قبل الشروع في الكلام على تفسير هذه الآيات ينبغي أن نعرف أن مثل هذه الأمور يمكن أن يعرف أصل المعنى فيها أي أصل معنى البحيرة، وأصل معنى السائبة، وأصل معنى الوصيلة، ولكن تحديد المراد بذلك على وجه الدقة لا بد فيه من معرفة ما كان عليه العرب في الجاهلية، فإنه لا يتوصل إلى هذا بمجرد معرفة المعاني من اللغة، فهذا مما يطلب فيه معرفة حالٍ واقعة، وهذا الأمر ورد فيه روايات كثيرة، وكثير منها صحيح، وثابت؛ إلا أن هذه الروايات من حيث مدلولها، ومضمونها؛ مختلفة غير متفقة على تفسير هذه الأشياء بمعنىً واحد يتفق عليه هؤلاء الذين فسروها من الصحابة وأرضاهم الذين أدركوا ذلك، أو أدركوا مَن أدركه، فلما لم نجد شيئاً يحدد هذه الأمور بحيث يقال: هذا هو المراد بالبحيرة، وهذا هو المراد بالوصيلة، وهذا هو المراد بالسائبة، فإن غاية ما يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - هو أن يبيّن معنى البحيرة، فنقول: هي من البحر في اللغة وهو شق الأذن، حيث كانوا يشقون أذن البهيمة لمعنىً عندهم يعتقدونه في الجاهلية، فقد كانوا يتصرفون هذه التصرفات، ويشرِّعون من عند أنفسهم، أو من وحي الشيطان؛ هذه التشريعات التي يحرمون فيها على أنفسهم ما أحله الله من هذه البهائم والدواب لمعانٍ باطلة، وهذه المعاني الباطلة يحتمل أن تكون ما ذكر في بعض الروايات على وجه التفصيل، أو ما ذكر في غيرها، ومعرفة ذلك على وجه الدقة لا يترتب عليه عمل، وإذا كان لا يترتب عليه عمل فإنه لا يكون من صلب العلم، وإنما يتجلى المراد بالآية أن هذه من أوضاع الجاهلية، ومن تشريعات الشيطان؛ حيث حرَّموا على أنفسهم ما أحله الله ، وتصرفوا هذا التصرف الذي لا يليق بالعقلاء، ويُكتفى بهذا القدر، ولا بأس أن ينظر في الروايات الواردة في هذا المعنى، ولكن الوصول إلى تحديد المقصود بدقة أمر لا يمكن؛ لأن ذلك لا يوصل إليه إلا عن طريق الرواية، والرواية في ذلك قد اختلفت، فيبقى النظر في مثل هذا من فضول العلم، ولهذا نجد كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أعرض عن ذلك، وبيّن أصول المعاني لهذا الأشياء، وقال: يحتمل أن يكون البحيرة ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، يعني في التوصيف كما ورد في الروايات، لكن الجزم بشيء من هذا لا سبيل إليه، وأقول: مثل هذا لا يترتب عليه عمل، ولا يترتب عليه فهم القرآن، وإنما يكفي أن نعرف أنها أوضاع جاهلية، وأن نعرف أصل معنى البحيرة، وأصل معنى الوصيلة، وأصل معنى الحام، وقد يكون تفصيله كما جاء في بعض هذه الروايات أو غير ذلك، والعلم عند الله .
روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يُحمل عليها شيء.
قال: وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، والوصيلة الناقة البكر تُبكَّر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر[1]".
فذكرنا أن المحتاج إليه هو معرفة أصل المعنى في مثل هذه الأشياء، وذكرنا أنها كانت اعتقادات في الجاهلية يحرِّمون فيها بعض ما أحل الله لهم تشهياً من عند أنفسهم، أو من وحي الشيطان، وتفصيل ذلك قد اختلف الناقلون فيه، ولا ضرورة إلى معرفته على وجه الدقة، لكن يكفي تصور المعنى في الجملة.
قوله: "البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت" البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، فهي بمعنى مبحورة، والبحر المراد به شق الأذن، يقال: بحر الأذن: أي شقَّها، فهؤلاء كانوا يشقون أذن البهيمة إيذاناً بأن هذه متروكة ليست كغيرها من الدواب، أو البهائم، فربما خليت بلا راع - كما يقول بعضهم -، أي تترك فلا تُصدُّ، ولا تُردُّ، ولا تُذاد عن ماء، ولا مرعىً، ولا غيره، وإنما يتركونها هكذا.
ومن تركها أيضاً أن يجعلوا درّها للطواغيت، فلا ينتفعون بلبن، ولا يسلئون منها زبداً، ولا يأقطون أقطاً ولا غير ذلك، فالمقصود أنهم لا ينتفعون بشيء منها، بل تجد كثيراً من الروايات التي تذكر بعض التفاصيل في ماذا يصنع بهذه البحيرة - في كثير من هذه الروايات - أنهم يشقون الأذن علامة على ذلك، ويعتقدون فيها هذه الاعتقادات الفاسدة.
ثم قال: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم" السائبة من التسييب وهو الترك، فكانوا يسيبونها بحيث لا يحمل عليها، ولا تركب، ولا تذبح فينتفع بها، وإنما سائبة ترعى، وترد الماء؛ لا يتعرض لها أحد بحال من الأحوال، وسواء فعلوا ذلك في الناقة، أو البعير، أو غيرها على سبيل النذر كأن يكون الإنسان مسافراً فينذر بقوله: إذا وصلتُ فعليَّ نذر أن أُسيِّب هذه الناقة، أو يقول: عليَّ نذر أن أسيَّب هذا البعير إذا وصلت سالماً؛ فيسيبه، ثم يضع له علامة يُعرف بها حتى لا يتعرض له أحد، فيُترك لا ينتفع به أحد، فأهل الجاهلية كانوا يسيبونها للطواغيت.
والوصيلة: من الوصل أي وصل الشيء بالشيء، وهذا الوصل المراد به في الآية تختلف تفاصيل الروايات فيه، فهذه الرواية التي ذكرها هنا من أن الناقة تصل بين أنثيين يعني تلد أنثى وهي أنفس المولودين، بمعنى أنه بالنسبة للبهائم الأنفس فيها هي الأنثى؛ لأنها محل التكاثر، فهي الأحسن عندهم بخلاف الذكر فإنه وحده، فالحاصل إذا جاءت بأنثى ثم أنثى مباشرة يقولون: وصلت أنثى بأنثى فهذه وصيلة، فيتركونها، فكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام من الحماية، والمعنى هنا أنه قد حمى ظهره، وهذا الذي حمى ظهره هو البعير، حيث يجعلون له حداً محدوداً من الضراب فإذا أنتج مثلاً عشرة بطون فإنهم يقولون: حمى ظهره يعني أدى ما عليه، وقام بإنجاز جيد، فبعد ذلك لا يتعرض له أحد، ويضعون له علامة، ويقولون هذا حام لا أحد يركبه، ولا أحد يحمل عليه، ولا يذبح، وهذا أصل هذا المعنى، لكن كم مرة يحتاج من الضراب حتى يحمي ظهره؟ هذه القضية تختلف الروايات في تفصيلها، ولا سبيل إلى معرفتها؛ لأن المنقول عنهم اختلفت الروايات فيه، ونحن لا يمكن أن نعرف هذا بطريقة الترجيح، فالمعنى اللغوي وحده لا يكفي في معرفة ذلك، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن أول من سيب السوائب، وعبد الأصنام؛ أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار[2] تفرد به أحمد من هذا الوجه.
عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [سورة الأنعام:136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس؛ فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جدعوا آذانها؛ فقالوا: هذه بحيرة، وذكر السدي وغيره قريباً من هذا.
وأما السائبة فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكراً أو أنثى أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب، ولم يجزَّ وبرها، ولم يحلب لبنها؛ إلا لضيف.
وقال أبو روق: السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت، فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السدي: كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته، أو عوفي من مرض، أو كثر ماله؛ سيب شيئاً من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا، رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: وَلاَ وَصِيلَةٍ [سورة المائدة:103] قال: فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر بالأنثى ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم، وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة، وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كان ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام فقال العوفي عن ابن عباس - ا - قال: "كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل: حام؛ فاتركوه"، وكذا قال أبو روق وقتادة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حِمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه".
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيبوه"، وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية".
الروايات في هذا كثيرة الاختلاف في التفاصيل، لكن يتبيّن أن أصل هذا المعنى أنها طقوس وأوضاع كانت عندهم في البهائم، وأما التفاصيل فهي نظم جاهلية، وأوضاع بعيدة عن شرع الله ، وربما يكون عندهم خلاف في التفصيل متى يحمي ظهره، ومتى لا يحمي، ومتى تكون الوصيلة، ومتى لا تكون، وهذا يحتاج إلى فقه، وأناس يتفرغون لدراسة هذه الأشياء، ومتابعة تاريخ ميلاد للبهيمة حتى يُعرف كم أنجبت من الذكور، وكم من الإناث، وهذا البعير كم صار له من الضراب لمعرفة متى يحمي ظهره، أو ما يحمي ظهره، فإذا اشتراه الإنسان لا بد أن يأخذ معه شهادة بذلك حتى لا يغلط، وهذا كله من أمور الجاهلية، ومن يقرأ في مثل كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يجد فيه أشياء مضحكة من تشريعات في هذا، أو في طقوس الحج، وأوضاع الحج، وأوضاع الحرام عندهم، ومتى يروح إذا ذهب إلى بعض المتنسك عندهم من الأصنام، والأوثان، ومحلات الذبح والقرابين قبل الحج ما الأحكام التي تترتب عليه، وإذا ذهب بعد الحج ما الأحكام التي تترتب عليه، وإذا كان من الحمس فلا يسلئون، ولا يأقطون، ولا يزبدون، وإذا كان من غير الحمس إذا دخل حدود الحرم لا بد أن يريق الطعام الذي عنده، فلا يدخل إلى أرض الحرم ومعه منه شيء، وإذا جاء يطوف ألقى ثيابه، وطاف وهو عار - والمرأة تطوف بالليل - إلا إن كان عنده ثوب جديد، أو له صاحب من الحمس؛ بهذين الشرطين، فإذا كان عنده واحد من الحمس، أو عنده ثوب جديد؛ لبسه، وطاف فيه، لكن لا بد أن يلقيه في نهاية الطواف بمعنى أن العري هذا أمر لا بد منه، ويدوسون هذا الثوب الملقي، وليس لأحد أخذه، ويسمونه اللقا لا يجوز أخذه، ولا الانتفاع به؛ حتى يبلى ويتمزق، ولذلك تجد الطواف كله ثياباً مرمية.
وهكذا تجد أوضاعاً وأموراً عجيبة منها أن قبيلة عك لا بد أن يقف أمامها اثنان من الأرقاء - أي غلامان أسودان أمام الموكب الذاهب إلى الحج -، ويرددون: نحن غرابا عك، عك إليك عانية .. عبادك اليمانية ... الخ.
فمن قرأ الأوضاع العجيبة، وكيف مسألة الدخول إلي البيت، والاستظلال لمن أحرم، وكيف أنه لا بد أن يتسور الداخل إلى البيت؛ سيشعر بنعمة العقل، ونعمة الإسلام الذي وهبه الله إياه، فيحمد الله على ذلك.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة المائدة:103] أي: ما شرع الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك، وجعلوه شرعاً لهم، وقربة يتقربون بها إليه؛ وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم".
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4347) (ج 4 / ص 1690).
- أخرجه أحمد (4258) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1677).
- أخرجه الطبراني في الكبير (16280) وابن حبان في صحيحه (5615) والحاكم في مستدركه (65) وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب مختصراً وصححه برقم (1093).