الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى ۖ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:25] يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى ، وقال داعياً عليهم رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي [سورة المائدة:25]."

بعض أهل العلم يقول: إن في الآية مقدراً محذوفاً، يعني رب إني لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلا نفسه، لكن هذا فيه بعد، والأصل عدم التقدير، فالمعنى المتبادر إني لا أملك إلا نفسي، وأخي أي: أمري لا ينفذ إلا على نفسي، وعلى أخي، وأما هؤلاء فيقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
وقولهم هذا في غاية القبح في الرد، والتطاول على الله ، والعجيب أن بعض المفسرين يتلطف في حمل هذه الجملة على محامل بعيدة، فيقول: إن معنى قولهم: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا أي اقصد أنت، وربك، وليس معناه الذهاب الحقيقي لفتح المدينة، أي إذا أردتم فتحها، وقصدتم ذلك فإنها تفتح بدون قتال، وهذا القول بعيد غاية البعد، وكأن هؤلاء المفسرين يقولون: إنه لا يتصور أن يصل الأمر بهؤلاء القوم إلى هذا الحد فيقولون: اذهب أنت، وربك - وهم أصحاب موسى -؛ لأن هذا في غاية الكفر، لكن يقال: إنه يتصور منهم أكثر من هذا، فهم الذين قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، وعبدوا العجل، وأرجلهم ما جفت من البحر، وحتى الذين دخلوها بعد عقوبة التيه قيل لهم: ادخلوا سجداً فدخلوا يزحفون، أمروا بقول، وأمروا بفعل، بالقول أمروا أن يقولوا حطة، يعني حط عنا خطايانا، وبالفعل أن يدخلوا في هيئة الراكع فدخلوا يزحفون استهزاءً، ويقولون: حبة في شعرة، وفي بعض الروايات شعيرة، أو حنطة، إنهم يستهزئون مع أن أسفه السفهاء ما يفعل هكذا، حتى إن فسقة أمة محمد، وأردى الناس فيها لو ذهبوا لجهاد العدو، ودخلوا منتصرين ما صدر منهم هذا الكلام، بل لا ترى منهم إلا الإيمان، وما يرضي الله لكن هؤلاء كانوا بهذه المثابة.
"رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي [سورة المائدة:25] أي: ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا، وأخي هارون فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:25] قال العوفي عن ابن عباس - ا -: يعني اقض بيني، وبينهم، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -، وكذا قال الضحاك: اقض بيننا، وبينهم، وافتح بيننا، وبينهم، وقال غيره: افرق: افصل بيننا، وبينهم."

هذه المعاني كلها تدور على شيء واحد، فَافْرُقْ بَيْنَنَا يعني افصل أو احكم، والحكم هو الذي يحصل به الفصل.

مرات الإستماع: 0

"لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] قاله موسى ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله، ويعتذر إلى الله، وإعراب أخي عطفٌ على نفسي؛ لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطفٌ على الضمير في: لا أَمْلِكُ [المائدة: 25] أي: لا أملك أنا إلا نفسي، ولا يملك أخي إلا نفسه."

يعني يكون فيه مقدر محذوف، والأصل عدم التقدير، يعني القول الأول لا يحتاج إلى تقدير: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] وهذا الظاهر المتبادر.

لكن القول الثاني: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] لا يملك إلا نفسه هذا، وإن كان محتملاً إلا إنه خلاف الظاهر المتبادر، وهو يحتاج إلى تقدير، والقاعدة الترجيحية أنه إذا دار الكلام بين كونه بين الاستقلال، أو الإضمار يعني التقدير فالأصل الاستقلال، لا يحتاج إلى تقدير ما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.

"وقيل: مبتدأٌ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه."

قيل: عطفٌ على الضمير في لا أَمْلِكُ [المائدة: 25] أي: لا أملك أنا إلا نفسي، ولا يملك أخي إلا نفسه، قيل: مبتدأ خبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه، يعني يحتاج إلى تقدير، والعلماء لهم كلام في هذا يعني لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] وهذا الذي قال بأنه: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة: 23] لماذا قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] وهؤلاء يطيعونه أيضًا؟

فأجاب العلماء عن هذا بأجوبة: فبعضهم يحتمل أن يكون أراد بذلك من يتوثق طاعته، ويعلم أنه لا يدع ذلك أبدًا بحالٍ من الأحوال، قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] وأما غير ذلك فقد يطيعونه، وقد لا يطيعونه، قد يطيعونه في بعض الأحوال، ولا يطيعونه في غيرها، أو أنه قصد بذلك باعتبار بيان الحال، والضعف في مقابل عصيانهم، وتمردهم، قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي [المائدة: 25] إظهارًا لهذا الجانب - والله أعلم -.

"فَافْرُقْ بَيْنَنا [المائدة: 25] أي: فارق بيننا، وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا، وبينهم بحكم."

أصل الفرق هو الفصل، والتمييز بين الشيئين فَافْرُقْ [المائدة: 25] يعني فافصل احكم بيننا، والفرقان قيل له: فرقان؛ لأنه يفرق بين الحق، والباطل يفصل، ويميز، والقول الثاني افصل بيننا إلى آخره هو المروي عن ابن عباس - ا - والضحاك[1].

فالمقصود أنه دعا بأن يحكم الله بينهم، وليس المقصود فارق بيننا، المفارقة المباعدة في الأجسام. 

"قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة، وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه، وهو ما بين مصر، والشام حتى مات كل من قال: إنا لن ندخلها، ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع، وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضًا.

وقيل: إن موسى، وهارون لم يكونا في التيه؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة."

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] إذا وقفت هنا يكون قوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] أن مدة التيه في أربعين، لكن التحريم هنا مطلق، يعني أن هؤلاء الذين قالوا هذا الكلام فهي محرمةٌ عليهم لن يدخلوها أبدًا، ولهذا قالوا: إنهم ماتوا في التيه كما سيأتي.

ومن وقف أو وصل قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] يكون مدة التحريم في أربعين سنة، وهذا أيضًا يوجد من قال: بأن أيضًا هؤلاء لم يدخلوها كما سيأتي قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] أين يكونون في الأربعين؟

قالوا: يتيهون في الأرض، ولك أن تصل في الآية: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] تعانق الوقف هنا يعني أنك لا تقف في الموضعين، لكن لك أن تصل في الجميع في تعانق الوقف.

فالمقصود أنه بحسب ذلك يتغير المعنى قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] إذًا لن يدخلوها قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] فهنا يقول: وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة، يكون الوقف أين؟ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[2].

يقول: وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض هي حُرمت عليهم لأربعين سنة، وصارت مدة التيه بإزاء ذلك يعني في أربعين سنة.

 يقول: وهو ما بين مصر، والشام حتى مات كل من قال: إنا لن ندخلها، ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع، وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضًا، وهذا مروي عن ابن عباس - ا - وزاد فيه: "وكل من جاوز الأربعين سنة"[3] كل من كان عمره في ذلك الوقت قد جاوز الأربعين مات في التيه.

وبعض أهل العلم يقولون: إن الجيل بعضهم يحدد القرن بأربعين سنة، والطبقة بعضهم يحددها بأربعين سنة.

وبعض أهل العلم يقولون: إن ذلك لحكمه في الأربعين أن الجيل الجبان هذا الجيل الذي غلب عليه الخوف، وعصا موسى - عليه الصلاة، والسلام - يتغير بالكلية، فيأتي جيل جديد فهم الذين يحصل على يدهم النصر، ودخول المدينة المقدسة.

والقول: بأن موسى - عليه الصلاة، والسلام - وهارون ماتا في التيه هذا ليس محل اتفاق، وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] على القول بأن المقصود التفريق فصاروا أولئك في التيه، وموسى - عليه الصلاة، والسلام - وهارون لم يكونوا في التيه، ومن أطاعهما.

يقول: وقيل: إن موسى، وهارون لم يكونا في التيه؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] على المعنى الآخر فافرق من التفريق، وليس الحكم، والفصل، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، وذهب ابن جرير إلى أن الذي فتحها هو موسى - عليه الصلاة، والسلام - وأن الله حرمها عليهم، وتاهوا أربعين سنة، ابن جرير يقول: موسى كان معهم، ولم يمت في التيه، وهو الذي فتحها[4].

والقول: بأن الذي فتح المدينة يوشع مروي عن ابن عباس - ا - واختاره الحافظ ابن كثير[5] وهذا هو المشهور؛ أن الذي فتحهما هو يوشع، وأنه هو الذي حُبست له الشمس في قصة الغنائم - والله أعلم -.

"والعامل في أربعين: محرمةٌ على الأصح."

يعني ما الذي عمل في الأربعين؟ هنا أنها منصوبة محرمةٌ أربعين سنة على الأصح، يعني ما يكون التحريم مطلقًا، وإنما أربعين سنة، ثم بعد ذلك يكون دخولهم المدينة، فيجب وصله معه يعني: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] فتصل، لكن لو وقفت قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] لا يكون العامل في أربعين محرمة؛ لأنه مفصول عنه.

والقول: بأنه يعني يجب وصله، وأنه هو العامل يعني الوقف على قول: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] هذا مروي عن الربيع بن أنس[6] وعلى هذا القول فمن وجد منهم بعد الأربعين سنة دخلها معهم.

"والعامل في أربعين: محرمةٌ على الأصح، فيجب وصله معه، وقيل: العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] وهذا ضعيف؛ لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأوّل أكمل معنىً؛ لأنه بيان لمدّة التحريم، والتيه معًا."

إذا، وقفت هنا: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] صارت مدة التحريم أربعين، ومدة التيه هي مدة التحريم أربعين سنة قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] ماذا يفعلون بهذه الأربعين؟ قال: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] فتيههم في أربعين سنة كذلك.

فهنا يقول: وقيل: العامل فيه يتيهون يعني يحارون، ويضلون، يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] هذا التحريم على قول بعض أهل العلم إنه مطلقًا، يعني أنهم ماتوا جميعًا، ولم يدخل هؤلاء الجيل الذي امتنع، وكان تيههم أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ مدة التيه أربعين سنة، يعني يكون العامل في أربعين ما بعده يتيهون، لماذا نُصبت؟

يتيهون أربعين سنة يكون هذا هو العامل فيه جاء بعده، وهذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون المعمول بعد عامله لا يتقدم عليه، هذا الأصل، لكن هذا القول: بأن الوقف على قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] يعني تحريمًا مطلقًا أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] فهذا القول الذي ضعفه ابن جزي مروي عن الحسن، وقتادة[7] واختاره بعض المفسرين قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] وعليه فلم يدخلها أحد منهم، وإن دخلها أحفادهم، أو أولادهم كما جاء عن ابن عباس - ا - بأنه لم يبق إلا يوشع، وكالب، والباقي ماتوا[8].

"يَتِيهُونَ [المائدة: 26] أي: يتحيرون، ورُوي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه."

قوله - تبارك، وتعالى - : فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 25] بأن الذي دخلها هو يوشع، وليس موسى، قلنا: أن ابن جرير يقول: بأنه موسى هو الذي دخل، وأنه لم يمت في التيه، والحافظ ابن كثير يقول: بأن الذي دخلها هو يوشع، وأما ما يتعلق بالوقف: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] هذان موضعان بينا وجه كل واحدٍ منهما، لكن ابن كثير - رحمه الله - يقول: بأن الوقف على قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] هنا أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] يعني هذا الذي ضعفه ابن جزي هو الذي اختاره ابن كثير[9] وابن كثير - رحمه الله - يقول: "قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26]: حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون الخروج فيه"[10].

وقوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] منصوبًا بقوله: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] يعني جعل العامل فيه هو الذي بعده، فلما انقضت المدة خرج بهم يعني هو يرى أن الوقف على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] ثم قال: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26] فيكون العامل في قوله: أَرْبَعِينَ [المائدة: 26] يَتِيهُونَ [المائدة: 26] العامل فيه ما بعده، قال: "فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع - كأنه يرى أن الذي دخل بهم المدينة المقدسة هو يوشع، وليس موسى - عليه الصلاة، والسلام - "أو بمن بقي منهم، وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس، وحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تضيفت الشمس بالغروب، وخشي دخول السبت عليهم قال: إنك مأمورة، وأنا مأمور اللهم احبسها عليهم" كما جاء في الحديث: "فحبسها الله تعالى حتى فتحها"[11] إلى آخره، وفيه أنه أُمروا أن يدخلوا الباب سجدًا، ويقولوا: حطة؛ فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا من الاستهزاء، والسخرية.

"فَلا تَأْسَ [المائدة: 26] أي: لا تحزن، والخطاب لموسى، وقيل: لمحمد ﷺ ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود."

يقول هنا: يَتِيهُونَ [المائدة: 26] أي: يتحيرون التيه هنا بمعنى التحير، كانوا يسيرون في الليل كله فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه، يعني بعضهم يقول: إن الأرض التي تاهوا فيها كانت نحو ستة فراسخ ليست كبيرة، فكيف يتيهون أربعين سنة على القول بأن معهم هارون، وموسى - عليهما السلام - لكن إذا أراد الله شيئًا كان، فقيل إنهم: كانوا يسيرون في الليل كله فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه، وهكذا حتى أذن الله بخروجهم، ستة فراسخ يضيعون فيها أربعين سنة فأين هؤلاء الذين يقولون الآن: عن طريق الأقمار الصناعية، وغير ذلك اكتُشف كل شبر من الأرض، أين المسيح الدجال؟ وأين يأجوج، ومأجوج؟ والإنسان أحيانًا يكون النظارة يلبسها، ويبحث عنها، أليس كذلك؟ ويكون الشيء بيده، وهو يبحث عنه في كل مكان، وقد يكون بين عينيه يراه أمامه، وهو يبحث عنه، ويسأل عنه، فإذا أراد الله أن يصرفه عن شيءٍ صرفه، ولو كان بين عينيه.

والمشهور أن موسى، وهارون - عليهما السلام - ماتا في التيه، وفي التيه هذا أُنزلت عليهما التوراة، وشُرعت الشرائع، فهو منع حرمان لهم من دخول المدينة، لكن كان ينزل عليهم المن، والسلوى، ويظللهم الغمام، أمة عجيبة مع التمرد، وهذا لطف الله بهم، وحلمه، وإلا هؤلاء بهذه الطريقة مع هؤلاء الأنبياء، ولاحظ الخطاب الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] ويقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة: 24] إِنَّا لَنْ [المائدة: 24] أقوى صيغة في النفي، لن ندخلها حتى يخرجوا منها، تمرد ما بعده تمرد، ولما دخلوا مع يوشع: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] دخلوا يزحفون على أستاههم، ويقولون: حبة في شعرة، أو شعيرة، ما بعد هذا استهزاء؟!!

وقت النصر، وإكرامهم، وهذا الإنعام، ويقولون مثل هذا الكلام، عتاة على الله!! بعد قتل أنبياء بني إسرائيل ليس أنبياء غيرهم، حتى ورد أنهم قتلوا فيهم سبعين نبيًا، من يفعل هذا غير بني إسرائيل؟!

ويقال: إن دانيال من أنبياء بني إسرائيل وجد في بيت لمال لما فُتحت بلاد فارس، فوُجد في بيت المال رجل مسجى، ولم يتغير منه إلا شعرات في قفاه، فكان الفرس إذا أجدبوا حملوه على السرير، وتعرضوا للسماء، فينزل المطر يعني يستسقون به، يقال: إن دانيال من بني إسرائيل من أنبيائهم، وأنهم من جملة من أخذهم بختنصر إلى العراق، فرأوا منه ما يدل على كرامته على الله فلما مات لم يدفنوه فكانوا يستسقون به، وأجسام الأنبياء لا تتغير، فأمر عمر أن يحفر له نحو ثلاثة عشر قبرًا، ويوضع في أحدها في الليل، ويُعمى قبره لئلا يفتن به الناس، فهؤلاء الفرس عبدة النار لما رأوا منه ما رأوا أبقوا هذه المدة الطويلة، قرون متطاولة، وهو عندهم بهذه الطريقة، وهؤلاء من بني إسرائيل يقتلون أنبياءهم.

فَلا تَأْسَ [المائدة: 26] أي لا تحزن، وأن الفاسقين من كان في عصرهم من اليهود.

وقيل: الخطاب لمحمد ﷺ ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود ، لا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26] أن هذا خطاب لموسى - عليه الصلاة، والسلام - هذا هو المتبادر.

  1. تفسير ابن كثير (3/79). 
  2. المصدر السابق. 
  3.  المصدر السابق (3/80).
  4.  انظر: تفسير الطبري (8/307).
  5.  تفسير ابن كثير (1/273).
  6.  تفسير القرطبي (6/130).
  7.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/51).
  8.  انظر: تفسير ابن كثير (3/79)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/52).
  9.  تفسير ابن كثير (3/79).
  10.  المصدر السابق.
  11.  أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي ﷺ. : أحلت لكم الغنائم برقم (3124).