الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوٓا۟ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ [سورة المائدة:11].
روى عبد الرزاق عن جابر أن النبي ﷺ نزل منزلاً، وتفرق الناس في العضَاه يستظلون تحتها، وعلق النبي ﷺ سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ،  فأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي ﷺ،  فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله  قال الأعرابي مرتين، أو ثلاثاً: من يمنعك مني؟ والنبي ﷺ يقول: الله قال: فَشَام الأعرابي السيف، فدعا النبي ﷺ أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه[1]."

هذه الواقعة ثابتة لا شك في صحتها، لكن كون هذا هو سبب النزول فهذا لم يرد في رواية صحيحة -فيما أعلم -، ومثل ذلك القول بأنها نزلت في بني النضير من اليهود، فكل ذلك لا يخلو من ضعف، وإن كان أصل هذه الواقعة لا شك في ثبوته.
"وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله ﷺ فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية [سورة المائدة:11]، وقصة هذا الأعرابي - وهو غورث بن الحارث - ثابتة في الصحيح[2]."

هنا يقول: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ.. [سورة المائدة:11]"، وهذه ليست من العبارات الصريحة في سبب النزول، وإنما أشبه ما تكون بقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وقد ذكرنا أن هذا من قبيل التفسير، يعني كأنه يقول: إن هذه الآية تشير إلى مثل هذا الذي وقع، لكن لا يعني هذا أنه سبب النزول، وهذه من الألفاظ النادرة التي ترد فيما يتعلق بأسباب النزول، مثل تأول قوله كذا، ومثل قوله: نزلت في كذا.. الخ.
ويمكن تقسيم هذه الألفاظ على النحو الآتي:
إذا ذكر واقعة حدثت، أو سئل سؤال، ثم قال: فنزلت أو فأنزل الله، فهذه أقوى المراتب التي سنذكرها هنا، ثم يليها نزلت هذه الآية في كذا؛ فهذه تحتمل أن تكون سبب النزول، ثم يلي ذلك مثل هذا الذي ذكر في هذه الآية: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية [سورة المائدة:11]" فهذا واضح أنه لا يقصد أن ذلك سبب النزول، وإنما يقصد أنها مما يدخل في الآية - والله أعلم -.
"وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار، ومجاهد، وعكْرِمَة، وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النَّضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله ﷺ الرحَى."

وهذا أيضاً يقول به ابن جرير لكنه لا يحدد هذه القضية، فابن جرير - رحمه الله - يقول: هذه في غدر اليهود، وما هموا به من الإساءة، أو العدوان على النبي ﷺ، وعلى المسلمين، ولم يحدد مثل هذا، لكن مثل هذه الروايات عن محمد بن إسحاق بن يسار، ومجاهد، وعكرمة، وغير واحد تجعل ذلك من قبيل المرسل.
"أنها نزلت في شأن بني النَّضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله ﷺ الرحَى، لما جاءهم يستعينهم في ديَةِ العامرييْن، ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك."

قوله: "في ديَةِ العامرييْن" أي في قصة عمرو بن أمية الضمري لما كان الغدر الذي وقع لأصحاب النبي ﷺ في حادثة القراء السبعين الذين قتلوا في وقعة بئر معونة، فعمرو بن أمية نجا فرجع، وفي الطريق وجد رجلين دخل معهما في غار، فقتلهما بعدما ناما ظناً منه أنهما من القوم الذين غدروا، فلما جاء إلى النبي ﷺ ، وأخبره، وتبين أنهم ممن بينهم، وبين رسول الله ﷺ عهد، ذهب النبي ﷺ إلى قباء، ومر على هؤلاء اليهود، ومنازلهم على يسار مسجد قباء في الحرة، فالحاصل أن النبي ﷺ ذكر لهم الدية، وأن يعينوه فيها، وهذا يذكره أهل السير، لكن كون هذا هو سبب النزول فيه إشكال، خاصة، وأن هذه الروايات من المراسيل.
قوله: "ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك" أي أنه هو الذي تكفل برمي حجر الرحى على رسول الله ﷺ.
"ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك، وأمروه إن جلس النبي ﷺ تحت الجدار، واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي ﷺ على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة، وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية."

على كل حال الروايات كثيرة في هذا، وكلها من المراسيل، والمراسيل إذا جاءت من وجوه متعددة، وكذا فإنها يقوي بعضها بعضاً.
هذا أيضاً يذكر في سبب وقعة النضير لِمَا هموا به من قتل النبي ﷺ في هذه الواقعة، وبعضهم يذكر أنهم طلبوا من النبي ﷺ أن يخرج في مائة، ويخرجون في مائة، ويلتقون بنصف الطريق، ويكون هناك حوار، ثم بعد ذلك تآمروا فيما بينهم، وقالوا: إن خرج في مائة لا تستطيعون أن تتمكنوا منه، ثم قالوا له: اخرج بعشرة، ونخرج بعشرة، فأطلع الله نبيه على ما أرادوا، فالمقصود أن بعضهم يذكر هذا، وبعضهم يذكر غير هذا في غدر بني النضير - فالله أعلم -.
"وقوله تعالى: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:11] يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس، وعصمه، ثم أُمر رسول الله ﷺ أن يغدوَ إليهم فحاصرهم، حتى أنزلهم فأجلاهم." 
  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب صلاة الخوف (843) (ج 1 / ص 576).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065).

مرات الإستماع: 0

"إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] في سببها أربعة أقوال".

كما قال الله : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الفتح: 24] ومعنى: يَبْسُطُوا أي: يمدوا إليكم أيديهم بالقتل، والأذى، ونحو ذلك.

"في سببها أربعة أقوال:

الأول: أن النبي ﷺ ذهب إلى بني النضير من اليهود[1] فهمّوا أن يصبوا عليه صخرةً يقتلونه بها، فأخبره جبريل بذلك، فقام من المكان، ويقوي هذا القول ما ورد في الآيات بعد هذا في غدر اليهود".

في غدر اليهود، وهذا قال به محمد بن إسحاق، ومجاهد، وعكرمة[2] لكن الرواية من ناحية الإسناد ضعيفة جدًا، فلا تصح في القصة المعروفة، يقولون لما غُدر بالقراء، وقُتل سبعون من القراء، وكان عمرو بن أمية قد نجا، وكان في سرحهم، فرأى الطير تحوم على نفس الموضع، فعرف أنهم قد قُتلوا، فرجع إلى النبي ﷺ وفي الطريق وجد رجلين فقتلهما، ظنًا منه أنه أدرك ثأرًا، يظن أن هذين من جملة القوم الذين غدروا، فتبين أنهم من غيرهم، ممن لهم عهد مع رسول الله ﷺ فأراد النبي ﷺ أن يعطي أهل هؤلاء القتلى الدية، فذهب إلى هؤلاء اليهود؛ ليعينوه في الدية، فتآمروا على قتله - والقصة مشهورة - بأن يلقوا عليه حجرًا، أو رحى، فجاء الوحي، فأخبره بذلك، فقام النبي ﷺ والقصة لا تصح من جهة الإسناد.

"والثاني: أنها نزلت في شأن الأعرابي الذي سل السيف على رسول الله ﷺ حين وجده في سفرٍ، وهو وحده، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: الله[3] فأغمد السيف، وجلس، واسمه: غَورث بن الحارث الغطفاني".

يقال: غَورث، ويقال: غُورث بضم الغين، لكن لم يصح أن هذه الواقعة هي سبب النزول، مع أن هذا الخبر في أصله ثابت، ولكن لا يصح أنه سبب النزول.

"والثالث: أنها فيما همّ به الكفار من الإيقاع بالمسلمين، حين نزلت صلاة الخوف".

وهذا أيضًا لا يصح من جهة الإسناد.

"والرابع: أنها على الإطلاق في دفع الله الكفار عن المسلمين".

إن لم يصح سب نزول من جهة الإسناد، وهو صريح من جهة اللفظ، فيبقى أن ذلك يقال عمومًا فيمن كف الله أيديهم عن المسلمين، وإن كان ظاهر الآية: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] يدل على التعيين - فالله تعالى أعلم -. 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/63).
  2. المصدر السابق.
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة برقم: (2910)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس برقم: (843).