الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:28] يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ [سورة المائدة:28] أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا، وأنت سواء في الخطيئة؛ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:28] أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر، وأحتسب."

يعني ظاهر هذا الكلام لا سيما آخره "بل أصبر، وأحتسب" هو الذي يقوله عامة أهل العلم من المفسرين، وغيرهم، وهو المتبادر من ظاهر القرآن أنه ترك دفعه، بمعنى أنه لم يقابله على إرادة القتل بمدافعته، أو نحو ذلك، وفهم منه بعض أهل العلم أنه موافق لقول النبي ﷺ: كن كابن آدم[1]، وفي بعض الروايات: فليكن كخير ابني آدم[2]، أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام - لما قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إلي ليقتلني، ففهم منها بعض أهل العلم أنها تفسر هذه الآية، أي أن الأكمل للإنسان ألا يدفع عن نفسه من أراد قتله، وهذا المعنى رده كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقال: ليس هذا هو المراد، وأن ابن آدم - هابيل - على الروايات الإسرائيلية لم يترك دفعه، ويقول ابن جرير: إنهم يريدون من رواية أنه قتله، وهو نائم ليكون المراد أنه يقول له لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:28] يعني أنه لا يصدر مني ذلك ابتداء، فأنا لا أقدم على عمل مثل هذه الأعمال، وليس المراد أنه لا يرده عن نفسه، وأن هذا غير مطلوب أصلاً.
وبعضهم يقول: لعله في شرع من قبلنا، وأن حديث: كن كابن آدم قد لا يكون المراد منه هذا أصلاً، وإنما المراد به القتال في الفتنة؛ وذلك أن النبي ﷺ ذكر الفتن، فقال: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي[3] فسئل هذا السؤال[4].
كما جاء أيضاً أنه إذا خاف بريق السيف فليغط وجهه، والحاصل أنه في قتال الفتنة لا يشارك فيها بحال من الأحوال، وهي التي ورد فيها أنه يتخذ سيفاً من خشب، أو أنه يضرب بسيفه على حجر فلا يقاتل، ولا يشترك في ذلك، أما في غير الفتنة إذا جاء أحد يريد قتله فإنه لا يذعن له، وينقاد، بل يدفعه عن نفسه، فالنبي ﷺ قال: من قتل دون نفسه فهو شهيد[5]، وبعض أهل العلم فهم من حديث: من قتل دون نفسه فهو شهيد أنه ليس معناه أن يدفع عن نفسه، وهذا الفهم غير صحيح، وعلى كل حال ينبغي للمرء أن يدفع بالأسهل، بمعنى لا يكون دفعه ابتداء بالقتل، وإنما يدفع بالأسهل، فالأسهل، فإذا كان لا يمكن دفعه إلا بالقتل فإنه إن قتله، وعنده ما يثبت أن هذا جاء لقتله بحيث سطا على داره يريد قتله، أو نحو ذلك، فقتله لهذا دفعاً عن نفسه، وأنه لم يجد مندوحة من دفعه إلا بالقتل؛ فإنه لا يؤخذ به، ولا يقتص منه؛ لأن دفع الصائل إن كان لا يمكن إلا بالقتل فإنه يقتل، لكنه لا يدفع بالقتل ابتداء.
"قال عبد الله بن عمرو - ا -: "وأيم الله إن كان لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج، يعني الورع".

هذا على أساس أنه لم يدفع عن نفسه، وعلى كل حال فقول ابن جرير - رحمه الله -: إن مراده بذلك أني لن أستحل قتلك، ولا يقع مني ذلك ابتداء.
"ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل، والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[6]."

مثل ابن جرير يحمل هذا الحديث على حظوظ النفس، وأن كل واحد يريد قتل الآخر لعداوة بينهما، أو لشر، وقع بينهما، ولخصومة، وقعت بينهما، فكل واحد يريد أن يعتدي على صاحبه، وليس معناه أن أحدهما كان في مقام الدفع عن نفسه.
"وروى الإمام أحمد أن سعد بن أبي، وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله ﷺ قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إلي ليقتلني، فقال: كن كابن آدم، وكذا رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن[7]."

الجمهور يحملون هذا على أن المراد به القتال في الفتنة، وليس الدفع عن النفس، وسياقه يدل على هذا.
"وفي الباب عن أبي هريرة، وخباب بن الأرت، وأبي بكر، وابن، ومسعود، وأبي، واقد، وأبي موسى، وخرشة - ، وأرضاهم أجمعين -."
  1. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وأحمد (1609) (ج 1 / ص 185)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2431).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2049).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (6670) (ج 6 / ص 2594)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة   - باب نزول الفتن كمواقع القطر (2886) (ج 4 / ص 2211).
  4. كما سبق في سنن أبي داود كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، والترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310).
  5. أخرجه ابن عساكر عن علي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4172).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان – باب وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9] (31) (ج 1 / ص 20)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888) (ج 4 / ص 2213). 
  7. قوله –عليه الصلاة، والسلام -: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (6670) (ج 6 / ص 2594)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة - باب نزول الفتن كمواقع القطر (2886) (ج 4 / ص 2211)، وأخرجه بتمامه أبو داود في كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، والترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310). 

مرات الإستماع: 0

"لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة: 28] الآية، قيل: معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك، ثم اختُلف على هذا القول، هل تركه للدفاع عن نفسه تورعًا، وفضيلة؟ وهو الأظهر، والأشهر، وكان واجبًا عندهم أن لا يدافع أحدٌ عن نفسه، وهو قول مجاهد[1] وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه، بل يجب."

قوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة: 28] يعني مددت إليّ يدك، وبسط اليد يقال لما يكون من الضرب، والقتل، ونحو ذلك وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة: 28] قيل معناه: لئن بدأتني، لاحظ هذا الجواب على إشكال كيف يقول: أنا لن أدفع عن نفسي، أو لن أبسط إليك يدي لأقتلك، فبعضهم يقول: المقصود لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، يعني لا يعني أنه لن يدافع عن نفسه على هذا القول.

وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك هذا معنى آخر أنه لا يدفع عن نفسه، وعلى هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه كان من باب التورع؟

يقول: هذا هو الأشهر، والأظهر، أو كان واجبًا عندهم هذا غير الذي قبل، يعني هل كان تورعًا؟ أو كان واجبًا، وفي بعض النسخ الخطية، وكان واجبًا، وهذا غير صحيح، أو كان واجبًا عندهم أن لا يدافع أحدٌ عن نفسه، وهو قول مجاهد لكن هذا لا يصح عن مجاهد؛ لأن فيه راوٍ مبهم عن رجل سمع مجاهدًا، من هو الرجل؟ لا نعرف.

قال: وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه، بل يجب، هل هذا يجب؟ هذا فيه نظر، لا يلزم، وفي وقعة الحرة لما أبو سعيد الخدري دخل في غار فتبعه رجلاً من أهل الشام يريد قتله معه السيف، فلما أقبل نحوه فقال له: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة: 28] فقال: من أنت؟ قال: أبو سعيد، قال: صاحب رسول الله ﷺ ؟ قال: نعم" فهنا ذكر أن يقابله، بل لن يدافع عن نفسه أصلاً، وابن جرير - رحمه الله - ذهب إلى أنه لم يقصد ترك دفعه، وإنما لن يستحل قتله، والعدوان عليه ابتداءً[2].

لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ [المائدة: 28] يعني لن أُقدم على قتلك كما تفعل، وليس المقصود ترك المدافعة، وظاهر القرآن لا يدل على عدم المدافعة، إنما نفي الإقدام على قتله، فقد يدفعه بغير القتل بما هو دونه، لكنه يدفع عن نفسه - والله أعلم -.

إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل، والمقتول في النار هذا كل، واحد كان يريد قتل الآخر، قالوا: وهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[3] هذا في الخصومات، وليس في مقام الدفاع عن النفس، والفقهاء ذكروا في الدفاع عن النفس أنه يدفع بالأسهل، فإن لم يمكن دفع هذا إلا بالقتل قتله، ومن ترك ذلك تورعًا فلا يقال: إنه ترك واجبًا كما يقول ابن جزي، فهذا في القتال بحيث كل واحد يريد قتل الآخر، إذا التقى المسلمان بسيفهما ليس المقام دفاع هنا، وإنما كان حريصًا على قتل صاحبه ما قال: على دفع صاحبه على قتله، فكلاهما يريد قتل الآخر، فهذا الحديث في هذا المعنى، والتنزيل - والله أعلم -.

  1.  انظر: تفسير الطبري (8/329)، وتفسير البغوي (3/43)، وتفسير القرطبي (6/136).
  2.  تفسير الطبري (8/328).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9 ] برقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن، وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888).