يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي، والحسد، والظلم في خبر ابني آدم لصلبه، وهما قابيل، وهابيل، كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغياً عليه، وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة، وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله ، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل، ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين."
فبعد أن ذكر الله طرفاً من خزي بني إسرائيل، وأعمالهم الفاسدة، وكفرهم بالله ذكر بعده ما وقع من ابني آدم - عليه الصلاة، والسلام - حيث قتل أحدهما أخاه، وجاء بهذا السياق: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا، فقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على بني إسرائيل ليبيّن لهم - وهذه هي المناسبة، والله تعالى أعلم - أن الظلم، والشر، والحسد قديم، وليس بجديد، فهم مسبوقون بهذه الأخلاق السيئة التي اشتهروا بها، وعرفوا بها بين العالمين.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: "خبر ابني آدم لصلبه، وهما قابيل، وهابيل" هذا القيد الذي ذكره أنهما لصلبه احترازاً من قول من قال: إنهما من بني آدم، ولم يكونا من صلبه، بل هما من بني إسرائيل، وأن الله ضرب لهم المثل بما وقع من بعضهم، وهذا في غاية البعد، وهو خلاف الظاهر، ومثل هذا يعتبر من الأقوال الشاذة، وكأن هذا القائل لم يتصور أن يقع ذلك من ابني آدم، وأبوهما نبي - عليه الصلاة، والسلام -، مع قرب العهد بالجنة، ومع ذلك يقع مثل هذا الحسد الذي يؤدي إلى القتل!!
وعلى كل حال الذي لا يصح العدول عنه بحال من الأحوال هو أنهما من صلبه، وفي هذا غاية العبرة، وذلك أن الحسد في قوم لم يطل بعدهم، وعهدهم من الجنة، وأبناء نبي، وقبل وجود الكفر، والشرك، والشر في الأرض، ومع ذلك يفعل هذا الحسد فعله، ثم بعد ذلك يقتل أخاه، فهذا أمر مستغرب، وهو كما وقع من أبناء يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - إلا أن ما وقع من ابني آدم أكثر، وأعظم، وأشد، وعلى كل حال القول بأنهما من بني إسرائيل لا يلتف إليه، وهو مثل قول من قال في قوله: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [سورة المائدة:24] قال: الرب يعني الأخ الأكبر الذي هو هارون، أي اذهب أنت، وهارون، ولم يتصور أن يقول أصحاب موسى: اذهب أنت مع الله فقاتلا، بل هم يقولون هذا، ويقولون أسوأ من هذا، فلا حاجة لمثل هذه الأقوال الشاذة من أجل تبرئة ساحة هؤلاء اليهود مثلاً، أو أن ذلك لا يتصور من أبناء آدم لصلبه - والله تعالى أعلم -.
وقوله: بِالْحَقِّ أي على الجلية، والأمر الذي لا لبس فيه، ولا كذب، ولا وهم، ولا تبديل، ولا زيادة، ولا نقصان."
يحتمل أن يكون المعنى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [سورة المائدة:27] أي تلاوة متلبسة بالحق، ويحتمل أن يكون بالحق يتعلق بنبأ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [سورة المائدة:27] أي: نبأً متلبساً بالحق، والقول الأول أقرب.
مثل هذه المرويات في تسمية قابيل، وهابيل منقولة عن جماعة من الصحابة لكن كأن ذلك مما أخذ من بني إسرائيل - والله تعالى أعلم -.
على كل حال الله أعلم بهذا، لكن الله أخبرنا أن كل واحد منهما قرب قرباناً فتقبل من هذا، ولم يتقبل من الآخر، فحسده على ذلك، ويكفي هذا القدر، ولا فائدة في معرفة التفاصيل التي وراءه، ومثل هذا لا سبيل إلى الوقوف عليه إلا عن طريق الوحي، ومثل هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مما لا يتوصل إلى معرفته، وكما قال في المقدمة: ومنه موقوف لا يعلم أنه مزيف، ولا منقود.
زعموا أنه كان صاحب غنم، وأنه كان يرعاها، وأن الآخر كان صاحب زرع، وأن صاحب الزرع أخذ قليلاً من السنبلات، وكان في بعضها حب، وأنه فته بيده، وأكله، والثاني قرب كبشاً سميناً فلم يتقبل من صاحب الزرع، وتقبل من الآخر، ويزعمون أنه طلبه يريد قتله، وأنه فر بغنمه إلى الجبال، فجاءه وهو نائم فقتله غيلة، مع أن ظاهر القرآن أنه حصل بينهما مقاولة، ومجاوبة كما قال تعالى: قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27]، فلا يدل السياق على أنه قتله غيلة، أو أنه قتله وهو نائم كما يقولون: إنه جاء فوجده نائماً فعرّفه إبليس طريقة قتله حيث جاء بطائر فوضع رأسه على حجر، ثم رضخه بحجر آخر، وقال: افعل به هكذا، أو ما يزعمون من أنه لوى عنقه، وأن إبليس علمه كيف يصنع، كل هذا الكلام لا دليل عليه - والله أعلم -.
هذا الذي عليه عامة أهل العلم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] أي في فعله ذلك، بمعنى أنه مثلاً في باب الإنفاق أنفق لوجه الله ، وأنفق من المكاسب الطيبة، وأنفق الجزل، ولم يتخير الرديء، فمن اختار الرديء، واستأثر بالجيد لنفسه فإنه لم يتق، كما قال النبي ﷺ في الرجل الذي علق عذقاً من شيص في المسجد، فقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[1]، والله يقول: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [سورة البقرة:267] فقالوا: إنه لا يكون متقياً من الحرام أي من كسب غير طيب، أو ما طابت نفسه بهذا، أو نحو ذلك.
ويمكن أن تحمل الآية على العموم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] يعني المتقين لله ؛ ولهذا جاء عن بعض السلف: لو أعلم أنه قبلت لي سجدة واحدة لم أبالِ؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] يعني من المتصفين بالتقوى، ولكن الذين قالوا: إنه في هذا العمل المعين، قالوا: قد يكون الإنسان مذنباً مسرفاً على نفسه لكنه يعمل عملاً يريد به وجه الله فيقبل ذلك منه؛ لأن الله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7-8]، وليس من شرط قبول الأعمال أن يكون الإنسان على قدر من تقوى الله في أحواله كلها فقالوا: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة:27] في عمله الذي عمله بحيث لم يكن رياء، ولا سمعة، ونحو ذلك.
- أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة - باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة (1610) (ج 2 / ص 25)، وابن ماجه في كتاب الزكاة - باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله (1821) (ج 1 / ص 583)، وحسنه الألباني في سنن أبي داود برقم (1608).