الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ ۙ وَنَسُوا۟ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه، ونقضهم عهده فقال: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ [سورة المائدة:13] أي: فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم."

قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ يقول ابن كثير هنا: "أي: بسبب نقضهم الميثاقَ" يعني أن الباء سببية، والمعربون يقولون: إن "ما" زائدة، ويقصدون زائدة إعراباً، وليست زائدة في المعنى؛ لأنها هنا تؤكد المعنى، وتقويه؛ ولأنه لا يصح أن يقال: إن في القرآن شيئاً زائداً، فالوحي منزه عن هذه الزيادة، وعلى كل حال كل ما جاء به الوحي، فهو لمعنى لكنهم يقصدون بذلك أنه زائد إعراباً أي لا محل له من الإعراب حتى إن بعضهم يتأدب في العبارة فيقول: إنها صلة، وإذا قالوا: صلة فإنهم يقصدون زائدة إعراباً لكنهم تلطفوا في التعبير مع أنه لا مانع أن يقال: زائد إعراباً أي بهذا القيد، أويقال: صلة لكن لا تطلق الزيادة عند التفسير فيقال مثلاً: "ما" زائدة هكذا بدون قيد، لكن إذا فهم المعنى، وقيد بما ذكر فالأمر في هذا سهل - إن شاء الله -.
فالمقصود أن معنى قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ أي فبسبب نقضهم ميثاقهم حصل لهم اللعن، وهذه الآية تفسر قوله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي [سورة البقرة:40]، حيث إنه أبهم عهده في آية البقرة، وفي آية المائدة بين ذلك العهد بقوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12]، وعهدهم الذي ذكره في البقرة بقوله: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بينه هنا أيضاً بقوله: لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12] لكنهم نقضوا، وما وفوا بالعهد فلعنهم، وأبعدهم، وطردهم، وقطعهم في الأرض أمماًَ، وأحل بهم النقم.
"أي: فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أُخذ عليهم لعناهم أي: أبعدناهم عن الحق، وطردناهم عن الهدى.
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها، وقساوتها."

قوله: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً في قراءة حمزة - وهي قراءة متواترة -: (وجعلنا قلوبهم قسيَّة) يعني قاسية.
"يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13] أي فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذًا بالله من ذلك."

ويدخل في هذا نوعا التحريف اللذان سبق ذكرهما في سورة البقرة، أي أن هؤلاء وقعوا في تحريف ألفاظه، ووقعوا في تحريف معانيه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، حيث إن من أهل العلم من يقول: إن التوراة لم تحرف بل هي لا زالت موجودة، ومحفوظة، وإنما الذي حرف فيها هي القراطيس التي كانوا يبدونها، يعني أن الكتاب موجود لكن الذي يخرجونه إلى الناس هي القراطيس التي يوجد فيها التحريف، ولذلك لما دعا النبي ﷺ بالتوراة في قصة الزانيين حيث قرأ الحبر منها، وترك آية الرجم، ووضع عليها أصبعه فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه" فلما رفعها فإذا فيه آية الرجم تلوح)[1] فالمقصود أن هذا قاله بعض أهل العلم، والواقع أن هذا من تحريفهم، وإلا فقد حرفوا الكتاب الأصلي، ولا أدلَّ على ذلك من وجود هذه النسخ الكثيرة التي بين أيديهم فهم يقتاتون عليها، وهي مليئة بالتناقضات، والتحريف، فليس التحريف مقصوراً على القراطيس التي يبدونها فقط، بل هم مختلفون في الكتاب المقدس اختلافاً كبيراً - والله أعلم -.
كما وقعوا أيضاً في النوع الثاني من التحريف الذي هو تحريف المعاني كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13]، وهذا النوع من التحريف - تحريف المعاني - وقع في هذه الأمة، حيث يوجد من هذه الأمة من يبدل المعاني، ويغيرها، ويلوي أعناق النصوص، وهذا وقعت فيه طوائف أهل البدع الذين تمسكوا بالقرآن للدلالة على بدعهم، أولدفع ما يدل على نقضها، وقل مثل ذلك في التلاعب الذي حصل من كثير من الناس، ومنهم قصة ذلك الملك الباطني في المغرب حيث كان له، وزيران أحدهما لقبه بنصر الله، والآخر لقبه بالفتح، ثم يقول: إن المراد بقوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] أنتما.
وهناك رجل آخر اسمه بيان - صاحب الفرقة البيانية -، كان يقول في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، المراد به أنا، ومثل هؤلاء الرجل الملقب بالكِسف صاحب الفرقة المنصورية كان يقول: أنا المراد بقوله تعالى: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا [سورة الطور:44]، ومن ذلك قول الرافضة - قبحهم الله - في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] قالوا: الجبت، والطاغوت أبو بكر، وعمر، فهذا كله من تحريف المعاني للقرآن.
"وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة المائدة:13] أي، وتركوا العمل به رغبة عنه وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ [سورة المائدة:13] يعني: مكرهم، وغَدْرهم لك، ولأصحابك.
وقال مجاهد، وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﷺ.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13]، وهذا هو عين النصر، والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف، وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:13] يعني به الصفح عمن أساء إليك.
وقال قتادة: هذه الآية فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13] منسوخة بقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:29] الآية."

هذا فيه بعد؛ لأن هذه الآيات التي يأمر الله بها بالعفو تكون في الحال المناسبة لها بحيث يكون العفو في محله، فهي ليست منسوخة، خاصة، وأن سورة المائدة - كما هو معروف - آخر ما نزل في الأحكام، ولهذا كانوا إذا عبروا بقولهم: هذا مما نزل في المائدة، فإنهم يقصدون بهذا أنه لم ينسخها شيء، فليست هذه السورة من أوائل ما نزل، وإنما أول ما نزل بالمدينة من السور التي يتعلق بها كثير من الأحكام هي سورة البقرة، بل يقال: إنها أول سورة نزلت في المدينة، أما سورة المائدة فليست كذلك.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة – باب ما يجوز من تفسير التوراة، وغيرها من كتب الله بالعربية، وغيرها (7104) (ج 6 / ص 2742)، ومسلم في كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1699) (ج 3 / 1326).

مرات الإستماع: 0

"يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [المائدة: 13] اختُلف هل أُريد تحريف الألفاظ، أو المعاني؟"

الخلاف واقع بين أهل العلم هل حُرفت التوراة مثلاً حُرفت ألفاظها، وبُدلت، أو كانوا يحرفون المعاني، أو يحرفون ما يبدونه في القراطيس؟ أما النسخة الأصلية من التوراة لم تحرف هذا قول لبعض أهل العلم، والأقرب - والله أعلم - أنهم جمعوا ذلك كله حرفوا الألفاظ، وحرفوا المعاني، ولا أدل على هذا من اختلاف النسخ الموجودة، والتباين الذي بينها، بل التناقض فهذا تحريفٌ للألفاظ، وأما تحريف المعاني فهو تبعٌ لذلك؛ إذا حُرفت الألفاظ حُرفت المعاني، فضلاً عن المعاني التي حُرفت من غير تحريف الألفاظ يعني في صفة النبي ﷺ يجدون أنه مثلاً أبيض، مُشرب بحمرة، مربوع القامة، يذكرون أنه آدم، وأنه طويل بائن الطول، وهكذا في صفاته - عليه الصلاة، والسلام -.

وأيضًا في أمورٍ أخرى مثل الذبيح حرفوا في كتابهم، وأنه إسحاق مع أن الذبيح هو إسماعيل - عليه الصلاة، والسلام - وفيه: إني آمرك أن تذبح ابنك، ووحيدك، ومعلومٌ أن وحيده الابن الأكبر معروف أنه إسماعيل فيحرفون، ثم بعد ذلك يقعون في مثل هذه التناقضات.

"وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] أي: على خيانة فهو مصدرٌ كالعاقبة، وقيل: على طائفةٍ خائنة، وهو إخبارٌ بأمرٍ مستقبل."

أو بمعنى: خائن وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] كما يُقال: رجلٌ طاغية، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسره بمكرهم خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13]: "مكرهم، وغدرهم لك، ولأصحابك"[1].

وجاء عن مجاهد يعني: تمالؤهم، يعني بذلك ما تمالؤا عليه من الفتك بالنبي ﷺ[2] وهذا كأنه تفسيرٌ بالمثال، وإلا فالمعنى أعم من ذلك.

وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] يعني خيانة، وقيل: على طائفةٍ خائنة، فهنا قول من قال بأن خائنة يعني خائن مثل طاغية، والآخر هنا يقول: طائفة خائنة، خائنة يعني كأنه اكتفى بالوصف، وحذف الموصوف للعلم به، على طائفةٍ خائنة وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] يعني أن هذا يقول: إخبارٌ بأمرٍ مستقبل.

فَاعْفُ عَنْهُمْ [المائدة: 13] منسوخٌ بالسيف، والجزية.

طائفة من أهل العلم يقولون: بأن آية السيف نسخت مائة، وأربعة، وعشرين آية، يقولون: كل عفو، وصفح، وإعراض، وصبر على أذى المشركين فهو منسوخٌ بآية السيف، وهذا الكلام غير صحيح، وإنما هذه الآيات ثابتة، وذلك أن إعمالها يكون بحسب حال الأمة، فإذا كانت الأمة في حالة من الضعف، والاستضعاف فتُعمل آيات الصبر، والعفو، والصفح، والاحتمال، وإذا كانت الأمة قوية ممكنة فإنها تُعمل آيات العزائم كآيات السيف، فلا يُقال إنها ناسخة لهذه الآيات، قالوا حتى نسخت قوله - تبارك، وتعالى - : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] هم لا يقصدون نسخ المعنى هنا، لكن يقصدون أن المراد من هذه الآية دعهم لله هو الذي يتولاهم، وهو الذي يجازيهم، لكن هذا القول فيه نظر.

والقول بأنه منسوخة بآية السيف قال به قتادة هنا في هذه الآية[3] لكن ابن كثير - رحمه الله - حمل ذلك على جهة تألف قلوب هؤلاء[4] ولاحظ أن سورة المائدة قالوا: هي آخر ما نزل، وما نُسخ منها شيء، فدعاوى النسخ هذه بالاحتمال لا تُقبل، فابن كثير - رحمه الله - يقول: هذا من باب التألف لهم تجاوز عن مثل هذه الإساءات، والخيانات، علّهم يسلمون. 

  1. تفسير ابن كثير (3/66).
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق (1/383).
  4. المصدر السابق (3/67).