هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير معناه أن قوله: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ يعني أخذنا عليهم العهد، والميثاق المختص بهم، ومن أهل العلم من يقول: إن الضمير - الهاء من ميثاقهم - يرجع إلى بني إسرائيل، فيكون المعنى، ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى أخذنا ميثاق بني إسرائيل السابق عليهم - أي على النصارى - فالميثاق الذي أُخذ على اليهود أخذ مثله على النصارى، فهذا قال به بعض أهل العلم باعتبار أن الضمير يرجع إلى بني إسرائيل المذكورين أولاً، وهم اليهود، وهذا فيه بعد، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوله: مِيثَاقَهُمْ يرجع إلى النصارى، فالقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور - والله أعلم -.
يقول: "ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود؛ ولهذا قال تعالى: فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة المائدة:14] إلى أن قال: فَأَغْرَيْنَا [سورة المائدة:14] قال: "أي فألقينا بينهم العداوة، والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة" يعني اليهود، والنصارى نقضوا العهود، والمواثيق، وذلك أنهم أمة،= واحدة أصلاً، وعيسى - عليه الصلاة، والسلام - بعث إلى بني إسرائيل قائلاً لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [سورة الصف:6] فنقضوا العهود، والمواثيق كما فعل اليهود، فألقى الله بينهم العداوة، والبغضاء إلى يوم القيامة، فبينهم من البغضاء، والشر ما لا يخفى، فكل طائفة تكفِّر الأخرى، وتضللها وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ [سورة البقرة:111] فـ "أو" هنا للتقسيم، وقد سبق ذكر ذلك في تفسير سورة البقرة، فالمعنى أن اليهود قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، وسبق الكلام على الأمانة الكبرى، وأنه لشدة عداوة النصارى لليهود تركوا العمل بالتوراة، فبقوا من غير قانون، ولا شريعة فاخترعوا كتاباً، وضعوا فيه القوانين، وسموه بالأمانة الكبرى.
ويحتمل أن يكون المراد أن العداوة، والبغضاء كانت بين طوائف النصارى نفسها، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع المعنيين فقال: "فألقينا بينهم العداوة، والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة" أي اليهود، والنصارى، ثم قال: "وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً"، وهذا شيء مشاهد.
وقوله تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [سورة المائدة:14] معناه ألصقنا ذلك بهم فهو لاصق، ملازم لهم غاية الملازمة كما يقال في المادة المعروفة التي يلصق بها "الغِراء" فهذه المادة تمسك الشيء بحيث إنه يلتصق بما ألحق به، ويقال: غري بهذا الشيء غرياً بمعنى أنه صار مولعاً به مفتوناً به ملازماً له لا يفارقه، ولا ينفك عنه بحال من الأحوال حتى صار كأنه ملتصق به، ويقال: أغريت الكلب يعني أولعته بالصيد، فاليهود، والنصارى ألصقت بهم هذه الصفة الذميمة القبيحة - العداوة، والبغضاء -، وأولعوا بها.
ولو تأملت في النصارى لوجدتهم قد فرقوا الكنيسة الشرقية، والغربية، وتجد طوائف الكاثوليك، والبروتستنت، والأرثوذكس الضالة كل واحدة تضلل الأخرى، فهؤلاء لهم كنائسهم، وهؤلاء لهم كنائسهم، وهؤلاء لا يعترفون بالفاتيكان، ولا بمرجعيته، ولو قرأت في كتب النصارى، وفِرق النصارى فلن تنتهي، ولو أخذت بلداً صغيراً مثل لبنان، وفتشت في الطوائف النصرانية ستجد أسماء لم تسمع بها، وتجدهم يظهرون في بعض المناسبات أحياناً فيقولون: الفرقة الفلانية، والطائفة الفلانية، وممثل الطائفة الفلانية، وهكذا تسمع بطوائف عجيبة غريبة.
وهم الآن يستغلون التفرق الموجود بين المسلمين فيضربون بعضهم ببعض مع أن التفرق الذي بين النصارى أكثر من التفرق الموجود بين المسلمين، فهم أحرى بأن يُشرذَموا بمثل هذه النزاعات الموجودة بينهم، لكن للأسف نحن ننظر إليهم باعتبار أنهم كتلة واحدة لا فرق بينهم، وعلى قلب رجل واحد، وهذا الكلام غير صحيح.
وابن كثير ذكر هنا بعض الطوائف مثل: اليعقوبية، وهم طائفة من النصارى ينتسبون إلى يعقوب البردعاني، كان راهباً بالقسطنطينية، وهذه الطائفة قالت بالأقانيم الثلاثة، وبالنسبة لمعنى الأقانيم هم يختلفون فيها هل هي الصفات، أو غير ذلك، فالمقصود أنهم قالوا بالأقانيم الثلاثة إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحماً، ودماً فصار الإله هو المسيح، وهذه لا يمكن أن تتصور أصلاً، إذ كيف يقولون بالأقانيم الثلاثة ثم يقولون: إن الكلمة انقلبت لحماً، ودماً، وصارت هي عين المسيح، أي صار الله هو المسيح، أو صار المسيح إلهاً؟! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وذكر من الطوائف النسطورية، وهؤلاء هم أصحاب نسطور الحكيم، وهكذا نجد أن كل مسمىً له من اسمه نصيب، إما على الضد، أو المطابقة، ونسطور هذا ظهر في زمن المأمون، وتصرف في الأناجيل برأيه، وقال: إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة الوجود، والعلم، والحياة، وليست الأقانيم زائدة على الذات.
كما ذكر ابن كثير رحمه الله طائفة الملكانية، وهم أصحاب ملكى الذي ظهر بأرض الروم، واستولى عليها، ومعظم الروم ملكانية، وهؤلاء قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، والكلمة أقنوم العلم، وليست الثلاثة، وهذا من الخلاف بينهم.