يعني ظاهر هذا الكلام لا سيما آخره "بل أصبر، وأحتسب" هو الذي يقوله عامة أهل العلم من المفسرين، وغيرهم، وهو المتبادر من ظاهر القرآن أنه ترك دفعه، بمعنى أنه لم يقابله على إرادة القتل بمدافعته، أو نحو ذلك، وفهم منه بعض أهل العلم أنه موافق لقول النبي ﷺ: كن كابن آدم[1]، وفي بعض الروايات: فليكن كخير ابني آدم[2]، أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام - لما قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إلي ليقتلني، ففهم منها بعض أهل العلم أنها تفسر هذه الآية، أي أن الأكمل للإنسان ألا يدفع عن نفسه من أراد قتله، وهذا المعنى رده كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقال: ليس هذا هو المراد، وأن ابن آدم - هابيل - على الروايات الإسرائيلية لم يترك دفعه، ويقول ابن جرير: إنهم يريدون من رواية أنه قتله، وهو نائم ليكون المراد أنه يقول له لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:28] يعني أنه لا يصدر مني ذلك ابتداء، فأنا لا أقدم على عمل مثل هذه الأعمال، وليس المراد أنه لا يرده عن نفسه، وأن هذا غير مطلوب أصلاً.
وبعضهم يقول: لعله في شرع من قبلنا، وأن حديث: كن كابن آدم قد لا يكون المراد منه هذا أصلاً، وإنما المراد به القتال في الفتنة؛ وذلك أن النبي ﷺ ذكر الفتن، فقال: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي[3] فسئل هذا السؤال[4].
كما جاء أيضاً أنه إذا خاف بريق السيف فليغط وجهه، والحاصل أنه في قتال الفتنة لا يشارك فيها بحال من الأحوال، وهي التي ورد فيها أنه يتخذ سيفاً من خشب، أو أنه يضرب بسيفه على حجر فلا يقاتل، ولا يشترك في ذلك، أما في غير الفتنة إذا جاء أحد يريد قتله فإنه لا يذعن له، وينقاد، بل يدفعه عن نفسه، فالنبي ﷺ قال: من قتل دون نفسه فهو شهيد[5]، وبعض أهل العلم فهم من حديث: من قتل دون نفسه فهو شهيد أنه ليس معناه أن يدفع عن نفسه، وهذا الفهم غير صحيح، وعلى كل حال ينبغي للمرء أن يدفع بالأسهل، بمعنى لا يكون دفعه ابتداء بالقتل، وإنما يدفع بالأسهل، فالأسهل، فإذا كان لا يمكن دفعه إلا بالقتل فإنه إن قتله، وعنده ما يثبت أن هذا جاء لقتله بحيث سطا على داره يريد قتله، أو نحو ذلك، فقتله لهذا دفعاً عن نفسه، وأنه لم يجد مندوحة من دفعه إلا بالقتل؛ فإنه لا يؤخذ به، ولا يقتص منه؛ لأن دفع الصائل إن كان لا يمكن إلا بالقتل فإنه يقتل، لكنه لا يدفع بالقتل ابتداء.
هذا على أساس أنه لم يدفع عن نفسه، وعلى كل حال فقول ابن جرير - رحمه الله -: إن مراده بذلك أني لن أستحل قتلك، ولا يقع مني ذلك ابتداء.
مثل ابن جرير يحمل هذا الحديث على حظوظ النفس، وأن كل واحد يريد قتل الآخر لعداوة بينهما، أو لشر، وقع بينهما، ولخصومة، وقعت بينهما، فكل واحد يريد أن يعتدي على صاحبه، وليس معناه أن أحدهما كان في مقام الدفع عن نفسه.
الجمهور يحملون هذا على أن المراد به القتال في الفتنة، وليس الدفع عن النفس، وسياقه يدل على هذا.
- أخرجه الترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وأحمد (1609) (ج 1 / ص 185)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2431).
- أخرجه أبو داود في كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2049).
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (6670) (ج 6 / ص 2594)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة - باب نزول الفتن كمواقع القطر (2886) (ج 4 / ص 2211).
- كما سبق في سنن أبي داود كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، والترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310).
- أخرجه ابن عساكر عن علي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4172).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان – باب وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [سورة الحجرات:9] (31) (ج 1 / ص 20)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888) (ج 4 / ص 2213).
- قوله –عليه الصلاة، والسلام -: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (6670) (ج 6 / ص 2594)، ومسلم في كتاب الفتن، وأشراط الساعة - باب نزول الفتن كمواقع القطر (2886) (ج 4 / ص 2211)، وأخرجه بتمامه أبو داود في كتاب الفتن - باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) (ج 4 / ص 162)، والترمذي في كتاب الفتن – باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (2194) (ج 4 / ص 486)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب التثبت في الفتنة (3961) (ج 2 / ص 1310).