روى عبد الرزاق عن جابر أن النبي ﷺ نزل منزلاً، وتفرق الناس في العضَاه يستظلون تحتها، وعلق النبي ﷺ سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ، فأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي ﷺ، فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله قال الأعرابي مرتين، أو ثلاثاً: من يمنعك مني؟ والنبي ﷺ يقول: الله قال: فَشَام الأعرابي السيف، فدعا النبي ﷺ أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه[1]."
هذه الواقعة ثابتة لا شك في صحتها، لكن كون هذا هو سبب النزول فهذا لم يرد في رواية صحيحة -فيما أعلم -، ومثل ذلك القول بأنها نزلت في بني النضير من اليهود، فكل ذلك لا يخلو من ضعف، وإن كان أصل هذه الواقعة لا شك في ثبوته.
هنا يقول: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ.. [سورة المائدة:11]"، وهذه ليست من العبارات الصريحة في سبب النزول، وإنما أشبه ما تكون بقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وقد ذكرنا أن هذا من قبيل التفسير، يعني كأنه يقول: إن هذه الآية تشير إلى مثل هذا الذي وقع، لكن لا يعني هذا أنه سبب النزول، وهذه من الألفاظ النادرة التي ترد فيما يتعلق بأسباب النزول، مثل تأول قوله كذا، ومثل قوله: نزلت في كذا.. الخ.
ويمكن تقسيم هذه الألفاظ على النحو الآتي:
إذا ذكر واقعة حدثت، أو سئل سؤال، ثم قال: فنزلت أو فأنزل الله، فهذه أقوى المراتب التي سنذكرها هنا، ثم يليها نزلت هذه الآية في كذا؛ فهذه تحتمل أن تكون سبب النزول، ثم يلي ذلك مثل هذا الذي ذكر في هذه الآية: "وتأول: اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ الآية [سورة المائدة:11]" فهذا واضح أنه لا يقصد أن ذلك سبب النزول، وإنما يقصد أنها مما يدخل في الآية - والله أعلم -.
وهذا أيضاً يقول به ابن جرير لكنه لا يحدد هذه القضية، فابن جرير - رحمه الله - يقول: هذه في غدر اليهود، وما هموا به من الإساءة، أو العدوان على النبي ﷺ، وعلى المسلمين، ولم يحدد مثل هذا، لكن مثل هذه الروايات عن محمد بن إسحاق بن يسار، ومجاهد، وعكرمة، وغير واحد تجعل ذلك من قبيل المرسل.
قوله: "في ديَةِ العامرييْن" أي في قصة عمرو بن أمية الضمري لما كان الغدر الذي وقع لأصحاب النبي ﷺ في حادثة القراء السبعين الذين قتلوا في وقعة بئر معونة، فعمرو بن أمية نجا فرجع، وفي الطريق وجد رجلين دخل معهما في غار، فقتلهما بعدما ناما ظناً منه أنهما من القوم الذين غدروا، فلما جاء إلى النبي ﷺ ، وأخبره، وتبين أنهم ممن بينهم، وبين رسول الله ﷺ عهد، ذهب النبي ﷺ إلى قباء، ومر على هؤلاء اليهود، ومنازلهم على يسار مسجد قباء في الحرة، فالحاصل أن النبي ﷺ ذكر لهم الدية، وأن يعينوه فيها، وهذا يذكره أهل السير، لكن كون هذا هو سبب النزول فيه إشكال، خاصة، وأن هذه الروايات من المراسيل.
قوله: "ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك" أي أنه هو الذي تكفل برمي حجر الرحى على رسول الله ﷺ.
على كل حال الروايات كثيرة في هذا، وكلها من المراسيل، والمراسيل إذا جاءت من وجوه متعددة، وكذا فإنها يقوي بعضها بعضاً.
هذا أيضاً يذكر في سبب وقعة النضير لِمَا هموا به من قتل النبي ﷺ في هذه الواقعة، وبعضهم يذكر أنهم طلبوا من النبي ﷺ أن يخرج في مائة، ويخرجون في مائة، ويلتقون بنصف الطريق، ويكون هناك حوار، ثم بعد ذلك تآمروا فيما بينهم، وقالوا: إن خرج في مائة لا تستطيعون أن تتمكنوا منه، ثم قالوا له: اخرج بعشرة، ونخرج بعشرة، فأطلع الله نبيه على ما أرادوا، فالمقصود أن بعضهم يذكر هذا، وبعضهم يذكر غير هذا في غدر بني النضير - فالله أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها - باب صلاة الخوف (843) (ج 1 / ص 576).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753) (ج 3 / ص 1065).