لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده، وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده، ورسوله محمد ﷺ، وأمرهم بالقيام بالحق، والشهادة بالعدل، وذكَّرهم نعَمَه عليهم الظاهرة، والباطنة فيما هداهم له من الحق، والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود، والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين - اليهود، والنصارى - فلما نقضوا عهوده، ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم، وطرداً عن بابه، وجنابه، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى، ودين الحق، وهو العلم النافع، والعمل الصالح، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [سورة المائدة:12] يعني عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة، والسمع، والطاعة لله، ولرسوله، ولكتابه.
وقد ذكر محمد بن إسحاق، وابن عباس - ا -، وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى لقتال الجبابرة فأُمر بأن يقيم نقباء، من كل سبط نقيب.
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ الميثاق هو العهد المؤكد.
وقوله: وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [سورة المائدة:12] النقيب أعلى مرتبة من العريف، وأصله لعله مأخوذ من النقب، وهو الطريق، والمدخل بين الجبلين، فكأن هذا النقيب سمي بهذا لأنه الطريق إلى التعرف على أحوال القوم، وأمورهم، وقضاياهم، والمراد به كبير القوم.
وهؤلاء النقباء لعل أحسن ما يفسروا به - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا، أي: أنهم جُعلوا على قبائل بني إسرائيل أي على الأسباط، وعدد هذه القبائل، أو الأسباط اثنا عشر، وكل قبيلة عليها نقيب يتفقد أمورهم، ويرعى أحوالهم، ويطلع على شؤونهم.
وقد أخذ عليهم الميثاق، وجعل عليهم هؤلاء النقباء لأجل أن يسمعوا، ويطيعوا، هذا هو المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهو اختيار ابن جرير، وهو أحسن الأقوال.
ثم ذكر بعده قولاً آخر، وهو أن هؤلاء اختارهم موسى ﷺ حينما ساروا إلى الجبارين، يقول: "هذا كان لما توجه موسى لقتال الجبابرة فأُمر بأن يقيم نقباء، من كل سبط نقيب" قيل: هذا من أجل أن يأتوا بخبر الجبارين، وهذا فيه بعد؛ لأن الله يتحدث عن بني إسرائيل عموماً، وعن بعث النقباء عليهم، وقول الله لهم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [سورة المائدة:12] إلى آخره، فكأنه شيء عام في بني إسرائيل لا يختص بقضية الجبارين، والتعرف على أحوالهم، وأخبارهم، وعددهم، وقوتهم، وما أشبه هذا - والله تعالى أعلم -.
والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذٍ عن أمر النبي ﷺ لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة، والمبايعة عن قومهم للنبي ﷺ على السمع، والطاعة.
وقوله تعالى: وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي: بحفظي، وكَلاءتي، ونصري."
هذا الخطاب متوجه إلى بني إسرائيل المحدَّث عنهم أصلاً بأنهم الذين أخذ الله عليهم الميثاق، وبعث منهم النقباء، فقال الله لهم: إِنِّي مَعَكُمْ، أو أن ذلك يرجع إلى النقباء خاصة، وهذا يمكن أن يكون باعتبار المعنى الآخر، أي لما بعثهم موسى - عليه الصلاة، والسلام -، واختارهم ليكونوا أمناء ليأتوا بخبر الجبارين، فالله قال لهم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي إلى آخره، والأقرب - والله تعالى أعلم - هو الأول، أي أن ذلك يرجع إلى بني إسرائيل فالله يذكر ما وقع لبني إسرائيل من أخذ الميثاق، ومن معيته لهم إنْ هم وفوا له بعهوده فلما نكثوا لعنهم، وطردهم، وأبعدهم، فيكون قوله: إِنِّي مَعَكُمْ يرجع إلى أهل الكتاب من بني إسرائيل، ولا يختص ذلك بالنقباء.
وقوله: وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي: بحفظي، وكَلاءتي، ونصري، يعني المعية الخاصة بالنصر، والتأييد.
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [سورة المائدة:12] أي: نصرتموهم، وآزرتموهم على الحق."
يلاحظ أن هذا الكلام أحرى أن يرجع إلى بني إسرائيل، ولا يختص بالنقباء؛ لأن هذا مما طولب به الإسرائيليون جميعاً، ومما أخذ عليهم به الميثاق.
وقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي: نصرتموهم، وآزرتموهم على الحق" التعزير يأتي لمعنيين: يأتي بمعنى التعظيم، ويأتي بمعنى التأديب، تقول: فلان يجب أن يعزر، ويقال: فلان حُكِم عليه بالجلد تعزيراً يعني تأديباً، ويأتي بمعنى التعظيم كما في قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [سورة الفتح:9] يعني تعظموه، وتنصروه - وما أشبه ذلك -.
فإذا قلنا بالمعنى الأول الذي هو النصر، أو التعظيم فالمعنى ظاهر، وإذا فسر بالمعنى الثاني الذي هو التأديب يمكن أن يوجه باعتبار منع الأعداء من الوصول إليهم بجهادهم، وصد عاديتهم لكنه بهذا الاعتبار لا يخلو من تكلف، والمعنى الأقرب المتبادر هو الأول، أي، وعزرتموهم بمعنى عظمتموهم، ونصرتموهم - والله تعالى أعلم -.
كل هذه المعاني في القرض الحسن، أو قول من قال: ما طابت به النفس، أو قول من قال: إنه الحلال الطيب، أو قول من قال: إأنه ما أريد به، وجه الله ، فهذا كله من أوصاف القرض الحسن؛ لأنه لا يكون من القرض الحسن إذا كان فيه منَّة، أو كان على عوض يرجوه الإنسان عاجلاً في الدنيا، كالذي يريد الرياء بذلك، أو السمعة، أو نحو هذا، فهذا لا يكون قرضاً حسناًَ، وكذلك لا يكون قرضاً حسناً إذا كانت نفس الإنسان تتحرق على هذا المال، كما ورد في سورة براءة عن بعض الأعراب حيث قال الله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [سورة التوبة:98] أي يجد أن هذا الإنفاق من الغرم، وأنه قد قطع من قلبه، وأنه غير مخلوف عليه، فهو يدفعه مرغماً كارهاً ليدفع التهمة عن نفسه مثلاً، وما أشبه ذلك من المعاني الفاسدة التي يريد أن يصل إليها، فهذه المعاني التي ذكرناها للقرض الحسن سواء أنه من الحلال، أو غير ذاك من المعاني لا تحتاج إلى ترجيح، وإنما نقول: كلها أوصاف للقرض الحسن؛ لأنه لا يكون حسناً إلا بأن يكون من الكسب الطيب الحلال، ويراد به وجه الله ، ولا يلحقه ما يبطله كالمنة كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ [سورة البقرة:264]، وما شابه ذلك.
وقوله: فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:12] أي: فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده، وتوكيده، وشدِّه، وجحَدَه، وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضلال."