"إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] فيها سؤالان: الأول: كيف قال: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وهم كفار، والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب: أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب، أو غفر فلا اعتراض عليه؛ لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله - تعالى - وعزته، وفرق بين الجواز، والوقوع."
خلاصة هذا الجواب الأول أن ذلك قاله على سبيل التفويض الكامل لله فافعل بهم ما تشاء.
"وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال؛ لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة."
يعني: أن ذلك في وقت الإمكان في الدنيا، يعني: إن تابوا من الكفر، والشرك تغفر لهم، والجواب الأول أوضح، وأحسن - والله تعالى أعلم - أن ذلك قاله على سبيل التفويض؛ لأن هذا إنما هو يوم القيامة كما سبق، ومن ثم فإن هذا الجواب قاله - عليه الصلاة، والسلام - تفويضا لله - تبارك، وتعالى -.
"السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] لقوله: وإن تغفر لهم، والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟"
لكن لا يقال: والأليق، لكن يقال: وقد يظن، أو يتوهم أن الأليق، أو المناسب أن يقول الغفور الرحيم؛ لأنه لا شك أن الأليق هو ما قاله الله العزيز الحكيم، فمثل هذه الألفاظ ينبغي مراعاتها حينما نتحدث عن مثل هذا، والجوانب البلاغية، ونحو ذلك، قد يطلق بعض المفسرين مثل هذه العبارات فيكون ذلك في الواقع غير لائق.
"والجواب من ثلاثة أوجه. الأول: يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله، والتعظيم له، كان قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم، أو عدم المغفرة؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته."
إذًا هذا على سبيل التفويض، والتسليم، فهو العزيز الحكيم فهذا هو المناسب هنا.
"الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم؛ لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم، والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد."
هو محمد بن عمر بن رشيد، وسبق في ترجمة المؤلف ذكر ذلك في شيوخه، توفى سنة 721 للهجرة.
"عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُم."
يعني: فإن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم يعني فإنهم عبادك لكن هذا لا يخلو من تكلف.
"ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا، وجواب، إن في قوله فإنهم عبادك، كأنه قال: إن تعذبهم، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال."
هذا الجواب بعيد، لكن الجواب الأول أنه قال ذلك على سبيل التفويض، والتسليم لله - تبارك، وتعالى - وذلك يمكن أن يوضح بأن ذلك اليوم يوم عظيم، يغضب الله - تبارك، وتعالى - فيه غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فعيسى - عليه الصلاة، والسلام - فوض ذلك إلى الله، وهذا يصلح أن يكون جوابا مستقلا، أو ينضاف إلى الجواب الأول، بمعنى أنه إن غفر فليس ذلك عن عجز، وضعف عن المؤاخذة، وإنما هذا الغفر عن عزة، وحكمة بخلاف العاجز؛ فإن عفوه ليس بشيء، وهو يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها حكيم، فيكون ذلك على سبيل التفويض لله فإن، وقع ذلك يعني الغفر فليس عن عجز، فهذا في غاية المناسبة.
وكذلك ما ذكر في الجواب الثاني باعتبار أن ذلك اليوم يغضب فيه الرب هذا الغضب فلا يناسب، ولا يكون من اللائق - والله أعلم - أن يظهر عيسى - عليه الصلاة، والسلام - كأنه في صفهم يطلب المغفرة لهم، ويعتذر لهم، ونحو ذلك، وإنما فوض إلى الله - تبارك، وتعالى - يعني: لم يعرض بالمغفرة ما قال فإنك أنت الغفور الرحيم، كأنه يطلب المغفرة لهم - اغفر لهم - لا، وإنما قال: الأمر إليك.
وهكذا قريب من هذا قول من يقول: بأن عيسى - عليه الصلاة، والسلام - قال ذلك على سبيل البراءة منهم؛ لأن ذلك اليوم كل أحد يطلب النجاة لنفسه، فيقول عبادك افعل بهم ما شئت، وهم بين يديك، فأنت العزيز الحكيم، كأنه يعني الغاضب، أو الذي لا يرضى فعل غيره، أو نحو ذلك؛ لأنه يتبرأ منه، ويقول لا شأن لي بهم افعل بهم ما شئت، فأنت العزيز الحكيم - والله أعلم -.
"وجواب، إن في قوله فإنهم عبادك، كأنه قال: إن تعذبهم، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال."