا إشكال في هذا.

  1.  أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/112)، برقم (1475).
  2.  تفسير الطبري (9/17).
  3.  أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/112)، برقم (1475).
  4.  تفسير ابن كثير (3/204).
  5.  أخرجه الطبري في تفسيره (9/17)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها، وفوائدها (7/629).
  6.  أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7294)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ. وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2359)، واللفظ لمسلم.
  7.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).
  8. أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ. باب ما جاء كم فرض الحج، برقم (814)، وابن ماجه، أبواب المناسك، باب فرض الحج، برقم (2884) وضعفه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4/150).
  9. أخرجه الطبري في تفسيره (9/20)، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/206)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4/110)، برقم (1474)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (7671).
  10.  تفسير الطبري (9/21)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/207).
  11.  أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ. وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2358).
  12.  أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، برقم (1574)، والترمذي، أبواب الزكاة عن رسول الله ﷺ. باب ما جاء في زكاة الذهب، والورق، برقم (620)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب زكاة الورق، والذهب، برقم (1790)، وأحمد في المسند، برقم (711)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1406).
  13.  الحديث السابق.
  14.  أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب ما لم يذكر تحريمه، برقم (3800)، والحاكم في المستدرك، برقم (7113)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
  15.  تفسير الطبري (9/25).
  16.  تفسير ابن كثير (3/206).
  17.  أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ. برقم (7288)، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).
  18.  تفسير الطبري (9/21).
  19.  المصدر السابق (9/23 - 24).
  20.  تفسير القرطبي (6/333).
  21.  تفسير ابن رجب الحنبلي (1/450).
  22.  تفسير السعدي (ص: 246).
  23.  متفق عليه، وتقدم تخريجه.
  24.  انظر: الموافقات (1/45)، وما بعدها.
  25.  أخرجه مسلم، كتاب الفرائض، باب ميراث الكلالة، برقم (1617).