قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ يقول ابن كثير هنا: "أي: بسبب نقضهم الميثاقَ" يعني أن الباء سببية، والمعربون يقولون: إن "ما" زائدة، ويقصدون زائدة إعراباً، وليست زائدة في المعنى؛ لأنها هنا تؤكد المعنى، وتقويه؛ ولأنه لا يصح أن يقال: إن في القرآن شيئاً زائداً، فالوحي منزه عن هذه الزيادة، وعلى كل حال كل ما جاء به الوحي، فهو لمعنى لكنهم يقصدون بذلك أنه زائد إعراباً أي لا محل له من الإعراب حتى إن بعضهم يتأدب في العبارة فيقول: إنها صلة، وإذا قالوا: صلة فإنهم يقصدون زائدة إعراباً لكنهم تلطفوا في التعبير مع أنه لا مانع أن يقال: زائد إعراباً أي بهذا القيد، أويقال: صلة لكن لا تطلق الزيادة عند التفسير فيقال مثلاً: "ما" زائدة هكذا بدون قيد، لكن إذا فهم المعنى، وقيد بما ذكر فالأمر في هذا سهل - إن شاء الله -.
فالمقصود أن معنى قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ أي فبسبب نقضهم ميثاقهم حصل لهم اللعن، وهذه الآية تفسر قوله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي [سورة البقرة:40]، حيث إنه أبهم عهده في آية البقرة، وفي آية المائدة بين ذلك العهد بقوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12]، وعهدهم الذي ذكره في البقرة بقوله: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بينه هنا أيضاً بقوله: لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12] لكنهم نقضوا، وما وفوا بالعهد فلعنهم، وأبعدهم، وطردهم، وقطعهم في الأرض أمماًَ، وأحل بهم النقم.
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها، وقساوتها."
قوله: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً في قراءة حمزة - وهي قراءة متواترة -: (وجعلنا قلوبهم قسيَّة) يعني قاسية.
ويدخل في هذا نوعا التحريف اللذان سبق ذكرهما في سورة البقرة، أي أن هؤلاء وقعوا في تحريف ألفاظه، ووقعوا في تحريف معانيه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، حيث إن من أهل العلم من يقول: إن التوراة لم تحرف بل هي لا زالت موجودة، ومحفوظة، وإنما الذي حرف فيها هي القراطيس التي كانوا يبدونها، يعني أن الكتاب موجود لكن الذي يخرجونه إلى الناس هي القراطيس التي يوجد فيها التحريف، ولذلك لما دعا النبي ﷺ بالتوراة في قصة الزانيين حيث قرأ الحبر منها، وترك آية الرجم، ووضع عليها أصبعه فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه" فلما رفعها فإذا فيه آية الرجم تلوح)[1] فالمقصود أن هذا قاله بعض أهل العلم، والواقع أن هذا من تحريفهم، وإلا فقد حرفوا الكتاب الأصلي، ولا أدلَّ على ذلك من وجود هذه النسخ الكثيرة التي بين أيديهم فهم يقتاتون عليها، وهي مليئة بالتناقضات، والتحريف، فليس التحريف مقصوراً على القراطيس التي يبدونها فقط، بل هم مختلفون في الكتاب المقدس اختلافاً كبيراً - والله أعلم -.
كما وقعوا أيضاً في النوع الثاني من التحريف الذي هو تحريف المعاني كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13]، وهذا النوع من التحريف - تحريف المعاني - وقع في هذه الأمة، حيث يوجد من هذه الأمة من يبدل المعاني، ويغيرها، ويلوي أعناق النصوص، وهذا وقعت فيه طوائف أهل البدع الذين تمسكوا بالقرآن للدلالة على بدعهم، أولدفع ما يدل على نقضها، وقل مثل ذلك في التلاعب الذي حصل من كثير من الناس، ومنهم قصة ذلك الملك الباطني في المغرب حيث كان له، وزيران أحدهما لقبه بنصر الله، والآخر لقبه بالفتح، ثم يقول: إن المراد بقوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] أنتما.
وهناك رجل آخر اسمه بيان - صاحب الفرقة البيانية -، كان يقول في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، المراد به أنا، ومثل هؤلاء الرجل الملقب بالكِسف صاحب الفرقة المنصورية كان يقول: أنا المراد بقوله تعالى: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا [سورة الطور:44]، ومن ذلك قول الرافضة - قبحهم الله - في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] قالوا: الجبت، والطاغوت أبو بكر، وعمر، فهذا كله من تحريف المعاني للقرآن.
وقال مجاهد، وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﷺ.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13]، وهذا هو عين النصر، والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف، وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:13] يعني به الصفح عمن أساء إليك.
وقال قتادة: هذه الآية فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13] منسوخة بقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:29] الآية."
هذا فيه بعد؛ لأن هذه الآيات التي يأمر الله بها بالعفو تكون في الحال المناسبة لها بحيث يكون العفو في محله، فهي ليست منسوخة، خاصة، وأن سورة المائدة - كما هو معروف - آخر ما نزل في الأحكام، ولهذا كانوا إذا عبروا بقولهم: هذا مما نزل في المائدة، فإنهم يقصدون بهذا أنه لم ينسخها شيء، فليست هذه السورة من أوائل ما نزل، وإنما أول ما نزل بالمدينة من السور التي يتعلق بها كثير من الأحكام هي سورة البقرة، بل يقال: إنها أول سورة نزلت في المدينة، أما سورة المائدة فليست كذلك.
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة – باب ما يجوز من تفسير التوراة، وغيرها من كتب الله بالعربية، وغيرها (7104) (ج 6 / ص 2742)، ومسلم في كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1699) (ج 3 / 1326).