يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً ﷺ بالهدى، ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات، والفرق بين الحق، والباطل، فقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة المائدة:15] أي يبيّن من بدلوه، وحرفوه، وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه."
فالمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في قوله - تبارك وتعالى -: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة المائدة:15] معنى قريب في تفسير هذه الآية، أي يبيّن لكم كثيراً مما أخفيتم، ويترك كثيراً لا يبيّنه، ولا يذكره؛ لأنه لا فائدة من ذلك، أو لأن ذكر البعض يغني عن ذكر غيره مما يكشف عن حقيقة ما وقعوا فيه من الكتمان، والتحريف، كما قال الله - تبارك وتعالى -: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فهو يكشف لهم بعض ما أخفوه، ويترك البعض الآخر، وكشْف البعض يجلي الحقيقة التي ناموا عليها دهوراً متطاولة.
ويحتمل أن يكون المعنى أنه يبيّن لهم كثيراً مما أخفوه، ويترك كثيراً، فلا يطالبهم بمقتضاه، والعمل به حتى يأمره الله بذلك، أي لا يلزمهم العمل بما في كتابهم حتى يأمره الله - تبارك وتعالى - بذلك، فيكون القدر الذي يبيّنه لهم هو مما أمره الله ببيانه ويسكت عن غيره، وعلى هذا القول لا يلزم أن يكون هذا المسكوت عنه مما لا ينبني عليه عمل، أو لا يكون في ذكره فائدة، وإنما سكت عنه؛ لأن الله لم يأمره بذلك، وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وكلا المعنيين قريب، وليس هناك دليل يجب الوقوف عنده، والقول بمقتضاه في حال هذا الكثير المسكوت عنه، هل سكت عنه؛ لأنه لا ينبني على ذكره فائدة؟ أو لأن ذكر البعض يغني عن ذكر غيره؟ أو لأن الله لم يأمره بأخذهم بذلك، وإلزامهم بمقتضاه؟ فكل ذلك محتمل - والله أعلم -.
يقول: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [سورة المائدة:15] يحتمل أن يكون النور، والكتاب المبين شيئاً واحداً ويكون ذلك من أوصاف القرآن، كما قال الله : وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى:52] فالله سمى كتابه نوراً، وسماه، روحاً كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [سورة الشورى:52] لأنه - جل وعلا - يضيء به ظلمات الجهل والكفر، وسماه روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تكون الأبدان عامرة بالأرواح، وعلى كل حال يحتمل أن يكون هذا كله من الأوصاف العائدة إلى موصوف واحد، وهذا أمر لا إشكال فيه من ناحية اللغة؛ فإن الأوصاف تذكر للموصوف الواحد متتابعة بالعطف تارة، ومن غير العطف تارة أخرى، يجمع ذلك قوله - تبارك وتعالى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [سورة الأعلى:1-2] هذا من غير عطف، وهو كله لموصوف واحد، ثم قال: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3-4] فهذه أربعة أوصاف لموصوف واحد، وكذلك هنا النور والكتاب المبين يمكن أن يرجع ذلك جميعاً إلى القرآن.
ومن أهل العلم من يقول بالمغايرة بينهما، فالكتاب المبين بلا إشكال هو القرآن، والنور منهم من فسره بأنه النبي محمد ﷺ، ويحتمل أن يكون المراد به الإسلام، وهناك ملازمة لا تخفى بين الإسلام وبين الرسول - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنه هو الذي جاء بالإسلام وعليه نزل القرآن، فالمعاني متلازمة.
وابن جرير - رحمه الله - يرجح في هذه الآية: أن النور هنا هو النبي ﷺ، والكتاب هو القرآن، فقوله تعالى: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [سورة المائدة:15] أي نبي كريم، وكتاب عظيم.
- أخرجه الحاكم في مستدركه (8069) (ج 4 / ص 400) وقال صحيح الإسناد.