الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [سورة المائدة:103-104].

قبل الشروع في الكلام على تفسير هذه الآيات ينبغي أن نعرف أن مثل هذه الأمور يمكن أن يعرف أصل المعنى فيها أي أصل معنى البحيرة، وأصل معنى السائبة، وأصل معنى الوصيلة، ولكن تحديد المراد بذلك على وجه الدقة لا بد فيه من معرفة ما كان عليه العرب في الجاهلية، فإنه لا يتوصل إلى هذا بمجرد معرفة المعاني من اللغة، فهذا مما يطلب فيه معرفة حالٍ واقعة، وهذا الأمر ورد فيه روايات كثيرة، وكثير منها صحيح، وثابت؛ إلا أن هذه الروايات من حيث مدلولها، ومضمونها؛ مختلفة غير متفقة على تفسير هذه الأشياء بمعنىً واحد يتفق عليه هؤلاء الذين فسروها من الصحابة وأرضاهم الذين أدركوا ذلك، أو أدركوا مَن أدركه، فلما لم نجد شيئاً يحدد هذه الأمور بحيث يقال: هذا هو المراد بالبحيرة، وهذا هو المراد بالوصيلة، وهذا هو المراد بالسائبة، فإن غاية ما يمكن أن يقال - والله تعالى أعلم - هو أن يبيّن معنى البحيرة، فنقول: هي من البحر في اللغة وهو شق الأذن، حيث كانوا يشقون أذن البهيمة لمعنىً عندهم يعتقدونه في الجاهلية، فقد كانوا يتصرفون هذه التصرفات، ويشرِّعون من عند أنفسهم، أو من وحي الشيطان؛ هذه التشريعات التي يحرمون فيها على أنفسهم ما أحله الله من هذه البهائم والدواب لمعانٍ باطلة، وهذه المعاني الباطلة يحتمل أن تكون ما ذكر في بعض الروايات على وجه التفصيل، أو ما ذكر في غيرها، ومعرفة ذلك على وجه الدقة لا يترتب عليه عمل، وإذا كان لا يترتب عليه عمل فإنه لا يكون من صلب العلم، وإنما يتجلى المراد بالآية أن هذه من أوضاع الجاهلية، ومن تشريعات الشيطان؛ حيث حرَّموا على أنفسهم ما أحله الله ، وتصرفوا هذا التصرف الذي لا يليق بالعقلاء، ويُكتفى بهذا القدر، ولا بأس أن ينظر في الروايات الواردة في هذا المعنى، ولكن الوصول إلى تحديد المقصود بدقة أمر لا يمكن؛ لأن ذلك لا يوصل إليه إلا عن طريق الرواية، والرواية في ذلك قد اختلفت، فيبقى النظر في مثل هذا من فضول العلم، ولهذا نجد كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أعرض عن ذلك، وبيّن أصول المعاني لهذا الأشياء، وقال: يحتمل أن يكون البحيرة ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، أو ما ذكره فلان، يعني في التوصيف كما ورد في الروايات، لكن الجزم بشيء من هذا لا سبيل إليه، وأقول: مثل هذا لا يترتب عليه عمل، ولا يترتب عليه فهم القرآن، وإنما يكفي أن نعرف أنها أوضاع جاهلية، وأن نعرف أصل معنى البحيرة، وأصل معنى الوصيلة، وأصل معنى الحام، وقد يكون تفصيله كما جاء في بعض هذه الروايات أو غير ذلك، والعلم عند الله .
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [سورة المائدة:103-104].
روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يُحمل عليها شيء.
قال: وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، والوصيلة الناقة البكر تُبكَّر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر[1]".

فذكرنا أن المحتاج إليه هو معرفة أصل المعنى في مثل هذه الأشياء، وذكرنا أنها كانت اعتقادات في الجاهلية يحرِّمون فيها بعض ما أحل الله لهم تشهياً من عند أنفسهم، أو من وحي الشيطان، وتفصيل ذلك قد اختلف الناقلون فيه، ولا ضرورة إلى معرفته على وجه الدقة، لكن يكفي تصور المعنى في الجملة.
قوله: "البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت" البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، فهي بمعنى مبحورة، والبحر المراد به شق الأذن، يقال: بحر الأذن: أي شقَّها، فهؤلاء كانوا يشقون أذن البهيمة إيذاناً بأن هذه متروكة ليست كغيرها من الدواب، أو البهائم، فربما خليت بلا راع - كما يقول بعضهم -، أي تترك فلا تُصدُّ، ولا تُردُّ، ولا تُذاد عن ماء، ولا مرعىً، ولا غيره، وإنما يتركونها هكذا.
ومن تركها أيضاً أن يجعلوا درّها للطواغيت، فلا ينتفعون بلبن، ولا يسلئون منها زبداً، ولا يأقطون أقطاً ولا غير ذلك، فالمقصود أنهم لا ينتفعون بشيء منها، بل تجد كثيراً من الروايات التي تذكر بعض التفاصيل في ماذا يصنع بهذه البحيرة - في كثير من هذه الروايات - أنهم يشقون الأذن علامة على ذلك، ويعتقدون فيها هذه الاعتقادات الفاسدة.
ثم قال: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم" السائبة من التسييب وهو الترك، فكانوا يسيبونها بحيث لا يحمل عليها، ولا تركب، ولا تذبح فينتفع بها، وإنما سائبة ترعى، وترد الماء؛ لا يتعرض لها أحد بحال من الأحوال، وسواء فعلوا ذلك في الناقة، أو البعير، أو غيرها على سبيل النذر كأن يكون الإنسان مسافراً فينذر بقوله: إذا وصلتُ فعليَّ نذر أن أُسيِّب هذه الناقة، أو يقول: عليَّ نذر أن أسيَّب هذا البعير إذا وصلت سالماً؛ فيسيبه، ثم يضع له علامة يُعرف بها حتى لا يتعرض له أحد، فيُترك لا ينتفع به أحد، فأهل الجاهلية كانوا يسيبونها للطواغيت.
والوصيلة: من الوصل أي وصل الشيء بالشيء، وهذا الوصل المراد به في الآية تختلف تفاصيل الروايات فيه، فهذه الرواية التي ذكرها هنا من أن الناقة تصل بين أنثيين يعني تلد أنثى وهي أنفس المولودين، بمعنى أنه بالنسبة للبهائم الأنفس فيها هي الأنثى؛ لأنها محل التكاثر، فهي الأحسن عندهم بخلاف الذكر فإنه وحده، فالحاصل إذا جاءت بأنثى ثم أنثى مباشرة يقولون: وصلت أنثى بأنثى فهذه وصيلة، فيتركونها، فكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام من الحماية، والمعنى هنا أنه قد حمى ظهره، وهذا الذي حمى ظهره هو البعير، حيث يجعلون له حداً محدوداً من الضراب فإذا أنتج مثلاً عشرة بطون فإنهم يقولون: حمى ظهره يعني أدى ما عليه، وقام بإنجاز جيد، فبعد ذلك لا يتعرض له أحد، ويضعون له علامة، ويقولون هذا حام لا أحد يركبه، ولا أحد يحمل عليه، ولا يذبح، وهذا أصل هذا المعنى، لكن كم مرة يحتاج من الضراب حتى يحمي ظهره؟ هذه القضية تختلف الروايات في تفصيلها، ولا سبيل إلى معرفتها؛ لأن المنقول عنهم اختلفت الروايات فيه، ونحن لا يمكن أن نعرف هذا بطريقة الترجيح، فالمعنى اللغوي وحده لا يكفي في معرفة ذلك، والله أعلم.
"والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعوه للطواغيت، وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي، وكذا رواه مسلم والنسائي.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن أول من سيب السوائب، وعبد الأصنام؛ أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار[2] تفرد به أحمد من هذا الوجه.
عمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [سورة الأنعام:136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس؛ فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جدعوا آذانها؛ فقالوا: هذه بحيرة، وذكر السدي وغيره قريباً من هذا.
 وأما السائبة فقال مجاهد: هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكراً أو أنثى أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق: السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب، ولم يجزَّ وبرها، ولم يحلب لبنها؛ إلا لضيف.
وقال أبو روق: السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت، فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السدي: كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته، أو عوفي من مرض، أو كثر ماله؛ سيب شيئاً من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا، رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: وَلاَ وَصِيلَةٍ [سورة المائدة:103] قال: فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر بالأنثى ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم، وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -.
وقال محمد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة، وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كان ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام فقال العوفي عن ابن عباس - ا - قال: "كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل: حام؛ فاتركوه"، وكذا قال أبو روق وقتادة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئاً، ولا يجزون له وبراً، ولا يمنعونه من حِمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه".
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيبوه"، وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية".

الروايات في هذا كثيرة الاختلاف في التفاصيل، لكن يتبيّن أن أصل هذا المعنى أنها طقوس وأوضاع كانت عندهم في البهائم، وأما التفاصيل فهي نظم جاهلية، وأوضاع بعيدة عن شرع الله ، وربما يكون عندهم خلاف في التفصيل متى يحمي ظهره، ومتى لا يحمي، ومتى تكون الوصيلة، ومتى لا تكون، وهذا يحتاج إلى فقه، وأناس يتفرغون لدراسة هذه الأشياء، ومتابعة تاريخ ميلاد للبهيمة حتى يُعرف كم أنجبت من الذكور، وكم من الإناث، وهذا البعير كم صار له من الضراب لمعرفة متى يحمي ظهره، أو ما يحمي ظهره، فإذا اشتراه الإنسان لا بد أن يأخذ معه شهادة بذلك حتى لا يغلط، وهذا كله من أمور الجاهلية، ومن يقرأ في مثل كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يجد فيه أشياء مضحكة من تشريعات في هذا، أو في طقوس الحج، وأوضاع الحج، وأوضاع الحرام عندهم، ومتى يروح إذا ذهب إلى بعض المتنسك عندهم من الأصنام، والأوثان، ومحلات الذبح والقرابين قبل الحج ما الأحكام التي تترتب عليه، وإذا ذهب بعد الحج ما الأحكام التي تترتب عليه، وإذا كان من الحمس فلا يسلئون، ولا يأقطون، ولا يزبدون، وإذا كان من غير الحمس إذا دخل حدود الحرم لا بد أن يريق الطعام الذي عنده، فلا يدخل إلى أرض الحرم ومعه منه شيء، وإذا جاء يطوف ألقى ثيابه، وطاف وهو عار - والمرأة تطوف بالليل - إلا إن كان عنده ثوب جديد، أو له صاحب من الحمس؛ بهذين الشرطين، فإذا كان عنده واحد من الحمس، أو عنده ثوب جديد؛ لبسه، وطاف فيه، لكن لا بد أن يلقيه في نهاية الطواف بمعنى أن العري هذا أمر لا بد منه، ويدوسون هذا الثوب الملقي، وليس لأحد أخذه، ويسمونه اللقا لا يجوز أخذه، ولا الانتفاع به؛ حتى يبلى ويتمزق، ولذلك تجد الطواف كله ثياباً مرمية.
وهكذا تجد أوضاعاً وأموراً عجيبة منها أن قبيلة عك لا بد أن يقف أمامها اثنان من الأرقاء - أي غلامان أسودان أمام الموكب الذاهب إلى الحج -، ويرددون: نحن غرابا عك، عك إليك عانية .. عبادك اليمانية ... الخ.
فمن قرأ الأوضاع العجيبة، وكيف مسألة الدخول إلي البيت، والاستظلال لمن أحرم، وكيف أنه لا بد أن يتسور الداخل إلى البيت؛ سيشعر بنعمة العقل، ونعمة الإسلام الذي وهبه الله إياه، فيحمد الله على ذلك.
"وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه مالك بن نضلة قال: أتيت النبيَّ ﷺ في خلقان من الثياب، فقال لي: هل لك من مال؟ فقلت: نعم، قال: من أي المال؟ قال: فقلت: من كل المال من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق، قال: فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ عليك ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال: قلت: نعم، وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟، قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بُحير، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه حرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته، ولا بناته، ولا أحد من أهل بيته؛ بصوفها، ولا أوبارها، ولا أشعارها، ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها، وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة: فالشاة تلد ستة أبطن فإذا ولد السابع جدعت، وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها، ولا تضرب، ولا تمنع مهما وردت على حوض"[3] هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث، وقد رُوي وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك من قوله وهو أشبه، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن أبيه به، وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [سورة المائدة:103] أي: ما شرع الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك، وجعلوه شرعاً لهم، وقربة يتقربون بها إليه؛ وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم".
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4347) (ج 4 / ص 1690).
  2. أخرجه أحمد (4258) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1677).
  3. أخرجه الطبراني في الكبير (16280) وابن حبان في صحيحه (5615) والحاكم في مستدركه (65) وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب مختصراً وصححه برقم (1093).

مرات الإستماع: 0

"مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ؛ لما سأل قومٌ عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تُعظَّم لتعظيم الكعبة، والهَدي؟ أخبرهم الله أنَّه لم يجعل شيئًا من ذلك لعباده؛ أي: لم يشْرَعه لهم، وإنَّما الكفار جعلوا ذلك.

فأمَّا البَحيرة: فهي فَعيلة بمعنى مفعولة من بَحِر إذا شَقَّ، وذلك أنَّ الناقة إذا أنتجت عشرة أبطُنٍ شَقُّوا آذانها، وتركوها تَرعى، ولا يُنتفَع بها.

وأمَّا السَّائبة: فكان الرجل يقول: إذا قَدِمتُ من سفَري، أو بَرِئْتُ من مَرَضي فناقتي سَائبة، وجعَلها كـ البَحِيرة: في عدم الانتفاع بها.

وأمَّا الوَصِيلة: فكانوا إذا ولدت الناقة ذَكرًا، وأنثى في بطنٍ واحد قالوا: وصلَت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وفي النُّسخ الخطِّية: فلم يذبحوه.

وأمَّا الحامي: فكانوا إذا نتَجت من صُلْب الجمل عشرة بطونٍ قالوا: قد حَمَى ظهره فلا يُركَب، ولا يُحمَل عليه شيء."

الصحيح قوله: وصلَت الناقة أخاها فلم يذبحوه، وليست يذبحوها، وهذه المذكورات هنا فيها تفاصيل كثيرة لأهل العِلم غير متَّفِقة، وليس ذلك بالمهم، بمعنى يكفي أن يُعرَف أنَّ ذلك من أعمال أهل الجاهليَّة ممَّا أملاه عليهم الشيطان، في أمورٍ لم يُشرِّعها الله - تبارك، وتعالى - ولم يأذَن بها، وهذه لا تُعرَف من جِهة اللغة بمجرَّدها، وإنَّما هذا النوع يُعرَف من جِهة الوقوف على أحوال العرب في الجاهليَّة، وما كانوا عليه، وملابَسات النزول؛ بمعنى أنَّ فهْمَ القرآن يتوقَّف على جُملة أمور، فيُرجَع فيه إلى القرآن نفسِه، فيفسِّر بعضه بعضًا، وإلى سُنَّة رسول الله ﷺ وإلى أقوال السَّلف الصالح من الصحابة فمَن بعدهم، لِيُفهَم، وهم أعلَم الناس بكتاب الله، وكذلك أيضًا يُرجَع إلى لغة العرب، هذا بالإضافة إلى معرفة ملابَسات النزول، وأسباب النزول، وأحوال العرب في وقت التنزيل.

وما ذكره هنا المؤلِّف في تفسير هذه البَحيرة يقول: وذلك أنَّ الناقة إذا أنتجت عشرة أبطُنٍ؛ يعني إذا ولَدت عشرة أبطُن؛ يعني عشر مرَّات، عشرة أولاد، شَقُّوا آذانها، وتركوها تَرعى، ولا يُنتفَع بها، فهنا يقول: عشرة أبطن، وبعضهم يقول: خمسة أبطن، يفعلون ذلك، وتُحرَّم على النِّساء، ويُمنَح دَرُّها للطواغيت؛ لأصنامهم، لمعبوداتِهم من دون الله - تبارك، وتعالى - يتركونها ما تُحلَب، وقِيل غير هذا.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسَّر هذه الأشياء مثلاً أنَّها إذا نُتِجَت خمسة أبطن، هذا ساقَه عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة[1] ينظرون إلى الخامس، فإن كان ذَكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، وإن كان أنثى جذعوا آذانَها، فقالوا: هذه بَحيرة؛ يعني أنَّ البَحيرة هنا هي التي ولِدت، وليس التي ولَدت، بهذا الاعتبار.

وهكذا السَّائبة؛ هنا يقول: بأنَّ الرجل إذا قَدِم من السَّفر، أو نحو ذلك، بَرِئ، يقول: ناقتي سَائبة، وجعَلها كـ البَحِيرة: في عدم الانتفاع بها، فيُسيِّبونها لطواغيتِهم، فلا يُحمَل عليها شيء، أو هي التي تُسيَّب في المرعى فلا تُردّ عن حوضٍ، ولا علَف، يعني تَرِد على النَّاس في إِبِلهم، ومِياهِهم، ونحو ذلك فلا تُردّ، هذه السَّائبة.

ونقَل ابن كثير - رحمه الله - هنا عن مجاهد قال: "هي من الغَنَم"[2] نحو ما فُسِّر من البَحيرة، إلَّا أنَّها ما ولدت من ولد كان بينها، وبينه ستّة أولاد، كانت على هيئتِها، فإذا ولدت السابع ذَكرًا، أو أنثى، أو ذَكرَين ذبحوه، فأكلَه رجالهم دون نسائهم.

وهكذا نقَل عن محمَّد بن إسحاق؛ قال: "هي النَّاقة" لاحظ هناك الغَنَم، وهنا النَّاقة، والمشهور أنَّ هذا في الإبل، ابن إسحاق يقول بأنَّ السَّائبة: "النَّاقة إذا ولدت عشر إناث من الوَلد ليس بينهنّ ذَكر، سُيِّبَت فلم تُركَب، ولم يُجَزّ وبرُها، ولم يُحلَب لَبنُها إلَّا لِضيف"[3] هكذا نقَل أيضًا عن أبي رَوْقْ[4] مثل ما ذكَر ابن جُزيّ، وكذلك نقَل عن السُّدِّي[5] هذه السَّائبة.

وهنا قال الوَصيلة: فكانوا إذا ولدت الناقة ذَكرًا، وأنثى في بطنٍ، واحد قالوا: وصلَت الناقة أخاها فلم يذبحوه، بعضهم يقول: هي الناقة إذا ولدت سبعة أبطن، نظروا؛ فإن كان السابع ذَكرًا ذُبِح، فأكَل منه الرجال، والنِّساء، وإن كان أنثى تُرِكت، وإن كان ذكرًا، وأنثى قالوا: قد وصلت أخاها فلم تُذبَح، بدفْعِها عنه الذَّبح، وكانت لحومها حرامًا على النساء، إلَّا أن يموت منها شيء؛ المــَيتة منها، فيأكله الرجال، والنساء، هذه الوَصيلة، وهذا ليس محلّ اتفاق.

جاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة في الوَصيلة: "هي الشَّاة إذا نُتِجَت سبعة أبطن نظروا إلى السَّابع، فإن كان ذَكرًا، أو أنثى، وهو ميِّت اشترك فيه الرجال دون النساء"[6] فهنا قال: "الرجال دون النساء" وهناك: "يشترك فيه الرجال، والنساء" وإن كان أنثى استحيَوها؛ يعني يُبقوها حيَّة، وإن كان ذَكرًا، وأنثى في بطنٍ واحد استحيَوهما، وقالوا: وصِلته أختُه فحرَّمته علينا.

وهكذا نقَل عن سعيد بن المسيِّب قال: "الوَصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بالأنثى، ثم ثنَّت بأنثى، فسمَّوها الوَصيلة"[7] يعني المولود الثاني، ويقولون: وصلت أنثيَين ليس بينهما ذَكر، فكانوا يجذعونها لطواغيتهم.

وهكذا ذكَر محمد بن إسحاق، قال: "الوَصيلة من الغَنَم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطُن - يعني في كلّ بطنٍ اثنان - توأمَين توأَمين في كلِّ بطنٍ، سُمِّيت الوَصيلة، وتُرِكت، فما ولَدت بعد ذلك من ذَكرٍ، أو أنثى جُعِلت للذكور دون الإناث، وإن كانت مَيتة اشتركوا فيها"[8].

وهنا بعضهم يذكر بأنَّ الوَصيلة الشاة تلِد ستَّة أبطُن، فإذا ولَدت السابع جُدعت، وقُطِع قرنُها، فيقولون: قد وصِلت، فلا يذبحونها، ولا تُمنَع مهما وردت على حَوض، لاحظ هذه الأقوال في تفسيره.

كذلك الحامية؛ نقَل ابن عباس - لكن بطريقٍ لا يصحّ - قال: كان الرجل إذا لقَّح فحْلُه عشرًا قِيل حامٍ، فاتركوه، يعني حينما يُضرِّب عشر سنين يتركونه، وهذا جاء عن جماعة، وجاء عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة: "بأنَّه الفَحْل من الإبل إذا ولِد لوَلده قالوا: حَمَى هذا ظهرَه، فلا يحمِلون عليه شيئًا، ولا يجُزُّون له وبرًا، ولا يمنعونه من حِمَى؛ - يعني في الرَّعي - أو من حَوضٍ يشرب منه، وإن كان الحَوض لغير صاحبه"[9].

قال الإمام مالك: "بأنَّه من الإبل - يعني: إذا حصَل له الضِّراب - فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيَّبوه"[10] إلى غير هذا.

مثل هذه الأقوال كما ترون هي مختلفة، لكن هذا لا يؤثِّر؛ لأنَّه لا يترتَّب عليه حُكم، يكفي أن يُعرَف أنَّ هذه المزاوَلات كانت في الجاهلية؛ يجعلون فيما رزقهم الله من الأنعام ممَّا لم يأذن الله - تبارك، وتعالى - به، لكن هل هذا الفَحْل الذي هو الحام هل يُضرِّب بقَدْر عشر سنوات، أو أقل، أو أكثر؟

وكذلك هذه السَّائبة تكون بطريقٍ كالنَّذر مثلاً، أو غير ذلك، والوَصيلة إذا نُتِجت؛ يعني صار لها أولاد؛ ولَدت بقدْرٍ معيَّن، فهذا لا أثَر له، ولا حاجة إلى معرفتِه على وجهه؛ لأنَّ هذه من أعمال الجاهلية، وترَّاهات الجاهلية، لكن يحصُل المراد بفَهم كلام الله - تبارك، وتعالى - بهذا القَدْر المجمَل أمَّا التفاصيل فهذه أخبار العرب فيها مختلفة، ولا يُستغرَب مثل هذا؛ لأنَّها أمور مَبناها على الجهل، والجهالة، ومثل هذا لا يُضبَط.

وقد تكون هذه الأحوال مختلفة عندهم بين قبائلِهم؛ لأنَّ الشيطان يُملي لهم وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: 82] فهذا ليس من عند الله ومثل هذا يكفي معرفتُه إجمالاً، ولا يتوقَّف على هذه التفاصيل فهْمُ المعنى، ولا ينبني عليها حُكم.

ومَن أراد أن يعرف التفاصيل بسورة، فكُتُب التفسير تذكر هذا، لكن أنا ذكرت هذا قصْدًا لأبيِّن مدى ما وجِد من تفاوت، واختلاف في توصيف ذلك، وإلَّا لم أقضِ به هذا الوقت، ومَن أراد الوقوف على تفاصيل أكثر فليرجِع إلى الكتب المصنَّفة في أحوال العرب، وأخبارهم، وأوسع ذلك - كما ذكرت في بعض المناسبات - كتاب: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لعلي جَوَاد، هذا يقَع في نحو عشرة مجلَّدات كِبار، يذكر فيه التفاصيل، ويُضيف ذلك إلى قبائل العرب، ويُسمِّيها، فاجتمع فيه ما لا يكاد يجتمع في غيره، سواءً من شعائر دِينهم، ومزاوَلاتِهم التعبُّديَّة، ومَناسكِهم، أو كان ذلك بما يتعلَّق بدُنياهم؛ يعني عندما يتحدَّث عن شعرائهم، أو عن فُرسانِهم، أو عن صعاليكِهم، أو غير ذلك، تجد مثل هذا يُذكَر.

غِربان العرب؛ الذين هم من العرب، من صلب العرب، لكنَّهم من ذوي السَّواد في لون البشرة، يعني عرب أقحاح لكنَّهم بحالٍ من السّواد، عرب ألوانهم المعروفة، مثل هذه الألوان التي هي بين البياض الشديد؛ يعني الأمم اللاتينيَّة، وأهل البياض هذا، وبين السُّمرة التي هي أوَّل السَّواد كما ذكَر أهل الرَّحلات حينما وصفوا مثلاً بلاد الهند، فالعرب بَين بَين؛ بين هؤلاء، وهؤلاء، لكن يوجَد منهم مَن هو بلون السَّواد، وهم قلة، فذكروا غِربان العرب، منهم الشاعر المشهور المعروف صاحب المعلَّقة، ومن جُملة هؤلاء منهم عنترة أيضًا، فبعض هؤلاء من المشاهير، بل كلُّهم من المشاهير.

وهنا يقول: وأمَّا الوَصِيلة: فكانوا إذا ولَدت الناقة ذَكرًا، وأنثى في بطنٍ واحد قالوا: وصلَت الناقة أخاها فلم يذبحوه؛ هذا كما سبق، لاحظ أنَّ ابن جُزي حمَل ذلك جميعًا على الإبل، وبعضهم فسَّر بالغَنَم، وهذا غير مهم، والمشهور أنَّه في الإبل.

قال: وأمَّا الحامي: فكانوا إذا نتَج من صُلْب الجمل عشرة بطونٍ قالوا: قد حَمَى ظهره، فلا يُركَب، ولا يُحمَل عليه؛ يعني يتركونه لطواغيتِهم، وابن جرير - رحمه الله - بيَّن أصْل معنى البَحيرة، والسَّائبة، والوَصيلة، ثم ذكَر أنَّ ذلك لا وجود له الآن، والأخبار في بيان الواقع آنذاك مختلفة، وبِناءً عليه لا عِلم لنا به، هكذا يقول ابن جرير - رحمه الله -[11].

وهذا صحيح؛ يعني لا نستطيع أن نجزم بشيءٍ من ذلك أنَّ هذا هو الذي يُقال له: وصيلة بعينِه دون غيرِه، أو يُقال له: سائبة دون غيره.

"وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ؛ أي: يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرِّم الله وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ؛ الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك الأشياء، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلِّدون لهم." 
  1. تفسير ابن كثير (3/210).
  2.  المصدر السابق.
  3.  المصدر السابق.
  4.  المصدر السابق.
  5.  المصدر السابق.
  6.  المصدر السابق.
  7. - المصدر السابق.
  8.  المصدر السابق.
  9.  المصدر السابق (3/211).
  10.  المصدر السابق.
  11. انظر: تفسير الطبري (9/39).